الوِرْدُ القرآني
أ.د. صالح بن فريح البهلال
الورد القرآني
23/1/1442هـ
الحمد لله الملك العزيز العلام، وأشكره على ما أسداه من جزيل الفضل والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق السلام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أظهر الله به دين الإسلام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، أما بعد:
فيا عباد الله اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.
أيها المؤمنون: عبادة عظيمة، وغنيمة ليست كأي غنيمة، ثمراتها كثيرة، وبركاتها غزيرة ووفيرة، ألا وهي الورد القرآني، فما الورد القرآني؟
إنه المقدار اليومي الذي يقرؤه المسلم من كتاب الله.
هو ربيع القلب وجِلاؤه، وشفاؤه إذا غشيه اعتلاله، فمن هجره فقد هجر ربيع قلبه، ومن ابتعد عنه ابتعد عنه أُنس صدره.
تمضي الحياة وأنت تطلب أنسَها والأنسُ كلُّ الأنس في القرآن
الورد القرآني ـ عباد الله ـ لا يؤمر به المؤمن لنيل الأجر، وضبط الحفظ فحسب؛ بل لأن فيه الهُدى والغِنى، والشِّفاء والزَّكاء.
الورد القرآني تِرياق يومك، وبلسم نهارك، وسكن ليلك؛ إنه يحوِّل أجواء قلبك العاصفة إلى ظلال وارفة، فإن طاف بك حُزن واساك، وإن مسَّك قَرح سلَّاك، وإن كنت حائراً أرشدك وآواك، وإن كنت وجلاً خائفاً بث السكينة في صدرك وحماك.
ندوب الغفلة، وأبواب الأحزان يمحوها ويغْلِقها وردك اليوميُّ من القرآن.
وِرْدك القرآني هو كهفك اليومي الذي تأوي إليه من هَجير الفتن، وشديد البلايا والمحن.
إنه ملاذك الصادق الآمن من وعثاء الضجر، وكآبة المنظر، وتشتت الفِكَر.
بونٌ شاسعٌ بين يومك الذي تقرأ فيه القرآن، واليوم الذي لا تقرأ فيه القرآن.
ومن لم يجرِّبْ ليس يعرفُ قدره فجرِّب تجدْ تصديق ما قد ذكرناهُ
ومع هذا الزخم المادي المنهمر، ومع هذه الدنيا الفاتنة الغرَّارة يأتيك وردك القرآني، فيبين لك حجم هذه الحياة!
ما الدّنيا؟ ما أموالها؟ ما مفاتنها؟ ما مغانيها؟ ما مباهجها؟ إنّها لتغدو هباء منثوراً أمام آية تقرؤها؛ فذلك قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد، فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله ـ عز وجل ـ خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل» أخرجه مسلم.
إن معيار الإرادة الصادقة، ودليل العزيمة الراسخة حين تجاهد نفسك على وقت يومي تضعه لوردك القرآني لا يمكن أن تتركه، ولا تفكر أن تحيد عنه، مهما كانت الشواغل، ومهما كثرت الصوارف.
لقد بلغ من محافظة النبي صلى الله عليه وسلم على حزبه من القرآني أن قدمت عليه صلى الله عليه وسلّم وفود يبتغون توجيهه وتعليمه، فكان صلى الله عليه وسلّم يأتيهم كل ليلةٍ بعد العشاء يحدّثهم، فلما كانت ليلةٌ أبطأ صلى الله عليه وسلم عن الوقت الذي كان يأتيهم فيه، فقالوا له: لقد أبطأتَ عنّا الليلة! فقال صلى الله عليه وسلم: "إنّه طرأ عليَّ حزبي من القرآن، فكرهت أن أجيء حتى أتمّه" أخرجه أبو داود.
فيالله ما أجمله من عذرٍ يبديهِ هذا النبيُّ صلى الله عليم وسلّم، بأنّهُ كان في أمر، وأيُّ أمر! إنه أمر لا يقبلُ التأجيل ولا التسويفَ؛ إنه حزبه صلى الله عليه وسلم من القرآن طرأ عليه، فكره أن يأتيهم وهو لم يتمه، ففيه تأكيد للمؤمن ألا يشغلك شيء عن وردك من القرآن؛ كائناً هذا الأمرَ ما كان.
ولن تنجح ـ أيها المبارك ـ في المحافظة على وردك القرآني حتى تعامله كأنه واجب من الواجبات؛ تفرغ له الأوقات، وتخاف عليه من الفوات، وتحرص على أن تقضيه إذا فات، فإذا فعلت ذلك فأبشر بالفتوحات.
إن من الحرمان أن يقول بعض الناس: ليس لدي وقت لتلاوة القرآن، وهو يمضي يومه عاكفاً على قنوات التواصل؛ إن ربع ساعة فقط يقضيها المرء في وسائل التواصل كفيلة بأن يقرأ فيها جزء كاملاً من القرآن، فيا ربنا لا تحرمنا فضلك.
إن من أعظم المحفزات للمحافظة على وردك القرآني هو أن تعلم بأنه سبب لبركة يومك؛ وفي ذلك يقول الضياء المقدسي: «رأيت ذلك، وجربته كثيراً، فكنت إذا قرأت من القرآن كثيراً تيسر لي من سماع الحديث وكتابته الكثير، وإذا لم أقرأ لم يتيسر لي» ومن هنا استحب بعض أهل العلم أن تقرأ وردك القرآني في أول النهار حتى تنسحب البركة على يومك كله، وحتى لا يجيئك ما يشغلك عنه.
وأفضل مدة يختم فيها كتاب الله أن يختم كل سبعة أيام كما هي وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمرو، فقد قال له: «اقرأه في كل سبع، ولا تزد على ذلك» أخرجه البخاري ومسلم.
وأقل ما وردتْ به السنّة في ختم القرآن أن يكون في ثلاثة أيام، وغاية ما روي من التوسعة أن يقرأ في أربعين يوماً، قال القرطبي: «الأربعون مدة الضعفاء، وأولي الأشغال».
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: [وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه كان للأوابين غفورا.
الخطبة الثانية
الحمدلله وكفى، وصلاة وسلاماً على نبيه المصطفى، محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى، أما بعد:
فيا أيها المسلم الكريم: إذا كان لك ورد يومي من القرآن، فاحمد الله، وسله الثبات والمزيد، وإذا لم يكن لك ورد يومي فابدأ من اليوم؛ فما زال في العمر متسع والحمدلله، ولتعلم بأن البداية شاقة، فاستعن بالله، وابدأ شيئاً فشيئاً، وكن وقت وردك القرآني بعيداً عن جهازك الذكي؛ حتى لا يسرق وقتك وأنت لا تشعر، وثق بأنك إذا داومت على التلاوة، وأدمنت القراءة، فسيكون القرآن خفيفاً على لسانك، لذيذاً في صدرك وجَنانك، ولن تعدل بها دُراً ولا ذهباً.
الّلَهُمَ ارْحَمْنَا بِالْقُرْآن، واجْعَلْهُ لَنَا إمَامَاً وَنُوْرَاً، الّلَهُمَ ذَكِّرْنَا مِنْهُ مَا نُسِّيْنا، وَعَلِّمْنَا مِنْهُ مَا جَهِلْنَا، وَارْزُقْنَا تِلَاوَتَهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأطْرَافَ الْنَهَار على الوجه الذي يرضيك عنا.
اللهم إنا نسألك أن تصلي وتسلم وتبارك على نبينا محمد، وعلى أزواجه وأصحابه وذريته.
اللهم احفظْ بلادَنا، ووفق وولاتنا، وأدِمْ أمنَنا، وثبتْ إيمانَنا..
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق