الوطنية الحقة

د. منصور الصقعوب
1433/11/04 - 2012/09/20 16:27PM
وقف المصطفى < حين أخرجه أهل منها, فأطل على تلك الأطلال, ونظر إلى تلك البيوت والجبال, وقال كما عند الترمذي مخاطباً تلك البلدة"إنكِ لخيرُ أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجت منك ما خرجت".
وعوضه الله خيراً فكان يحب المدينة بعدُ ويألفها, بل ويحث الخطى إليها حين يدنو, ففي الصحيح أنه < كان إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته -أي أسرع بها-"رواه البخاري.
قال ابن حجر: فيه دلالة على مشروعية حب الوطن والحنين إليه".
وفي هذا يقول أهل الأدب: "إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحننه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه".
فبلد المرء لها قدر عنده, ولذا فحين كان الابتلاء بتركه تساقط الكثير ولم يقدر على التضحية إلا من قوي إيمانه (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَاركُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُمْ...)
نعم إنها عاطفة موجودة في الإنسان ولا شك, والإسلام لا يحرم الحب للأوطان, ولا يغير النسبة لها, فقد ظل بلال حبشيا وصهيب رومياً وسلمان فارسياً, ولكن تلك الفطرة ننطلق منها من منطلق ديني شرعي, وهنا فنحن بحاجة إلى نتأمل في هذا كثيراً في هذه الأيام
من الناس من يظن قدر الوطن أن تحتفل لأجله, أو أن تعلق صوراً وتلبس بلونه ثوباًَ أو ترفع علماً, بل من الناس من يختزل حق الوطن بأن ترقص وتغني وتحتفل في يوم, وربما رأيت هؤلاء بعد ذلك هم من يخون الوطن
إن نبينا < أحب وطنه وهذا جعله يسعى لهدايتهم ودعوتهم, وكان صلاح قريش محط اهتمامٍ منه فهو العشيرة الأقربون, بهم بدأ داعياً, وإليهم رجع فاتحاً, وهكذا يكون حق الوطن, وليس لنا أيها الكرام أن نختزل الوطن وقدرَه في مظاهر جوفاء من استنكرها أو لم يفعلها فوطنيته مشكوك فيها, وولاؤه فيه نظر،
عباد الله: قدر الوطن يكون بالدفاع عن بلاد الإسلام لا بالتعدي على ممتلكات المسلمين, حق الوطن يؤدى حين نحفظ المال العام ولا نُخل بأمر ائتمننا عليه المسلمون
حق الوطن يؤدى حين نحافظ على سفينته من الغرق في بحور الفساد والمنكرات, ويؤدى بالانضباط بضوابط الشرع
ومع هذا أيها الكرام فحب الوطن لا يطغى عندنا على حب الدين, فنحن لا نوالي ونعادي لأجل الوطن بل لأجل الدين, ومبدأ الأخوة الدينية مقدمة على الوطنية, ولذا فإن الرسول < حين جاء المدينة عقد المؤاخاة بين المسلمين فقط, والمدينة فيها أطياف من اليهود والمشركين, ورُبَّ عدوٍ لنا وهو من بلدنا, وحبيبٍ لنا وهو من غير وطننا لأن الأول مفارق لديننا وعقيدتنا, والآخر على وفاق معنا في ملتنا, وقد أبغض المسلمون أبا لهب وابن أبي وهما من ذات الوطن, وأحبا بلالاً وصهيباً وغيره من المغتربين.
عباد الله: ووطن المسلم أوسع من هذه الحدود الجغرافية, فكل بلاد الإسلام وطن لنا, نعمل لها ونتفانى لخدمتها, وإن قدمنا حاجة البلد الأقرب على غيره, وذاك لأن العقيدة تجمعنا, والحدودَ لا تفرقنا, فالمسلمون إخوة لنا, وبلادهم وطنٌ لنا, يحزننا ما يقع لهم ويشق علينا ما يشق عليهم, ومالحدود الجغرافية إلا أمورٌ حادثة, لا ينبغي أن تفرق لحمة المسلمين للوطن الواحد, وقد سبق الحدود المفرقة رابطة (إنما المؤمنون إخوة).
عباد الله: الحديثَ عن الوطنِ وحبه والحنين إليه يذكر المؤمن بالله -تبارك وتعالى- بالوطن الأول لبني آدم وهو الجنة، فذلك هو موطننا الأصلي الذي غفل عنه معظم الناس، قال الفضيل بن عياض رحمه الله-: "المؤمن في الدنيا مهمومٌ حزينٌ، همه التزود بما ينفعه عند العود، فمن حين خلق الله آدم -عليه السلام- وأسكن هو وزوجته الجنة ثم أُهبط منها ووعد بالرجوع إليها وصالحو ذريتهما، فالمؤمن أبدًا يحن إلى وطنِه الأول، وحبّ الوطن من الإيمان".
قال ابن القيم:
فحي على جنات عدن فإنها *** منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى *** نعود إلى أوطاننا ونسلم
والأول قال: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى *** ما الحب إلا للحبيب الأولِ
كم منزل في الأرض يألفه الفتى *** وحنينه أبدًا لأول منزلِ
فأعظم حنين ينبغي أن يكون إلى وطننا الأول سكنِ الأبوين، ودار الخلد والنعيم, اللهم انا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار.

الخطبة الثانية
وصل المصطفى < إلى المدينة, ففتح الله له القلوب والبلد, وصارت من حين وصوله عاصمة المسلمين, لدولة تدوم إلى آخر الزمان, ومنطلقاً لإنقاذ الناس من الضلالة إلى الهداية ومن الشرك إلى التوحيد, قائدها محمد < ومن بعده أفضل الناس من خلفاء وصحابه, ومرت سنة على دخوله المدينة, وكان يوم مرور سنة يوماً كغيره لم يحتفل به, ومرت مائة سنة وأكثر, وما تغير من الواقع شيء, ليس ذلك بغريب فالغريب صنيع من خالف صنيع نبينا <
وحين جاء يوماً من الأيام وجد أهلها لهم يومان يلهون فيهما ويحتفلون, فقال ماهذان اليومان قالوا كنا نلعب بهما في الجاهلية فقال < " إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ »
وتغير المسميات بتسيمة الشيء يوماً لا عيداً لا يغير من الحقيقة شيئاً مادام يحتفل فيه ويعود كل سنة فهذا هو العيد
وبين يدينا أيها الكرام يومٌ سمي باليوم الوطني في البلاد, وبرغم قدر الوطن في قلوبنا إلا أن العلماء بينوا حكم الاحتفال في مثل هذا اليوم وبدعية ذلك, وهم أحرص الناس على الوطن, فالشيخ محمد ابن إبراهيم المفتي السابق, وبعده ابن باز, وغيرهم من كبار العلماء, وهم أعرف وأعلم وأغير على الوطن, لكنهم منعوا من هذا ورأوا بدعيته, والخير في اتباع العلماء, والنقص حين نحيد عن علمهم بفهومنا.
وبعد هذا فالولاء لولي الأمر, والشكر لله على النعمة لا يكون في يومٍ فحسب, بل كل أيامنا شكر على نعمة التوحيد والأمن, وولاء وطاعة لولي الأمر.
إننا لا نحتفل باليوم الوطني لكن قلوبنا تفيض وطنية وغيرة على الوطن وأهله, وجناية على الوطن وإزراء به أن يُظن أن الوطنية تكون باحتفال صاخب وضجيج وتهاني وأعلام وأغاني, وذاك اختزال مقيت وشغل للأمة بأمور لا تبني.
وبعد هذا أيها الكرام: فلقد علمتنا السنوات القليلة الماضية التي أقيم فيها الاحتفال بالوطن, أن الأمنَ يهتز, والانفلاتَ يزداد, والشرورَ في أسواق الناس تستفحل, وهذا يوجب علينا القيام بدورنا :
أما أنت أيها الولي فلترع حق أسرتك, واحذر كل الحذر من إلقاءٍ بهم في الأسواق والحدائق تلك الأيام, فثمة فئام ينسلخون من زمام الحياء والعقل, وتحدث في التجمعات شرور يندى لها الجبين, فهل يليق بأب يعلم هذا أن يتسمح في ذلك بحجة الترفيه, ووالله لقد قابلت في العام الماضي أحد أعضاء الهيئة باكياً ويقول أين الأولياء, لمن هؤلاء النساء, ألا يغارون عليهن من هؤلاء الشباب الذين يستغلون يوماً ترعاه الدولة ويجعلونه فرصة لنزواتهم
وما أحسن أن تغلق عليك بابك وأن يسعك بيتك, وأن تسأل ربك اللطف, صلاح العباد والبلاد
وهذه الأحداث التي تحدث كل سنة تستدعي منا أن نتعاون في الاحتساب على الشرور التي تقع, ورحم الله شاباً خرج محتسباً على المنكرات, يحاول أن يسدّ خرق السفينة, ويسهم في الخير والفضيلة .
وجماع الأمر أن نعلم أن النقص يقع علينا بقدر بعدنا عن الشرع ومخالفته, والأمن يتحقق بقدر تحقيقنا لشرع الله
وإننا حين نريد أن يفرح الجميع بالوطن فلن يحتاج منا ذلك إلى احتفالات أو إجازات, ولا أعلام وشعارات, بل إلى قيام بحق الناس, فلا ظلم ولا هضم, وقبل ذلك بأداء حق رب الناس, أدام الله علينا نعمة الأمن, وأتم علينا نعمة الإيمان, وأصلح أحوال أهل الإسلام في كل مكان




المشاهدات 2669 | التعليقات 1

بارك الله فيكم وجزاكم كل خير