الوقت ونهاية العام
عبدالرحمن السحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا عزّ إلا في طاعته، ولا سعادة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في ذكره، الذي إذا أُطيع شَكر، وإذا عُصي تاب وغفر، والذي إذا دُعي أجاب، وإذا استُعيذَ به أعاذ. أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا مزيدا. أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللَّهَ –عباد الله- حَقَّ التَّقْوَى، فَأَعْمَارُكُمْ تَمْضِي، وَآجَالُكُمْ تَدْنُو (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
أيها المسلمون: في طلوعِ الشمسِ وغروبِها إيذانٌ بأن هذه الدنيا شروقٌ ثم أُفول، أيامٌ تُزول، وأجيالٌ تتعاقَبُ على دربِ الآخرة، هذا مُقبلٌ وذاك مُدبِر، وهذا شقيٌّ وآخرُ سعيد، والكلُّ إلى الله يسير، والزمانُ وتقلُّباته أبلغُ الواعِظين، والدهرُ بقوارِعه أفصحُ المُتكلِّمين، ولئن طالَت الحياةُ بأحزانها، أو مضَت بأفراحها فغايتُها الفناء، والناسُ يعيشون في آخر مراحل الدنيا.
نظرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الشمسِ عند غروبِها فقال: "لم يبقَ من دُنياكم فيما مضى منها إلا كما بقِيَ من يومكم هذا فيما مضَى منه". رواه أحمد.
والوقتُ ثمينٌ بلحَظاته، ويزيدُ نفاسةً إذا لم يبقَ منه سوى اليسير، واللهُ أقسمَ به فقال: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر: 1، 2]، ومن الناسِ من كتبَ الله له فُسحةً في العُمر، ومنهم من يخطَفُه الأجلُ سريعًا، وخيرُ الناس من عاشَ في لحَظاتها ليرتقِيَ بها إلى آخرته. وخير الناس من طالَ عُمره وحسُن عملُه كما جاء في الحديث.
والناسُ في حياتهم منهم من قصرَها على معاشِه دون معادِه، ومنهم من عمرَ آخرتَه فيها فأدَّى ما أمرَ الله به واجتنبَ ما نهاه عنه، ومنهم من خلَطَ عملاً صالحًا بآخر سيئ من غفلةٍ واتباعِ هوى؛ قال -عليه الصلاة والسلام-:"كلُّ الناسِ يغدُو؛ فبائعٌ نفسَه فمُعتِقُها أو مُوبِقُها". رواه مسلم.
والله -عز وجل- أقسمَ أحدَ عشر قسمًا بأن المُفلِح هو من زكَّى نفسَه، وأن الخاسرَ من أوقعَها في المعاصي؛ فقال: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس: 1- 10].
والحياةُ مليئةٌ بالمِحَن والفِتن، وقد يكبُو المرءُ في زلاَّتها من حيث لا يشعُر، ومن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "واجعَل الحياةَ زيادةً لي في كل خيرٍ، واجعَل الموتَ راحةً لي من كلِّ شرٍّ". رواه مسلم.
وكلما دنَت الحياةُ من الزَّوَالِ لاحَت فتِنُها وظهَرَت شُرُورُها؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "وإن أمتَكم هذه جُعِل عافيتُها في أولِها، وسيُصيبُ آخرَها بلاءٌ وأمورٌ تُنكِرونها". رواه مسلم.
ويزدادُ البلاءُ عامًا بعد عام؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يأتي عليكم زمانٌ إلا والذي بعده شرٌّ منه". رواه البخاري.
وإذا ابتعَدَ الناسُ عن الله ولم يمتثِلوا أوامرَه ووقعُوا في نواهيه اضطرَبَت أحوالُهم ومعايِشُهم؛ إذ الذنوبُ مُذهِبَةٌ للنِّعَم؛ قال -عز وجل-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)
وإذا جاهَرَ العبادُ بالمعاصي عظُمَ خطرُها وأذِن الربُّ بالعقوبةِ بسببِها؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "كلُّ أمتي مُعافَى إلا المُجاهِرين". رواه البخاري.
وأعظمُ بُعدٍ عن الله: الإعراض عن تحقيق التوحيد، وإضاعة الصلاة، وظلم النفس بالعصيان، وظلم الخلق بتضييع حقوقهم.
ومن الفتنِ: تقديمُ العقلِ والهوى في النَّوازِلِ وغيرها، ونبذُ الكتاب والسنةِ لتحقيق الأعمال والآمال؛ وما من نازلةٍ إلا ولها أصلٌ في الكتاب والسنة؛ قال سبحانه: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام: 38].
ولن يُصلِحَ هذه الأمةَ بما حلَّ بها إلا برجوعِها إلى ربِّها؛ قال سبحانه: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا)
ومن لزمَ الاستغفارَ جعل الله له من كل همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرَجًا، ومن كل بلاءٍ عافية، وإذا ألمَّت بالناسِ مُصيبةٌ عليهم أن يُراجِعوا أنفسَهم: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11].
والحاذِقُ لا ينظرُ إلى كثرةِ المُذنِبين؛ فإن اصطفاءَ الله لك بالسلامةِ من المعاصِي يُوجِبُ عليك التمسُّك بهذه النعمة؛ إذ أضلَّ غيرَك وهداكَ.
وعلى المرءِ أن يُحاسِبَ نفسَه في كلِّ حينٍ: ماذا قدَّمَ لآخرته، وماذا عمِلَ لرِضَا الرحمن عنه، ليسألَ نفسَه عن فرائض الإسلام وعن أدائها، وعن حقوق المخلوقين والتخلُّص منها، وعن مالِه كيف جمعَه وفيمَ أنفقَه؟!
خطبَ أبو بكرٍ -رضي الله عنه- فقال: "إنكم تغدُون وتروحون إلى أجلٍ قد غُيِّبَ عنكم علمُه، فإذا استطعتُم أن لا يمضِيَ هذا الأجلُ إلا وأنتم في عملٍ صالحٍ فافعلوا".
وليست الغِبطةُ بكثرةِ السنين والنِّعَم، إنما الغِبطةُ بالشكر وكثرة العمل الصالح والإخلاص؛ فعُمر الإنسان عملُه؛ قيل لنوحٍ -عليه السلام- وقد لبِثَ في قومه ألفَ سنةٍ إلا خمسين عامًا-: كيف رأيتَ هذه الدنيا؟! فقال: "كداخلٍ من بابٍ وخارجٍ من آخر".
فاحذروا الدنيا وتقلُّباتها؛ فجمعُها عناء، ونعيمُها ابتلاء، واغتنِموا ما بقِيَ لكم من النعمِ الخمس: الشبابَ قبل الهرَم، والصحةَ قبل المرض، والغِنَى قبل الفقر، والفراغَ قبل الشُّغل، والحياةَ قبل الموت.
والمُحاسبةُ الصادقةُ ما أورثَت عملاً صالحًا، وتحوُّلاً عن معصية، وإنّ من غفلَ عن نفسه تصرَّمَت أوقاتُه واشتدَّت عليه حسَراته؛ فاستدرِكوا ما فاتَ بما بقِي، ومن أصلحَ ما بقِيَ غُفِر له ما مضى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية: الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا. أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حقَّ التقوى؛ فالتقوى هي النجاةُ غدًا والزادُ أبدًا.
أيها المسلمون: المُحسِنُ من كان يومُه خيرًا من أمسِه، وغدُه خيرًا من يومه، وسنته الجديدة خيرًا من سنته الماضية، واغتنَمَ الحياةَ بما يُقرِّبُه إلى مولاه، وشغلَها بالطاعات، ونأَى بها عن السيئات، واتَّعَظَ بما فيها من تقلُّبات الأمور والأحوال، وكان حذِرًا من الاغتِرار بالسلامةِ والإمهالِ والآمال؛ فما أساءَ أحدٌ العملَ إلا من التسويفِ وطولِ الأمل.
ومن أصلَح ما بينه وبين ربِّه كفاه ما بينه وبين الناس، ومن صدقَ في سريرته حسُنَت علانيتُه، والعبدُ إذا أنابَ إلى الله مما اجترحَ من السيئات والتمسَ عفوَه ورِضاه، وطمِع في واسع رحمته وعطاياه؛ أعطاه الربُّ بإذنه فوقَ ما يتمنَّاه.
عباد الله.. إذا كان تجارُ الدنيا يُحصُونَ ما حَصَّلوا في عامهم وما غرموا، فإنَّ الذي ينبغي لتاجرِ الآخرة -التي هي أعظمُ وخيرٌ وأبقى- أن يُحاسِبَ نفسَه على ما مضى من عامه، ويجددَ النشاطَ ويُوْثِقَ الرِّبَاط لما يَسْتَقْبِلُ من قادمِ أيامه، ويُحدث له ربه توبة صادقة في كل حين.
إنَّ المؤمنَ يتذكرُ بتجدد الأعوام والسنين، مَن كان معه من أهلٍ وصحبٍ قد انفردوا في القبور بأعمالهم مرتهنين، لا يملك الواحد منهم زيادةَ حسنةٍ ولا نقصَ سيئة، ويعلم علم اليقين أن هذا سيكون له عاجلًا أو آجلًا، فيَنْتِهِزُ الفُرصةَ بالعمل الصالح حتى لا يُغْبَنَ.
طوبى لعبدٍ اعتبرَ بِمَرِّ الأيام والليالي، وتذكَّر بإعقابِ الليلِ: النهار، واتَّعَظَ بما فيها من تقلبات الأمور والأحوال، طوبى لعبدٍ استدلَّ بتقلباتها على ما لله فيها من الحكم البالغة والأسرار، فأحدث له هذا إقبالًا على مرضاة الله.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: (يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين. اللهم فرِّج همَّ المهمومين ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، اللهم آمنا في أوطاننا، واصلح أئمتنا وولاة أمورنا،واجعل عملهم في رضاك.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار..
عباد الله! اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
1689261488_الوقت ونهاية العام.doc
1689261491_الوقت ونهاية العام.pdf