الوقت هو الحياة
محمد بن خالد الخضير
1433/07/17 - 2012/06/07 15:36PM
الخطبة الأولى
ان الْحَمْد لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ :
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ"
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا "
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا " أَمَّا بَعْدُ :
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ـ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضلالة و كل ضلالة في النار
عباد الله
الوقتُ مادّة الحياة، والزّمنُ وِعاء الأعمار، والأوقات خزائنُ الذّخائر، والأعمال الصالحة هي أعلَى ذخائر، والوقتُ أغلى ما عُنِي الإنسانُ بحفظه، وتصرُّم الزمان أعظمُ واعظ، وانقضاء الأيّام قِصَر في الأعمار، والعُمر أثمنُ بضاعة، والحسرةُ والخَسار لمن قصَّر فيه وأضاعَه، ومِن علامات المقتِ إضاعةُ الوقت، ومَن حفِظ وقتَه فقد حفِظ عمرَه، وإذا أحبّ الله عبدَه بارك له في عُمره ووفَّقه لحُسن عِمارة وقته، والخيرُ والتّوفيق في بركة العمر، لا في طولِه ولا في قصَره، فكم مِن إنسانٍ أمّل الحياةَ وطولَ البقاء فعاشَ إلى زمنٍ بكت فيه عيناه وتقرَّح فيه قلبُه ورأى من شدائدِ الفتَن وصروفِ المحَن ما لا يكادُ يُطاق، والأقدارُ مغيَّبة، والليالي من الزمانِ حُبالى، وكما يعوذُ المسلم بربِّه من فتنة الممات فإنّه يعوذ به من فتنةِ المحيا.
يا عباد الله، الوقتُ كالسيف، وكم لهذا السّيف من ضحايا وصرعَى، تراهم في الأسواق يتسكَّعون وأمامَ الشاشات متسمِّرون وبين يدَي شبكاتِ المعلومات مستَسلمون، كم ندِم المفرِّطون، وكم تحسَّر المقصِّرون، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100].
فمن أصحَّ الله له بدَنه وفرَّغ له وقتَه ولم يسعَ لصلاحِ نفسِه فهو المغبون، بذلِك أخبر الصادِق المصدوق حين قال: ((نِعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحّةُ والفراغ))[1]. وحين يحُلّ المرض وتشتدّ العلّة تنكمِش الأعوام حتى كأنها لحظاتُ برقٍ وامض.
أيها المسلمون، تتقَلّب أحوال الإنسان في هذه الدنيا بين صحّة ومرض وشُغل وفراغ وتعب واسْتِرْوَاح وجِدّ وفُتُور، ومع هبوب رياح الصيف وحلول مواسم الإجازات ، وتوافُقُ كثير من الناس على أخذ إجازاتهم السنوية في فصل الصيف،
وانطلاقًا من واقعية الإسلام وشموليّته وتوازن أحكامه واعتدال تشريعاته فقد أقَرّ بحق النفس والبدن في أخذ نصيبهما من الراحة والاستجمام، وقد قال النبي : ((إن لبدنك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًّا، وإن لِزَوْرِك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حقٍّ حقَّه)) رواه البخاري ومسلم
والنفس قد تَسْأم من طول الجدّ، والقلوب تتعب كالبدن، وقد قال علي : (رَوّحوا القلوب ساعة وساعة؛ فإن القلب إذا أُكرِه عمي).
إلا أن هذا الترويح لا يخرج عن دائرة المباح، وقد ثبت أن النبي كان يُمازِحُ ويُداعِبُ ولا يقول إلا حقًّا[، وقد سابق عائشة رضي الله عنها، وداعَبَ الصبيان، وحثّ على مُلاعَبة الزوجة، وأقَرَّ الحَبَشَةَ في لعبهم بالحِرَاب، وقال: ((ارموا بني إسماعيل؛ فإن أباكم كان راميًا)). وهذه بعض الجوانب المباحة من اللهو المباح والترفيه الذي لا يستهلك كلَّ الوقت، ولا يكون دَيْدَنَ الإنسان، ولا يخرج عن طَوْقِ المباح. إنّ إدخال السرور على النفس والتنفيس عنها وتجديد نشاطها من الأمور المعتبرة في الشرع. واللهو المباح في الإسلام هو ما لا يخالف قواعده ولا شريعته، فلا يكون محرّمًا أو ذريعة لمحرّم، ولا يصدّ عن واجب.
عباد الله، وإذا كانت الإجازات أمرًا واقعًا فإن المسلم الواعي لا ينبغي أن يغفل عن أمرين مهمّين:
الأول منهما: أن وقت الإجازة جزء من عمره، وأن الوقت هو الحياة، والإجازة لا تعني الفراغ والبَطَالة، ومُؤدّى ذلك هو الأمر الثاني:
أن التكاليف الشرعية لم تسقط عنه، فالإنسان مطالب باستفراغ وقته كله في عبادة الله تعالى، وهي الغاية التي خُلِقَ لها: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذرايات:56]. ولا يعني هذا ملء جميع الأوقات بالصلاة والصيام بلا فُتُور ولا توقّف، بل المقصود أنه لا يخرج عن طاعة ربه في أي حال من الأحوال، ولا يخرج عن تكليف، فهو مأمور ومَنْهِيّ، ولا يوجد وقت يكون فيه خارجًا عن التكليف يتصرف كيف يشاء، فهو دائر بين الواجبات والسُّنن والمباحات، وهو في أقلّ الأحوال مُكَلَّف بالابتعاد عن منطقة الحرام .
إن الإجازة ليست وقتًا مُقْتَطَعًا على هامش الحياة، بل هي جزء من العمر الذي لا يملكه الإنسان، بل يملكه الله الذي خلقه ليوظّفه الإنسان في طاعة مولاه؛ لذلك حَرُم عليه أن يُهلِك عمره ووقته بأي صورة ولأي سبب، وقد قال الحق سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [النساء:29، 30]، مع أن المُنتحِر لم يقتل سوى عمره ووقته، وهذا يفسّر مسؤولية الإنسان عن عمره أمام خالقه، كما في الحديث الذي رواه الترمذي بسند صحيح أن النبي قال: ((لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه))[. والأسفار جزء من الأعمار، وكلٌّ مسؤول ومحاسَب عن ساعات عمره فيما أمضاها، وبناء عليه ندرك أن المفهوم الشرعي للوقت لا يجعل للإنسان الحق في إضاعة وقته، وندرك أيضًا عظمة الوقت بإقسام الله تعالى به وبأجزائه: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
وحين أقسم الله تعالى بالليل إذا يَغْشَى، والنهار إذا تَجَلّى، ونَوْعَي الخلق من الذكر والأنثى قال: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ، وحين أقسم بالشمس وضُحَاها، والقمر والنهار والليل والنّفْس قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ، في إشارة من هذه الآيات إلى أن الوقت مادة الحياة، وأن سعي الناس فيها مختلف، فمنهم من يُزكّي نفسه ويُنَمّيها بالخير، ومنهم من يُهْبِطُها في أسفل الدّرَكات بتفريطه وعصيانه.
أيها المسلمون، إن العاقل من تفكّر في أمره، ورأى أن تصرّم أيامه مؤذن بقرب رحيله طال عمره أم قصر، فاحتاط لأمره، واجتهد في يومه، واستعد لغده. ما الوقت إلا حياة الإنسان وعمره الذي هو أنفاس تتردّد، وآماله التي تضيع إن لم تتحدّد، الوقت ثمين ونفيس، وما مضى منه فلن يعود، ولا الزمان بما مضى منه يجود. فهلاّ تنبّهنا لأعمارنا، فكم من غافل يبيع أغلى ما يملك وهو الوقت بأبخس الأثمان! فالوقت مُنْصرِمٌ بنفسه، مُنقضٍ بذاته، ومن غفل عن تداركه تَصَرّمت أيامه وأوقاته، وعظُمَت حسراته، ينقضي العمر بما فيه فلا يعود إلا أثره، فاختر لنفسك ما يعود عليك، ولهذا يقال للسعداء: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ، ويقال للأشقياء المعذّبين: ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا .
وللإنسان يومان يندم فيهما على ما ضَيّع من أوقاته، ويطلب الإمهال: فالأول في ساعة الاحتضار، وذلك حين يقول: رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ ، فيكون الجواب: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا . والوقت الثاني والموقف الثاني في الآخرة حين يدخل أهلُ النارِ النارَ: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، فيكون الجواب: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ .
بارك الله لي ولكم في الكتابِ والسنّة، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروا اللهَ إنّه كان غفّارً
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله، إن عِظَم المسؤولية عن الأبناء والبنات أمر لا يصح الغفلة عنه أو التفريط فيه في كل حين، وإنّ على من يسمع قول نبي الله صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، فكلكم راع ومسؤول عن رعيته))[1]. إن على من يسمع هذا البيان النبوي الكريم أن لا يُغْمِض الأجفان عن هذه المسؤولية المترتبة عليه في حق من استرعاه الله أمره من أولاده، فليست الإجازة سببًا يُسَوِّغ التفريط أو غضّ الطرف عن ما لا يجوز من أعمال وما لا يصح من سلوك بحجة الترفيه والتسلية وإرسال النفس على سَجِيّتها تفعل ما تشاء، وتذر ما تشاء، وإنما هي سبب يُقَوِّي جانب الرعاية، ويؤكد واجب العناية، ويتضح به شدة الحاجة إلى دوام التعهد واستمرار الرقابة الحكيمة الواعية الناشئة عن كثرة المخالطة واتصال السؤال ومتابعة الأحوال؛ لتنوّع الأخطار وجِدّية التهديد، مع سهولة التعرّض لها ويُسْر الاصطلاء بنارها.
فاتقوا الله عباد الله، وليكن لكم في الموفّقين من عباد الله خيرُ قدوة في السير على نهجهم شكرًا لله على النعم التي أنعم الله بها عليكم، ودفعًا للنقم عنكم، وقيامًا بالمسؤولية التي وُسِّدَت إليكم.
هذا، وصلّوا وسلِّموا على الرّحمة المهداة والنّعمة المسداة نبيِّكم محمّد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم جلّ في علاه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
المشاهدات 6989 | التعليقات 2
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
أبو اليسر
بارك الله فيك ونفع بما كتبت
تعديل التعليق