الوصية بالتقوى وشهر القُرّاء (مجموعٌ من كلام ابن الجوزي)

محمد بن عبدالله التميمي
1444/08/08 - 2023/02/28 17:48PM

الخطبة الأولى

الْحَمْدُ للَّهِ أَحَقُّ مَنْ شُكِرَ وَأَوْلَى مَنْ حُمِدَ، وَأَكْرَمُ مَنْ تَفَضَّلَ وَأَرْحَمُ مَنْ قُصِد، وَعَدَ الْمُتَّقِينَ الْفَوْزَ فَالْبُشْرَى لِلْمَوْعُودِ بما وُعِد. سُبْحَانَهُ لا وَزِيرَ لَهُ وَلا شَرِيكَ مَعَهُ، نَادَى مُوسَى لَيْلَةَ الطُّورِ فَأَسْمَعَهُ، أَحْمَدُهُ حَمْدًا إِذَا قِيلَ صَعِدَ، وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم على الهَدْيِ وتَعبَّد، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، فإن التَّقْوَى دِرْعٌ، وَالدِّرْعُ مَجْمُوعُ حِلَق، فَغَضُّ الْبَصَرِ حَلْقَةٌ، وَحَبْسُ اللِّسَانِ حَلْقَةٌ، وَعَلَى هَذَا سَائِرُ مَا يُتَوَقَّى، فَإِيَّاكَ أَنْ تَتْرُكَ خَلَلا فِي دِرْعِكَ، فَإِنَّ الرَّامِيَ يَقْصِدُ الْخَلَلَ، مَتَى فَسَّحْتَ لِنَفْسِكَ فِي تفريط وإن قَلَّ انخرق، [فأعْقِب ذلك بتوبة، وعن المعصية بجفوة، وعزْمٍ على عدم العَودة، فإنَّ قلبَك يَصِح، وربُّك بذلك يَفرح، وللذنب يمحُو، ويُبدّل السيئاتِ حسَنات، فما أكرم المولى جزيل العطيَّات، ويا حسرةَ مَن هو في وَحَلِ الخَطِيَّات.

في صحيح مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ».

عباد الله.. في الصحيحين] عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ: "مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنَ السَّنَةِ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ"، وَفِيهِمَا أنها رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولُ: لا يُفْطِرُ. وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ ". وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٌ: "كَانَ يصومه إلا قليلا".

وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُكَ تَصُومُ فِي شَعْبَانَ صَوْمًا لا تَصُومُهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الشُّهُورِ إِلا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، قَالَ: "ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ وَشَهْرِ رَمَضَانَ تُرْفَعُ فِيهِ أَعْمَالُ النَّاسِ، فَأُحِبُّ أَنْ لا يُرْفَعَ عَمَلِي إِلا وَأَنَا صَائِمٌ ".

وَاعْلَمْ أَنَّ الأَوْقَاتَ الَّتِي يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهَا مُعَظَّمَةُ الْقَدْرِ لاشْتِغَالِ النَّاسِ بِالْعَادَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، فَإِذَا ثَابَرَ عَلَيْهَا طَالِبُ الْفَضْلِ دَلَّ عَلَى حِرْصِهِ عَلَى الْخَيْرِ.

قَالَتْ لُؤْلُؤَةُ مَوْلاةُ عَمَّارٍ رضي الله عنه: كَانَ عَمَّارٌ يَتَهَيَّأُ لِصَوْمِ شَعْبَانَ كَمَا يَتَهَيَّأُ لِصَوْمِ رَمَضَانَ. وَكَانَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلائِيُّ إِذَا دَخَلَ شَعْبَانُ أَغْلَقَ حَانُوتَهُ وَتَفَرَّغَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ.

وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ شهيل، قَالَ: قَالَ شَعْبَانُ: يَا رَبِّ جَعَلْتَنِي بَيْنَ شهرين عظيمين فمالي؟ قَالَ: جَعَلْتُ فِيكَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ. [كما كان يسمى هذا الشهر بشهر القُرَّاء، والنفسُ -عباد الله- تحتاج لتمرينٍ وتقوية، كما البدن يحتاج لذلك، وهذا في الميادين معتَبَر، وهكذا في العبادة الأمر، فَصُمْ ما تَيسَّر، وانْشُرْ مِصْحَفَكَ واتْلُ وتدبَّر.

بارك الله لي ولكم في القرآن، وبلَّغنا رمضان، وغفر لنا ولسائر أهل الإيمان -إنه عفوٌّ رحيم عظيم الغُفران.

الخطبة الثانية

الحمد لله.. أحمده سبحانه على جزيل عطائه وواسع نعمائه، وأصلي وأسلم على أفضل رسله وأنبيائه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم لقائه، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن] الْمَعَاصِي تُنَكِّسُ الرَّأْسَ، وَمَا بَانٍ عَلَى رَمْلٍ كَمُحْكِمِ الأَسَاسِ، إِنَّ بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ الطَّهَارَةِ وَالأَنْجَاسِ، وَعَلَى وَجْهِ الطَّائِعِ نُورُ طَاعَتِهِ وَعَلَى وَجْهِ الْعَاصِي ظَلامُ مُخَالَفَتِهِ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ يُتَلَقَّى هَذَا بِالْبِشَارَةِ، وَيَقَعُ هَذَا فِي الْخَسَارَةِ، وَعِنْدَ الْحَشْرِ هَذَا يَرْكَبُ، وَذَاكَ يُسَحْبُ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْعُصَاةِ: هَلا ذَكَرْتُمْ، وَلِلطَّائِعِينَ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بما صبرتم.

إِيَّاكُمْ إِيَّاكُمْ وَالذُّنُوبَ، احَذْرُوا عَوَاقِبَ الْعُيُوبِ، لَقَدْ وَرَّطَتِ الذُّنُوبُ أَرْبَابَهَا أَيَّ إِيرَاطٍ، وَأَبْعَدَتْهُمْ عَنْ أَغْرَاضِهِمْ أَشْوَاطًا بَعْدَ أَشْوَاطٍ، هَذَا جَنَى الْجِنَايَةِ، فَأَيْنَ التَّقِيُّ الْمُحْتَاطُ.

تَيَقَّظُوا.. فَهَذا الْمَوْتُ بِكُمْ قَدْ أَحَاطَ، إِيَّاكُمْ وَالزَّلَلَ فَكَمْ مِنْ دَمٍ قَدْ أَشَاطَ، هَذَا الْعَدُوُّ مُرَاصِدٌ فَعَلَيْكُمْ بِالرِّبَاطِ، هَذَا الْفُتُورُ وَإِنَّمَا مَهْرُ الْجِدِّ: النَّشَاطُ.

[فتَنَبَّهْ عبدَ الله] لِرَحِيلِكَ وَمَسْرَاكَ، وَاحْذَرْ أَنْ تُسْتَلَبَ عَلَى مُوَافَقَةِ هَوَاكَ، انْتَقِلْ إِلَى الصَّلاحِ قَبْلَ أَنْ تُنْقَلَ، وَحَاسِبْ نَفْسَكَ عَلَى مَا تَقُولُ وَتَفْعَلُ، [وَعن التَّدَارُكِ لَا تَغْفُلْ، وأنتم بين يَدَيْ رمضان، تجافوا عن الآثام، والفِطامَ الفِطام، واللَّهَ اللَّهَ بفعلِ الطاعة، فإنها نِعْمَت البضاعة، وعليكم بلزومِ الجماعة، فذلك دينٌ وطاعة، والشذوذ عنها بدعة وضلالة، وكلُّ ضلالة في النار].

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَاجْعَلْ ذِكْرَ الآخِرَةِ لِقُلُوبِنَا مُلازِمًا، وَوَفِّقْنَا لِلتَّوْبَةِ تَوْفِيقًا جَازِمًا، وَذَكِّرْنَا رَحِيلَنَا قَبْلَ أَنْ نَرَى الْمَوْتَ هَاجِمًا، وَاقْبَلْ صَالِحَنَا وَاغْفِرْ لِمَنْ كَانَ آثِمًا.                               

 

[الخطبة مجموعة من كلام ابن الجوزي سوى ما بين معقوفتين]

المشاهدات 487 | التعليقات 0