الوقت بين الضياع والاغتنام 9-10-1442
محمد آل مداوي
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.. أما بعد:
فاتَّقوا الله عبادَ الله.. مَنْ عَرَفَ اللهَ أعطاهُ حقَّه، ومَنْ أحبَّ رسولَ اللهِ r لَزِمَ سنَّته، ومَن أرادَ الجنةَ عَمِلَ لها، ومَن خافَ النارَ هَرَبَ منها، ومَن أيقنَ بالموتِ استعدَّ له.
أيها المسلمون: اللهُ عزَّ وجلَّ يُقلِّبُ حالَ الزمانِ بينَ ليلٍ ونهار، وظُلْمَةٍ وإِشْراقٍ؛ لإيقاظِ القلوبِ، وبَعْثِها إلى عِمَارةِ الكونِ، وعِبَادةِ الله، قال جلَّ شأنُه: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)
ولِشَرَفِ الوقْتِ أقسَمَ اللهُ بأجزائِه، بل أقسَمَ بالزَّمَنِ كُلِّه لَيلِه ونهارِه، فقال: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى)
ونبيُّنا r كانت حياتُه كلُّها لله: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
واغتنَمَ الصحابةُ زمانَهم، وأخبرَ اللهُ بشيءٍ من أعمالهم، فقال سبحانه: (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)
قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: "ما نَدِمتُ على شيءٍ ندَمي على يومٍ غَرَبَت شمسُه، نَقَصَ فيهِ أَجَلي، ولم يزدَدْ فيه عملي".
وكان السلفُ -رحمهم الله- يغتنِمُونَ لحظاتِ أعمارِهم، فعَمَروا زمانَهم بما يُرضِي ربَّهم، قال الحسنُ البصريُّ رحمه الله: "أدركتُ أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشدَّ منكم حِرصًا على دراهِمِكم ودنانيرِكم".
وفي الحديث: "لا تزولُ قَدَمُ عَبْدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسْألَ عن أربع -ومنها-: عن عُمُرهِ فيما أفناه..."، هذا العمرُ بأيامِه وشُهورِه وأعوامِه؛ ستُسألُ عنه يومَ القيامة: في أيِّ شيءٍ قضَيْتَه، وبأيِّ عمَلٍ أفنيتَه.. (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
والأيامُ معدودةٌ؛ إنْ ذهَبَ يومٌ نقَصَ عُمُرُك، وذهابُ البَعضِ أمَارةٌ على ذهابِ الكلِّ، والرابِحُ مَن اغتنَمَ زمانَه بما ينفعُه، والمغبونُ مَن فرَّطَ فيه، قال عليه الصلاة والسلام: "نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ مِنَ الناس: الصحةُ والفراغ" رواه البخاري.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه الله: "إضاعةُ الوقتِ أشدُّ مِنَ الموت؛ لأنَّ إضاعةَ الوقتِ تَقطَعُ عنِ اللهِ والدارِ الآخرة، والموتُ يقطعُكَ عنِ الدُّنيا وأهلِها".
ومَنْ أضاعَ وقتَهُ تحسَّرَ على كلِّ لحظةٍ منه، والحاذِقُ مَنْ يَشْغَلُ وقتَه بما يُرضِي ربَّه، وإذا فَرَغَ مِنْ عَمَلٍ قامَ بآخر، قال سبحانه: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) قال ابنُ كثيرٍ رحمه الله: "أي: إذا فَرَغْتَ مِنْ أمورِ الدنيا وأشغالِها، وقطعتَ علائِقَها، فانصَبْ إلى العبادةِ وقُم إليها نشيطًا فارِغَ البال، وأَخْلِصْ لربِّك النيَّةَ والرَّغبةَ".
وبعدُ: أيها المسلمون: فالمؤمنُ يبتعِدُ عنِ الخطيئات، ويتزوَّدُ مِنَ الصالِحات، ويغتنِمُ أوقاتَهُ فيما شَرَعَهُ الله، ولئن كان العملُ مَجْهَدَةً فإنَّ الفراغَ مَفْسَدةٌ، ونفسُكَ إنْ لم تَشْغَلها بالحقِّ شغلَتْكَ بالباطل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.. أما بعد:
فاتّقوا الله عبادَ الله، اتَّقوهُ في أوقاتِكم وأعمَارِكم، واتَّقوهُ في ذُريَّاتكم؛ أنْ تضيعَ أعمارُهم فيما لا ينفعهم، ونُعِيذُهم وأنفسَنا باللهِ: أنْ تضيعَ أعمارُهم فيما يَضُرُّهم؛ فإنَّ صلاحَ الوَلَدِ؛ أعظمُ ذَخيرة، وأجلُّ غنيمة، والأدبُ وسيلةٌ إلى كلِّ فضيلة، فبادِروا إلى تأديبِ أبنائكم، ورِعايةِ أولادِكم، وصَوْنِهم عن القبائِحِ والرَّذائِل، وشَغْلِهم بما يَنفعُهم في دينِهم ودُنياهم، وائذَنوا لهم باللَّعِبِ المُباح، واللَّهوِ المشروع، وأحْسِنوا مُصاحبَتَهم، وأدِيموا مُراقبَتَهم، واحذَروا التَّوانِيَ والتَّراخِي، وعامِلُوهم بالعَطْفِ واللُّطفِ، والرحمةِ والشَّفقَةِ والإحسانِ.
قَدِّموا الباقيةَ على الفانِية، في هِمَمٍ عالية، لعلكم تَلْحَقونَ بمن عَنَاهُمُ اللهُ بقوله: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)
ثم صلوا وسلموا على رسولِ الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم فقال قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائِه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ r، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئناً سخاءً رخاءً وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وأعنه وولي عهده على ما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، وهيئ لهم البطانة الناصحة الصالحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه يا رب العالمين.
اللهم احفظ جنودنا المرابطين على الثغور، اللهم قوِّ عزائمهم وسدد سهامهم، واكبت أعداءهم، وانصرهم على القوم الباغين يا رب العالمين.
اللهم عُمَّ بالأمن والرخاء والاستقرار جميعَ أوطان المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.. اللهم احفظ إخواننا في فلسطين، اللهم عجّل لهم بالنصر والفرج، اللهم احقِن دماءَهم، واستُر عوراتهم، وآمِن روعاتهم، اللهم عليك باليهود الغاصبين، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرك، يا قوي يا عزيز.
اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، وارحم موتانا، وانصرنا على من عادانا.
اللهم إنّا نعوذ بك من الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
(ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار).
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
المرفقات
1621526403_الوقت بين الاغتنام والضياع 9-10-1442.docx