الوصيةُ الوافيةْ - في الحقوقِ الثلاثةِ الكافيةِ

خالد علي أبا الخيل
1439/10/25 - 2018/07/09 16:48PM

الوصيةُ الوافيةْ - في الحقوقِ الثلاثةِ الكافيةِ

التاريخ: الجمعة:22 -شوال-1439 هـ

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 أما بعد...

عباد الله: فاتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.

إخوة الإسلام: لقد أُعطي نبينا ﷺ جوامع الكلم ونوابع الحِكم، فيقول الكلمة المختصرة ذات الألفاظ الوجيزة، فتشمل سعادة الدنيا والآخرة.

نعم أيها الإخوة المسلمون من هذه الكلمات الماتعة والألفاظ الجامعة، والوصية النافعة ما رواه الترمذي وحسَّنه حيث قال النبي ﷺ لأبي ذرٍ ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهما: (اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا، وخَالقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ) إن هذه الوصية الجامعة، وهذه الكلمات الثلاثة المختصـرة النافعة تشمل صلاح الدنيا والآخرة، ومن قام بها فهو من عباد الله الصالحين، وأوليائه المتقين؛ لأن الرجل الصالح هو القائم بحق الله، القائم بحق عباد الله.

فالوقفة الأولى قوله ﷺ: (اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ).

 التقوى -أيها الأحبة- هي أن تجعل ما بينك وبين الله وقاية من عذابه وعقابه وغضبه، فالتقوى هي الوقاية، والتقوى -أيها الأحبة- هي وصية الله للأولين والآخرين (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) (النساء:131)، وهي وصية رسول الله إلى رسله وعباد الله حيث كان يُوصي عليه الصلاة والسلام رُسله بأن يتقوا الله وبمن معه من المسلمين.

الوصية -عباد الله- بتقوى الله، التقوى -أيها الإخوة- اختلف السلف في تعريفها، فجاء عن ابن عمر التقوى هي: ألا ترى نفسك خيرًا من أحد. إن هذه الجملة العظيمة، وهذه الكلمة الكبيرة تدل على الإخلاص والتواضع ألا ترى نفسك خيرًا من أحد.

وقال ابن مسعود ﭬ فيما رواه الحاكم موقوفًا وجاء مرفوعًا -والموقوف أصح- في قوله سبحانه: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) (آل عمران:102) قال: هو أن يُطاع فلا يُعصـى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر.

وجاء عن طلق بن حبيبٍ $التقوى أن تعمل بطاعة الله على نورٍ من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله تخشى على نورٍ من الله تخشى عقاب الله.

ولما سُئل أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن التقوى، قال لسائله: هل أخذت طريقًا ذا شوكٍ؟ قال: نعم، قال: فما فعلت؟ قال: تجاوزته أو اتقيته أو عدلت عنه، فأخذ ابن المعتز هذه الوصية الجميلة، فقال:

خل الذنوب صغيــــــرها

 

وكبيـرها فهو التـــــقى

واصنع كمـــــــاشٍ فوق أرض

 

الشــــوك يحذر ما يرى

لا تحــــقرن صغيـــــرةً

 

إن الجبـــال من الحــصى

التقوى -أيها الأحبة- ليست بكثرة الصيام، ولا بكثرة الصلاة، ولا بالقيام بنوافل العبادات والطاعات، التقوى هي فعل ما أمر الله واجتناب ما نهى عنه رسول الله، كما قال عمر بن عبد العزيز: ليس التقوى بصيامٍ بالنهار، ولا بقيام الليل، ولكن تقوى الله ترك ما حرَّم الله وأداء ما افترض الله.

ومما ينبغي أن يُعلم أن يعلم العبد ما يُتقى فيتقيه، نعم تعلم أن الربا حرام فتتقيه، وأن الغيبة حرام، والنميمة حرام، وسماع الغناء حرام، والنظر إلى النساء الأجنبيات حرام، وسفر المرأة بدون محرمٍ حرام، والخلوة بالرجل الأجنبي حرام، فيتقي الإنسان ما حرَّم الله.

التقوى -عباد الله- هي أن تتقي الله عزَّ وجلَّ في سرك وعلانيتك؛ ولهذا قال: (اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ) اتقِ الله في جلوتك، وفي خلوتك، في سفرك، وفي إقامتك؛ لأن بعض الناس يتقي الله عندما يراه الناس، فيتقي الله في بيعه، وفي شرائه، وفي إقامته، وهنا وهناك، لكن إذا اختلى عن الأنظار، واختفى عن الأبصار خلى بالذنوب الكبار -عياذًا بالله- فهو يتقي الله حينما يراه الناس، لكن عند الخلوات تظهر السيئات، وحقيقة التقوى تظهر في الخلوات؛ ولهذا من دعاء النبي ﷺ فيما رواه أحمد، والنسائي، وابن حبان، والحاكم من حديث عمار بن ياسر ﭬ: (وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) إن خشية الله في الغيب والشهادة، ومراقبة الله في الغيب والشهادة هذه هي حقيقة التقوى، وطاعة المولى.

دخل بعضهم غيضةً ذات شجر، فقال: لو خلوت وعصيت الله لم يرانا أحد، فسمع هاتفًا يهتف (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14).

ولما رواد رجلٌ أعرابيةً وجلس منها مجلس الرجل من امرأته، فقال لها: ما يرانا إلا الكواكب، فقالت: أين مكوكبها؟

ولما رأى محمد بن المنكدر رجلًا يُكلم امرأة، فقال لهما: إن الله يراكما سترنا الله وإياكما.

وكان الإمام أحمد كثيرًا ما يقول أو ما يُنشد ما يُقال:

 

إذا ما خلوْتَ، الدّهرَ، يوْماً، فلا تَقُلْ

 

خَلَوْتَ ولكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ

ولاَ تحْسَبَنَّ اللهَ يغفِلُ ساعةً

 

وَلا أنَ مَا يخفَى عَلَيْهِ يغيب

وقال ابن السماك:

يَا مُدْمِنَ الذَّنْبِ أَمَا تَسْتَحْيِي

 

وَاللَّهَ فِي الْخَلْوَةِ ثَانِيكَا

غَرَّكَ مِنْ رَبِّكَ إِمْهَالُهُ

 

وَسَتْرُهُ طُولَ مَسَاوِيكَا

ويقول القحطاني في نونيته:

وَإِذا خَلَوتَ بِرِيبَةٍ في ظُلمَةٍ

 

وَالنَفسُ داعيَةٌ إِلى الطُغيانِ

فاِستَحي مِن نَظَرِ الإِلَهِ وَقُل لَها

 

إِنَّ الَّذي خَلَقَ الظَلامَ يَراني

والخلاصة في هذه الجملة تُبين لك مراقبة الله عزَّ وجلَّ في السِّر والعلانية.

ولما سُئل المحاسبي $ عن التقوى، قال: هي علم القلب بقرب الرب.

ولما سُئل الجنيد $ عما يُستعان على غض البصـر عمَّا حرَّم الله، قال: أن تعلم أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى المنظور.

فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه في السِّـر والعلانية، وراقبوه في الأسفار والإقامة، راقبوا ربكم دائمًا وأبدًا؛ ولهذا -عباد الله- وإذا خلوت الدهر يومًا فلا تقل فلانٌ وعلان، ولكن راقب الرحيم الرحمن.

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه والشكر له على فضله وامتنانه، وبعد...

عباد الله: فمع الوقفة الثانية وهي قول النبي ﷺ لهما: (وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا) إن العبد -أيها العبد- مجبولٌ على المعصية، مجبولٌ على الخطأ والتقصير والنقص في حق العليم الخبير؛ ولهذا كان من السِّر قرن هذه الوصية بالوصية الأولى، وذلكم أن العبد مهما اتقى الله، فلا بُد له من تقصيرٍ ونقصٍ في عبادة الله.

منْ ذا الذي مـا سـاء قطُّ

 

منْ ذا الذي لهُ الحُسْنى فقـطْ

فقال: (وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا) وقد دلت السُّنَّة -عباد الله- على أن من عمل سيئةً فليُتبعها حسنة، فإذا فعلت معصية فأتبع تلك المعصية صدقة أو صِلة أو برٍّ أو قراءة أو ذكرٍ أو عبادة أو صلاةٍ أو غير ذلك من العبادات، كما قال رب الأرض والسماوات: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (هود:114).

ولما قبَّل رجلٌ امرأةً فجاء إلى النبي ﷺ تائبًا أنزل الله (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (هود:114) كما جاء ذلك في الصحيحين.

وفي الصحيحين أيضًا أن رجلًا جاء إلى النبي ﷺ وقال: قد أصبت حدًّا أي: معصيةً، فقال له عليه الصلاة والسلام: (هل صليتَ معنا؟) قال: نعم، قال: (قدْ غفَرَ اللهَ لك).

وفي البخاري (مَن قال: وَاللَّاتَ وَالْعُزَّى لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ).

فما عُومِلت السيئة بمثل الحسنة تمحها، وتذهب أثرها، وتدل على ضعف الإنسان، وقربه من الرحيم الرحمن.

ومن صفات عباد الله المتقين ما قاله رب العالمين في كتابه المبين: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) (آل عمران:135).

فأكثر من الحسنات علَّ الله أن يُكفِّر عنك تلك السيئات (فأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا).

والوقفة الثالثة مع قوله عليه الصلاة والسلام لهما: (وخَالقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ) الله أكبر، الخُلق الحسن ذهب بخيري الدنيا والآخرة، صاحب الخلق الحسن هو صاحب الجنة (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (ل عمران:133-134).

وربنا يقول لنبيه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران:159).

ويقول له: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (لأعراف:199).

أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وأثقل عملٍ في الميزان، وما يُدخل الجنان هو الخلق الحسن، وأقرب الناس إلى الله صاحب الخلق الحسن، وبيتٌ في وسط الجنة لمن حسُن خُلقه، وأكمل الناس أخلاقًا هو نبينا محمدٌ ﷺ فلما سُئلت عائشة عن خُلق النبي ﷺ قالت: كان خُلقه القرآن. وربنا يقول في القرآن: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4).

ما معنى حُسن الخلق؟ حُسن الخلق هو بذل الندى وكف الأذى، واحتمال الأذى.

ويقول عبد الله بن المبارك، والإمام أحمد -رحمهما الله-: حُسن الخُلق هو ترك الغضب، فلما قيل للإمام عبد الله بن المبارك: اجمع لنا حُسن الخُلق في كلمةٍ مُختصرة، قال: هو ترك الغضب.

وفي البخاري لما جاء رجلٌ إلى النبي ﷺ وقال أوصني، قال: (لاَ تَغْضَبْ) قال: أوصني، قال: (لاَ تَغْضَبْ) قال: أوصني، قال: (لاَ تَغْضَبْ).

الكلمة الطيبة وقايةٌ من النار (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) اتقوا النار ولو بكلمةٍ طيبة، الكلمة الطيبة صدقةٌ من الإنسان على نفسه كما جاء في مسلم (وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ).

إذا لم يكن عِندَكَ خَيْلَ تُهْديهَا وَلا مالُ

 

فَليُسْعِدِ النُّطْقُ إذا لم تُسعِدِ الحالُ

وفي القرآن (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة:83)، (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا) (فصلت:33)، (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) (الإسراء:23).

ولهذا -عباد الله- إذا لم تقل الكلمة الطيبة فلا أقل من الابتسامة الجميلة، فالابتسامة بدون كلمة صدقةٌ منها على نفسك.

روى الترمذي في جامعه أن النبي ﷺ قال: (تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ).

الجمع -أيها الأحبة- بين هذين الحقين أمرهما عظيم، وشأنهما كبير، وهو القيام بحق الله، والقيام بحقوق عباد الله؛ ولهذا مَن قام بهما فإنه يُسلِّم عليه من في السماء والأرض، مَن في المشرق والمغرب، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فالقيام بهما عزيز.

يقول ابن رجب $: والجمع بين القيام بحق الله، وحقوق عباده عزيزٌ جدًّا ولا يقوى عليه إلا الكُمَّل من الأنبياء والصديقين.

وثمة تنبيهٌ مهمٌ جدًّا نبَّه عليه ابن رجب $ في جامع العلوم والحِكم، وذلكم أن كثيرًا من الناس يُكثر من نوافل الطاعات، فيصوم أيام البيض، ويختم القرآن، ويقوم الليل ويتصدق، وهذا جميلٌ جدًّا، فما تقرب العبد إلى الله أحب إليه مما افترض الله عليه، ثم يُتبع ذلك النوافل في العبادات والطاعات، ولكن بعض الناس ينسى حقوق الناس، فيهمل حق زوجه وولده، وعماله، في بيعه، في شرائه، في تعاملاته، في معاملاته، في أخلاقه مع الناس؛ ولهذا يقول ابن رجب $: وكثيرًا ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله والانعكاف على محبة الله وخشيته وطاعته إهمال حقوق العباد بالكلية أو التقصير منها، والصالح والناصح لنفسه هو الذي يقوم بحق الله وحق عباد الله.

أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلني وإياكم من عباده الصالحين.

 

 

 

المشاهدات 901 | التعليقات 0