اليقظة ودورها في حراسة الطاعات .. أ. شريف عبد العزيز - عضو الفريق العلمي

الفريق العلمي
1441/01/09 - 2019/09/08 13:06PM

لقد اقتضت حكمة الله -عز وجل- أن يجعل هذه الدنيا مزرعة للآخرة، وميدانا للتنافس بين الذين يريدون حرث الدنيا، والذين يريدون حرث الآخرة، ولكلٍ نصيب وحظ مما أراد، فقد قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)[الملك:2]، وكان من فضله على عباده وكرمه أن يجزيهم بالإحسان إحساناً، وبالعصيان عفواً وغفراناً، وأن يضاعف الحسنات، وأن يجعل لهم مواسماً مخصوصة للتنافس في الطاعة، بعد أن ضاعف فيها الثواب، وجعلها ميداناً للمسارعة بالخيرات.

 

ومن أعظم هذه المواسم الدورية؛ شهر رمضان الذي خصه الله دون غيره بخصائص وفضائل جمة، فقد خصه بإنزال القرآن دستور الأمة وميثاقها ومصدر قوتها، وفرض فيه عبادة الصوم؛ الركن الرابع للإسلام، والعبادة التي ارتضاها وفرضها الله -عز وجل- على عباده المؤمنين على اختلاف الشرائع والرسالات والأمم، لما فيها من الثواب العظيم، والفضل العميم، وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله يضاعف لعباده الحسنات في عبادة الصوم، حين قال: "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".

 

وغير ذلك قد منّ الله -تعالى- على العباد في رمضان بالكثير من العطايا والمنن، فمن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ولله تعالى عتقاء في كل ليلة من لياليه، إلى غير ذلك من فضائله الكثيرة.

 

ولأن شهر رمضان أعظم موسم للتجارة الرابحة مع الله، فإن خصوم المؤمنين من شياطين الإنس والجن لا يألون جهداً في إفشال هذه التجارة وإكساد بضاعة المؤمنين من الطاعات والقربات حتى يفوت الموسم وينقضي السوق بلا أرباح. فقد وقد روى الإمام أحمد -رحمه الله- بسند صححه الشيخ أحمد شاكر وضعفه الشيخ الألباني أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "بمحلوف رسول الله ما أتى على المؤمنين شهر خير لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان، وذلك لما يعده المؤمنون فيه من القوة للعبادة، وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم، هو غنم للمؤمن يغتنمه الفاجر".

 

فللمؤمن سوق وغرض، وللمنافق غرض آخر يضاد ويتقاطع مع غرض المؤمن.

 

وكثير من الناس يغفل عن حقيقة غاية في الأهمية في شهر رمضان، ألا وهي وعدم مفارقة شيطان كل واحد منا لصاحبه إلا بالموت، فمردة الشياطين وحدها هي التي تسلسل، أما الشيطان الموكل بكل واحد منا لا يفارقه ولا ينقطع عن الوسوسة والغواية في رمضان وغيره إلا بالموت.

 

وأسلوب الشيطان في غواية الإنسان في رمضان يختلف عن أسلوبه في باقي العام، فمداخل الشيطان كثيرة، والملعون قد يفتح مائة باب للطاعة من أجل أن يكون الباب مائة واحد طريقاً إلى النار، والتدرج أحد أهم استراتيجيات الشيطان مع الإنسان، وفي قصة برصيصا العابد خير دليل على خطوات الشيطان وتدرجه مع الإنسان.

 

والشيطان لا يمل من غواية الإنسان، ويقف له على ناصية كل طريق للخير، يعده ويمنيه ويخوفه ويزين له الباطل حتى يقعد وينتهي عن طريق الخير.  فقد أخرج البخاري في التاريخ الكبير، والنسائي في السنن من حديث سبره بن أبي فاكه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟! فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول؟! فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال، فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة، ويقسم المال؟! فعصاه فجاهد... ".

 

ومن أهم أساليب الشيطان في رمضان على وجه الخصوص، أسلوب إفساد الطاعة، وذلك بطرق كثيرة، فالشيطان يعلم أن أجواء العبادة الجماعية في رمضان ستعطي دفعات قوية للمؤمنين من أجل العمل والطاعة وبذل المجهود، لذلك فهو يجعل جلّ تركيزه في إفساد الطاعة وإهدار مكتسباتها وتضييع ثوابها على المؤمن، وذلك بتفريغ العبادة والطاعة من مضمونها، وقتل روحها، وتبوير ثمراتها، وتحويلها إلى عدة من العادات، والاعتياد من أهم أسباب فقدان حرارة الإيمان وأثر الطاعات، وهذا من أخبث أساليب الشيطان في إضلال الإنسان.

 

فالصوم يتحول إلى جوع وعطش، والقيام يتحول إلى تعب وسهر، والذكر يتحول إلى تمتمات وهذرمات، والصدقة تتحول إلى مراءة، وإطعام الطعام يتحول إلى فخر ومباهاة، والدعاء يتحول إلى سجع كهان، وهكذا يضيع الشهر وينتهي دون تحصيل ثمرة " التقوى " التي هي روح الشعيرة وغايتها.

 

أما الجوارح فقل عليها السلام، فاللسان لا يكف عن الغيبة والنميمة والكذب والسخرية واللغو، والعين لا تكف عن سهامها الجارحة إلى المحرمات، والأذن مشغولة بسماع الأغاني والمسلسلات، وهكذا تضيع الطاعات بعدما فقدت حارسها الأمين، والمتيقظ لحمايتها.

 

ومن ثم كان من أهم أولويات الدعاة والخطباء توجيه الناس للحذر من أساليب الشيطان في رمضان، خاصة هذا الأسلوب، ووضع روشته انقاذ للطاعات وحراسة للعبادات في رمضان، والتي جماعها في كلمة واحدة إلا وهي "اليقظة".

 

مقام "اليقظة" من أهم المقامات الإيمانية التي يحتاجها المؤمن خلال حياته عامة، وفي مواسم الطاعة والمغفرة خاصة.  فما هو مقام " اليقظة " وما هو دوره في صيانة العبادات وحراسة الطاعات في شهر رمضان، وكيف يكون الإنسان متيقظاً من حبائل الشيطان وأساليبه الملتوية والخفية.

 

اليقظة لغة واصطلاحاً

اليقظة في اللغة مشتقة من الانتباه والاستفاقة من الغفلة، والفعل (الثّلاثي) من ذلك: يقظ كعلم والمصدر يقظا ويقظة، والوصف: يقظ ويقظان وكلاهما مستعمل في اللغة، قال تعالى (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظَاً وَهُمْ رُقُودٌ)[ الكهف: 18] ورجل يقظ بمعنى حذر.

 

أما اليقظة في الاصطلاح: فهي كما عرفها شيخ الإسلام الهروي وتابعه شارح كتابه الإمام ابن القيم: "انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين".

 

وعرفها "الكفوي" في الكليات بقوله: كمال التّنبّه والتّحرّز عمّا لا ينبغي.

 

أهمية اليقظة في حياة المؤمنين

اليقظة من تعريفها السابق هي أول منازل السائرين، وبداية الالتفات إلى الاتجاه الصحيح وسلوك الطريق القويم، ولو كانت الغفلة هي سيف الشيطان الذي يضرب به الإنسان، فإن اليقظة هي ترسه وجنته ودرعه الذي يحتمي به من صولات الشيطان.

 

قال ابن القيم في مدارج السالكين: " اليقظة: أوّل منازل العبوديّة، وهي انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين، وللّه ما أنفع هذه الرّوعة، وما أعظم قدرها وخطرها، وما أقوى إعانتها على السّلوك، فمن أحسّ بها فقد أحسّ واللّه بالفلاح، وإلّا فهو في سكرات الغفلة، فإذا انتبه وتيقّظ شمّر بهمّته إلى السّفر إلى منازله الأولى، فأخذ في أهبة السّفر، فانتقل إلى منزلة العزم، وهو العقد الجازم على الشّيء، ومفارقة كلّ قاطع ومعوّق، ومرافقة كلّ معين وموصّل، وبحسب كمال انتباهه ويقظته تكون عزيمته، وبحسب قوّة عزمه يكون استعداده، فإذا استيقظ أوجبت اليقظة الفكرة وهي تحديق القلب نحو المطلوب الّذي قد استعدّ له مجملا، ولم يهتد إلى تفصيله وطريق الوصول إليه، فإذا صحّت فكرته أوجبت له البصيرة، وهي نور في القلب يرى به حقيقة الوعد والوعيد، والجنّة والنّار، وما أعدّ اللّه في هذه لأوليائه، وفي هذه لأعدائه. ..".

 

شروط اليقظة

اليقظة ليست مجرد حالة تنتاب الإنسان في لحظة من لحظات حياته أو في موقف عارض كان فيه أمام اختبار جديّ، فنجا منه بفضل يقظته – كما هو الرجل الذي تعفف عن الزنا بعد أن كان على وشك الوقوع فيه في حديث الثلاثة الذين انطبقت على الصخرة في الغار – ولكن اليقظة هي زاد المسير وعدة السالك وجنّة المستوحش ودرع المصارع.  لذلك فهي لا تنال إلا بالتزام شروط، وانتفاء موانع، حتى يتحقق للعبد معنى الاستيقاظ والحذر في حياته، من أهمها:

1 – شهود المنّة: بمعني أن يستشعر العبد بمنن الله عليه، ونعمه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، لأن الغفلة وكثرة التمادي في الآلام والأحزان تنسي العبد الموجود، وتجعله يتحسر على المفقود، والعبد لا يدرك شهود المنّة عليه إلا إذا تنور عقله بالوحي، وأشرقت نفسه بمعانيه، عندها يكون المنع عين العطاء، فالذي يمنع ويعطي هو الله –سبحانه-، وهو لا يمنع النعم عن بعض عباده عن بخل أو عجز أو قلة أو جهل -تعالى الله الغني العليم الكريم القدير- ولكن يمنعهم لحكمة ولطف خفي وعلم محيط، وقدر قديم.  أيضا مما يعين على شهود المنّة، مطالعة أحوال أهل الابتلاء، كما قال عليه الصلاة والسلام "وانظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا لمن هو فوقكم وذلك حري ألا تزدروا نعم الله عليكم" فالنظر إلى المحرومين من نعم كثيرة يرفل فيها العبد أحرى له بشهودها وشكرها.

 

2 – الاعتراف بالتقصير: وهو مترتب على الشرط السابق، فإن من لاحظ المنّة وأقر بها وشهد للمنعم بها، وشكره عليها، فلابد أن يقر بتقصيره، وعظم جنايته بحق من خلقه، وشق سمعه وبصره، وسخر له من في السموات ومن في الأرض، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، عندها يدرك ويعي العبد معنى قوله -عز وجل-؛ (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ  إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ  وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ)؛ فأنت فقير لولا مدد الغني -سبحانه وتعالى-، وأنت ذليل لولا مدد العزيز -سبحانه وتعالى-، وأنت ضعيف لولا مدد القوي -سبحانه وتعالى-، وأنت مفضوح لولا ستر الستار -سبحانه وتعالى-، ولما تعرف هذا تكون فعلاً بدأت تطالع جرمك في حق الله -سبحانه وتعالى-.  

 

ومن طالع جنايته واعترف بتقصيره بعد شهود منته ونعمته سبحانه، رسخ في قلبه اليقين بوعده ووعيده، وما أعده للعباد يوم التناد.  قال ابن القيم في الداء والدواء: "لم يُـقدر الله حق قدره، من هان عليه أمره فتركه، وهان عليه نهيه فارتكبه، وهان عليه حقه فضيعه، وهان عليه ذكره فأهمله، وكان هواه آثر عنده من الله، وطاعة العبيد أحب إلى قلبه من الحميد المجيد، يستحي من الناس ولا يستحيي من الله، ويخشى الناس والله أحق أن يخشاه، إذا قام في خدمة العبيد، قام بالجد والتشمير والاجتهاد وإذا قام في خدمة ملك الملوك قام بالفتور والكسل والتناد".

 

3 – متابعة أحوال القلب: فهو معقد الأمور، ورمانة الميزان، وملك الأعضاء، المطاع بلا عصيان، في إحسان ونكران، وهو وعاء الإيمان، ومعرفة أحوال القلب، وزيادة الإيمان فيه ونقصانه من معينات التيقظ والانتباه، فشهود القلب عند الطاعات، والتدبر في غاية العبادات، فالصيام للتقوى، والزكاة لتطهير القلوب، والصدقة للتخلص من الشح، والدعاء للافتقار، والذكر للتعظيم، والصلاة للخشوع، والقرآن للارتقاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للإصلاح، والجهاد لتكون كلمة الله هي العليا، والدعوة لتبليغ الدين، والحج لتعظيم شعائر الله، وهكذا في سائر العبادات والطاعات، لكل واحدة سر وغاية وثمرة.

 

وأخيراً فملاك اليقظة في رمضان وغيره في "خلع العادات" العادات هي كثرة الكلام، وكثرة الطعام، وكثرة المنام، وكثرة الأنام، هذه الأربعة هم العادات، والناس ضائعة فيها، و لو استطعت أن تهجر هذه الأربعة في شهر رمضان فتقللت من الأكل  والكلام والأنام (المخالطة مع الناس) فإن هذا سيجعلك متيقظاً على الدوام طوال الشهر العظيم.

المشاهدات 526 | التعليقات 0