الوطن أمانة-28-7-1442-هلال الهاجري(أعدت الرفع لعدم ظهور المرفقات)
محمد بن سامر
الوطن أمانة-28-7-1442-هلال الهاجري
الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ الأَوْطَانَ مُستَقَرًّا لِبَنِي الإِنْسَانِ، وَوَهَبَهُمْ فِيهَا الأَمْنَ وَالاطْمِئْنَانَ، وجَعلَ الأمنَ مقرونًا بالإيمانِ، فقَالَ سُبحانَه وتَعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ"، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ المأمونُ-صَلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه الذين قضوا بالحقِّ، وبهِ كَانوا يَعدلونَ، وسلمَ تَسليمًا كَثيرًا- أما بَعدُ:
فَأُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ".
حبُّ الوطنِ شيءٌ قد جَبلَ اللهُ تعالى عليهِ كلَّ المخلوقاتِ، فانظروا إلى الطُّيورِ والأسماكِ تقطعُ آلافَ الأميالِ ثُمَّ ترجعُ إلى أوطانِها، وها هي الحيواناتُ تشتاقُ وتدافعُ عن مساكنِها، وها هي الشعوب تفتخرُ وتناضلُ عن بلدانِها.
الوطن هو ماضينا وذكرياتُنا، وهو حاضرنا وتضحياتُنا، وهو مستقبلُنا وأمنياتُنا، فيهِ يُبذلُ الجُودُ والفَيضُ والعَطاءُ، وعلى أرضِه تطيبُ المبادرةُ التَّضحيةُ والنَّماءُ، وله يحلو التَّعبُ والرِّفعةُ والبناءُ.
فيه الأهلُ والأصدقاءُ والأحبابُ، ومفارقتُه قطعةٌ من العذابِ، كما قالَ-عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ".
والوطنُ هو الشيءُ الذي يُؤلف ويُحبُّ ولو لم يكن فيه شيءٌ من الجمالِ، كما يصفُ ذلكَ الشَّاعرُ:
بلادٌ أَلِفنَاها على كُلِّ حَالةٍ *** وقد يُؤْلَفُ الشَّيءُ الذي لَيسَ بالحَسنْ
وتُسْتعذبُ الأرضُ التي لا هَواءَ بها *** ولا ماؤها عَذبٌ، ولكنَّها وَطَنْ
بل أخبرَ اللهُ-تعالى-أن من أصعبِ الابتلاءاتِ التي قد يُختبرُ فيها العبادُ، هو قتلُ النَّفسِ والخروجُ من البلادِ، وأن هذا الاختبارَ لصعوبتِه على الإنسانِ، فلا يفعلُه إلا قليلٌ من أهلِ الإيمانِ، "وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا".
فكيفَ إذا كانَ هذا الوطنُ، فيه بقعةٌ قد دعا لها الخليلُ الأول-عليه السلامُ-: "وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا"، وأحبَّها الخليلُ الثاني-صلى اللهُ عليه وسلمَ-فقالَ: "واللهِ، إنَّكِ لأحبُّ بُلادِ اللهِ إلى اللهِ، وأحبُّ بلادِ اللهِ إليَّ، ولولا أنَّ قَومي أَخرجوني مِنكِ ما خَرجتُ"، بل هو أحبُّ البلادِ إلى اللهِ-تعالى-.
وطنٌ فيه بقعةٌ يشتاقُ لها الإيمانُ، وسيرجعُ إليها في آخرِ الزَّمانِ، كما قالَ-صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "إنَّ الإيمَانَ لَيَأْرِزُ إلى المَدِينَةِ -أي: سيرجعُ إلى المدينةِ-كما تَأْرِزُ الحَيَّةُ إلى جُحْرِهَا".
فمن يلومُ المسلمينَ في حبِّ هذا الوطنِ، وقد أخَذَتْ مُقدساتُه بقِطعةٍ من فؤادِ كلِّ مسلمٍ على وجهِ الأرضِ، يحبُّها، ويَغارُ لها، ويُدافعُ عنها، ويحزنُ لها، ويرجو أن يراها في أمنٍ واستقرارٍ، عامرةً بالحُجَّاجِ والمعتمرينَ والزُّوَّارِ.
ولكن كما أنَّ لهذا الوطنِ أحبابًا وأصدقاءً، فكذلكَ له خصومٌ وأعداءٌ، في الخارجِ من اليهودِ والنَّصارى وأعداءِ السُّنةِ والتَّوحيدِ، وفي الدَّاخلِ من أتباعِ الشَّرقِ والغربِ الذينَ يُفسدونَ وهم يزعمونَ الصَّلاحَ والتَّجديدِ، لا يُريدونَ له خيرًا ولا فلاحًا، ولا يُحبونَ له رُقيًّا ولا نجاحًا، يتربصونَ بهِ الدَّوائرَ، عليهم دائرةُ السُّوءِ، فواجبٌ على كلِّ مسلمٍ الدِّفاعُ عنه بكلِّ ما يملكُ، وخاصةً أهلُه الذينَ اصطفاهم اللهُ-تعالى-بخدمةِ حرمِه.
فيا أهلَ الحرمِ؟، يا من كفاكم اللهُ النِّقمَ؟، نحتاجُ اليومَ إلى شُكرِ نعمةِ اللهِ-تعالى-شُكرًا حقيقيًا، "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ"، نستيقظُ من نومِنا وقد حفظنا اللهُ-تعالى-من شرورٍ وتهاويلٍ، وسخَّرَ لنا رجالًا صادقينَ لا ينامونَ اللَّيلَ.
إنَّا لنرفعُ دَعوةً لبلادِنا *** مرفوعةً للخَالقِ المَعبودِ
شُلتْ يدٌ تَسعى إلى تمزيقِها *** وتَحطمتْ نَظراتُ كُلِّ حَسودِ
لكِ يا بلادَ الخيرِ رَأسٌ شَامخٌ *** فخُذي زِمامَ المَكرماتِ وَقودي
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ هو الغنيُّ وعبادُه الفقراءُ، وهو القويُّ وخلقُه هم الضُّعفاءُ، و-صلى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وأصحابِه، والتَّابعينَ ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا- أما بعد:
فهل الدُّنيا إلا آمنٌ في وطنِكَ، وعافيةُ في جسدِكَ، وكفايةُ قوتِ يومِكَ، كما قَالَ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلمَ-: "مَن أصبحَ منكم آمنًا في سربِهِ، مُعافًى في جسدِهِ، عندَهُ قوتُ يومِهِ، فَكَأنَّما حِيزتْ لَهُ الدُّنيا"، واسألوا الذينَ فقدوا الأوطانَ، وكَثُرتْ عليهم الأحزانُ، يتحسَسونَ الأخبارَ، وطالَ عليهم الانتظارُ، فالصغيرُ مشتاقٌ إلى بيوتِها وشِعابِها، والكبيرُ يتمنى أن يُدفنَ في تُرابِها، فالقلوب تتقطعُ، والنَّفوسُ تتطلعُ.
فيا أيُّها الأحبَّةُ حبُّ الوطنِ الحقيقيُّ ليسَ كلماتٍ بليغةً يتغنى بها الشُّعراءُ والأدباءُ، وليسَ بشعاراتٍ رنَّانةٍ يردُّدها النَّاسُ في كلِّ لِقاءٍ، بل هو صدقٌ وأمانةٌ ووفاءٌ، وحبُّ وشفقةٌ وولاءٌ، وكما أنَّ اللهُ-تعالى-سخَّرَ لهذهِ البلادِ من الجنودِ المُخلصينَ من يُدافعُ عن أمنِها بالسِّلاحِ، نريدُ أيضًا من يُدافعُ عن أمنِ هذه البلادِ بالطَّاعةِ والصَّلاحِ، "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ"، وكما أنَّ هناكَ من يسعى بالنُّهوضِ باقتصادِ هذه البلادِ باستثمارِ الخيراتِ، نريدُ أيضًا من ينهضُ باقتصادِها بالتَّقوى والإيمانِ والطَّاعاتِ، "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ"، عندها تجتمعُ الأسبابُ السَّماويةُ والأرضيةُ، وتحلُّ البركةُ الواسعةُ الرَّبانيَّةُ.
وهناكَ أيضًا مصدرُ قوَّةٍ لهذهِ الأمَّةِ، كما جاءَ في الحديثِ: "إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلاتِهِمْ وَإِخْلاصِهِمْ"، فنريدُ دعوةَ الكبيرِ والصَّغيرِ، ونريدُ دعوةَ المسكينِ والفقيرِ، نريدُ دعوةَ العجائزِ بصلاحِ البلادِ، وأن يوفِّقَ اللهُ قادتَها للهُدى، ويُصلحَ رجالَها ونساءَها، ويهديَ شبابَها وفتياتِها لكلِّ خيرٍ.
اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ وأذلَّ الشركَ والمشركينَ ودمرْ أعداءَ الدينِ، واجعل هذا البلدَ آمنًا مطمئنًا وسائرَ بلادِ المسلمينَ، اللهمَّ آمنا في أوطانِنا وأصلح أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، اللهم من أرادنا وأرادَ بلادَنا بسوءٍ فأشغله بنفسِه وردَّ كيدَه في نحرِه، اللهم ادفع عنا الغَلا والوَبا والربا والزنا والزلازلَ والمحنَ وسوءَ الفتنِ ما ظَهرَ منها وما بَطنَ، اللهم وفق وليَ أمرِنا لهُداكَ واجعل عملَه في رِضاك، اللهم انصر به دينَك وأعلِ به كلمتَك، اللهم أصلح بطانَته واصرف عنه بطانةَ السوءِ يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ وفِّقْ جُنودَنا البواسلَ، وسدِّد رميَهم، وثبِّتْ أقدامَهم، اللهمَّ انصر دينَك وكتابَك وسنةَ نبيك وعبادَك المؤمنين، اللهم انصر من نصرَ الدينِ، واخذل الطغاةَ والمفسدينَ، اللهم اغفر ذنوبَنا، واستر عيوبَنا، ويسِّرْ أمورَنا، وبلغنا فيما يُرضيكَ آمالَنا، ربنا تقبل منا إنك أنت السميعُ العليمُ، وتب علينا إنك أنت التوابُ الرحيمُ، سبحانَ ربِّك ربِّ العزةِ عما يَصفونَ، وسلامٌ على المرسلينَ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
المرفقات
1615441661_الوطن أمانة-28-7-1442-هلال الهاجري.docx
1615441665_الوطن أمانة-28-7-1442-هلال الهاجري.pdf