الوصية بحفظ العُمُر

عبدالله بن رجا الروقي
1435/10/10 - 2014/08/06 04:39AM
الحمد لله الذي ألبس من شاء من عباده لباسَ الهداية والتوفيق وألزمهم كلمةَ التقوى فصارت الطاعةُ لهم خيرَ أنيس ورفيق.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى اله وصحبه أجمعين.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)

أما بعد فإن الوقت أنفسُ ما أُمر المسلمُ بحفظه فالإنسانُ حياتُهُ مراحلُ كلما مضى يوم مضت مرحلةٌ من حياته ، قال بعض السلف : يا ابنَ آدم إنما أنت أيام إذا مضى يومٌ مضى بعضُك.
فكيف يفرح بالدنيا مَن يومُه يهدِم شهرٓه , وشهرُه يهدم سنته , وسنته تهدمُ عُمُرَه , كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله , وحياتُه إلى موته.

عباد الله
إن الناظر إلى حال الناس يجد كثيرًا منهم يُضيّع وقتَه في غير مافائدة في دينه ولا دنياه ، وهذا مصداق حديث النبي ﷺ " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ ُ" رواه البخاري.
فقوله ﷺ مغبون فيهما: أي خاسر فيهما ، فلا يوفق لاستغلال صحته ووقت فراغه في الخير.

ومن العجيب أن الناس يحزنون ويأسفون لنقص دنياهم ولا تجد أحداً يحزن لنقص دينه , قال ابن عقيل الحنبلي ـ رحمه الله ـ : من عجيب ما نقدت من أحوال الناس كثرةُ ما ناحوا على خراب الديار وموت الأقارب والأسلاف والتحسر على الأرزاق بذم الزمان وأهله , وذكر نكد العيش فيه , وقد رأوا من انهدام الإسلام وشعث الأديان وموت السنن وظهور البدع وارتكاب المعاصي ، وتٓقٓضْي العمر في الفارغ الذي لا يُجدى ، والقبيحِ الذي يُوبِقُ ويؤذي ، فلا أجد أحدا منهم بكى على دينه ولا من بكى على فارط عمره ولا آسى على فائت دهره وما أرى لذلك سببا إلا قلةَ مبالاتهم بالأديان وعِظَمَ الدنيا في عيونهم . ا.هـ كلامه رحمه الله .

ولقد أقسم الله عز وجل بالزمان لنفاسته وشرفه فأقسم بالليل وأقسم بالضحى وأقسم بالنهار وأقسم بالفجر مما يدل على عظيم شأن الوقت , وقد قال تعالى : { والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } فأقسم الله بهذا الزمن على أن الناس كلهم في خسارة إلا المتصفين بالصفات الواردة في السورة , وذلك يتضمن الأمر بالإيمان والعمل الصالح وأن يجتنب العبد ما نهى الله عنه من معاصي الشهوات والشبهات ، فإن من وقع في شهوة أو شبهة أوشك ذلك أن يُعقِبَه مرضًا في قلبه أن لم يوفقه الله للتوبة النصوح ، وفي الحديث الصحيح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً فأي قلب أُشرِبٓها نُكتتْ فيه نُكتةٌ سوداءُ ، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تعودَ القلوب على قلبين أسودَ مِربادّاً كالكوز مُجخّياً لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أُشرِب من هواه ، وقلبٍ أبيضَ فلا تضره فتنةٌ ما دامت السموات والأرض. رواه مسلم .
والمراد بالنُكتة في الحديث : النقطة.
والفتنة: كل ما يمكن أن يٓصُدٓ عن الطاعة ويوقع في المعصية.
قال ابن القيم -رحمه الله-: فشبّهَ عرَض الفتن على القلوب شيئاً فشيئاً كعرض عيدان الحصير وقسم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين : قلب إذا عرضت عليه فتنة أُشرِبَها كما يشرب الاسفنج الماء نُكِتَت فيه نُكتة سوداء فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسود وينتكس وهو معنى قوله " كالكوز مجخياً " فإذا اسود وانتكس حدث له أمران خطيران أحدهما اشتباه المعروف عليه بالمنكر فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقدَ المعروفَ منكراً والمنكر معروفا والسنة بدعة والبدعة سنة والحق باطلاً والباطل حقاً ، والأمر الثاني الذي يحدث له هو تحكيمه لهواه على ما جاء به الرسول ﷺ وانقياده للهوى واتباعه له .
والقلبُ الآخرُ قلبٌ أبيضُ قد أشرق فيه نور الإيمان وأزهر مصباحُه فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وردها والفتنة هي فتنة الشهوات والشبهات . اهـ كلامه رحمه الله .
فالواجب الحذر من المعاصي قبل أن تنتكس القلوب فلا يُنكٓرُ المنكرُ ولا يُعرٓفُ المعروفُ عافانا الله من ذلك .
أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
...أما بعد ، فعلى المسلم أن يتدارك أوقاتَه بالعمل بالطاعات قبل أن يحال بينه وبين العمل بالصالحات فيندمَ ولاتَ حين مندم ، قال ﷺ : إذا حُملت الجنازةُ وكانت صالحةً قالت قدموني قدموني ، وإن كانت غير ذلك قالت : يا ويلها أين تذهبون بها ، يسمعُ صوتَها كلُّ شيء إلا الإنسانَ ولو سمعها لصَعِق. رواه البخاري.

بكى معاذ رضي الله عنه عند موته وقال : إنما أبكي على ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر .
وبكي النخعي عند احتضاره وقال : انتظر ملك الموت لا أدري أيبشرني بالجنة أو النار .
وبكى عبد الرحمن بن الأسود عند موته وقال : واأسفاه على الصوم والصلاة ولم يزل يتلو القرآن حتى مات .
وجزع بعضهم عند موته فلما سئل عن ذلك قال : إنما أبكي على أن يصوم الصائمون ولست فيهم ويصلي المصلون ولست فيهم ويذكر الذاكرون ولست فيهم .
الله أكبر هذه حال السلف يبكون شوقاً للعبادة وحزناً على فراقها وخوفًا من الله مع كثرة عباداتهم فكيف بحالنا نحن وقد جمعنا بين قلة العمل الصالح وقلة الخوف من الله .

معاشر المسلمين قد عاتب الله الصحابة بقوله تعالى : " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون " .
أي: ألم يجئ الوقت الذي تلين به قلوبهم وتخشع لذكر الله، الذي هو القرآن، وتنقاد لأوامره وزواجره، وما نزل من الحق الذي جاء به محمد ﷺ ؟
عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ) إلا أربع سنين. رواه مسلم.

" فهذه الآية فيها الحث على الاجتهاد في خشوع القلب لله تعالى، ولما أنزله من الكتاب والحكمة، وأن يتذكر المؤمنون المواعظ الإلهية والأحكام الشرعية كل وقت، ويحاسبوا أنفسهم على ذلك.
{ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ } أي: ولا يكونوا كالذين أنزل الله عليهم الكتاب الموجب لخشوع القلب والانقياد التام، ثم لم يدوموا عليه، ولا ثبتوا، بل طال عليهم الزمان واستمرت بهم الغفلة، فاضمحل إيمانهم وزال إيقانهم، { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } فالقلوب تحتاج في كل وقت إلى أن تذكر بما أنزله الله ، ولا ينبغي الغفلة عن ذلك، فإن ذلك سبب لقسوة القلب وجمود العين.
{ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } والذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على أن يحيي الأموات بعد موتهم، فيجازيَهم بأعمالهم، والذي أحيا الأرض بعد موتها بماء المطر قادر على أن يحيي القلوب الميتة بما أنزله من الحق على رسوله ﷺ " .[ تفسير ابن سعدي بتصرف].

وأختم بكلام طيب لابن الجوزي رحمه الله كأنه يصف فيه حالَ أهل زماننا قال رحمه الله : «وقد رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعا عجيبا، إن طال الليل فبحديث لا ينفع أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر، وإن طال النهار فبالنوم، وهم في أطراف النهار على دِجلة، أو في الأسواق، فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري بهم وما عندهم خبر،.... ولقد شاهدت خلقا كثيرا لا يعرفون معنى الحياة، فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله فهو يقعد في السوق أكثر النهار ينظر في الناس، وكم تمر به من آفة ومنكر، ومنهم من يخلو بلعب الشطرنج، ومنهم من يقطع الزمان بحكاية الحوادث عن السلاطين والغلاء والرُخْص إلى غير ذلك، فعلمت أن الله لم يطلع على شرف العمر ومعرفة قدر أوقات العافية إلا من وفقه وألهمه اغتنامَ ذلك { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } ».ا.هـ

فالغنيمةَ الغنيمةَ بانتهاز الفرصة ما دمت في زمن الإمهال ،المبادرةَ المبادرةَ بالصالحات قبل الارتحال ، والعَجَلَ العجلْ قبل هجوم الأجلْ وقبل أن يندم المُفرِّطُ على ما فعلْ ، وقبل أن يسألَ الرجعة ليعملَ صالحاً فلا يُجابَ إلى ما سألْ ، وقبل أن يحول الموتُ بين المؤمِّلِ والأملْ ، وقبل أن يصير المرءُ مُرتهناً بما قدم من عملْ.
يا من طلع فجرُ شيبه بعد بلوغِ الأربعين!
يا من مضى عليه بعد ذلك عشرُ سنين حتى بلغ الخمسين!
يا من هو في معترك المنايا بين الستين والسبعين ما تنتظرُ إلا أن ياتيك اليقين!
يا من ذنوبه كثرت وعظمت أما تستحيي من الكرام الكاتبين! بل أما تستحيي من رب العالمين! يا من أظلم قلبه وقسي أما آن لقلبك أن يستنير أو يلين!

اللهم تب علينا أجمعين وأحي قلوبنا بذكرك ياجواد ياكريم...
المشاهدات 4160 | التعليقات 3

جزيت خيرا شيخ عبدالله وبورك فيك وأدام ربي نفعك وزاد من علمك خطبة قيمة ومؤثرة وموعظة بليغة


جزاك الله خيرا


آمين ولكما بمثل.
شكر الله لكما ونفع بكما.