الواعظ الشتوي 1444/6/20ه

يوسف العوض
1444/06/17 - 2023/01/10 15:34PM

الخطبة الأولى

أيُّها المُسلمون : يقول ربنا جلّ وعلا:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}ففي شدةِ البرد عبرةٌ وعظةٌ لمن كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخر،فعنِ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَة يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: أَيْ رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ؛ نَفَسٌ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفْسٌ فِي الصَّيْفِ، وَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ» (رواه البخاريُّ ومسلم).

أيُّها المُسلمون : مَن وقَفَ عندَ هذا الحديثِ وتأمَّلَ كان ذلك تشجيعًا وتصبيرًا له على العبادة؛ حتى يَسلَمَ مِن زمهريرِ جهنَّمَ وحرِّها ومن تفكّرَ بشدةِ عذابِ نّارِ جهنّم أدامَ الاستعاذةَ من حرِّها وزمهريرِها واجتهدَ في طاعةِ اللهِ سبحانه وتعالى؛ حتى يقِيَه بردَ جهنّمَ وحرَّها وقد وصفَ اللهُ سبحانه وتعالى أهلَ النّارِ وما يتعرَّضون له من عقابٍ أليمٍ بقوله: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا} وقال الله تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} ، وقد روى ابنُ أبي الدنيا في كتابه "صفة النار" أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عباسٍ رضي الله عنهما قال: "يستغيث أهلُ النّار من الحرِّ، فيُغاثون بريحٍ باردةٍ يَصدِّعُ العظامَ بردُها فيَسألون الحرَّ" نسأل الله العفو والعافية، والمُعافاة التامة في الدِّين والدنيا والآخرة.

أيُّها المُسلمون : كثيرٌ من الزهَّاد العابدين كان المطرُ والثلجُ والبَرَدُ والبرقُ والرّعدُ موعظةً لهم، وتذكرةً لهم بالآخرة، يقول أحدُ الزّهاد: "ما رأيتُ الثلجَ يتساقطُ إلا تذكرتُ تطايُرَ الصُّحفِ في يوم الحشرِ والنّشر" ، والطينَ في الشتاءِ وترابَه الذي يرخو بفعلِ مياه الأمطارِ المنهمِرة، فيه دعوةٌ إلى ذلك الكائنِ الضعيفِ، المخلوقِ من هذا الطين؛ (الإنسانِ) بأن يرقَّ قلبُه، وتلينَ جوارحُه لذكرِ ربِّه جلَّ وعلا، وفيه تذكرةٌ للإنسانِ بأصلِ خلقتِه، وقدرةِ ربِّه، وفضلِ اللهِ تعالى الكريم المنَّان عليه؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}.

أيُّها المُسلمون : ينبغي الإشارةُ إلى أنَّ هناك عبادةً يَغفُل عنها الكثيرُ من المسلمين، إنَّها عبادةُ التَفَكُّرِ في خلقِ الله عز وجل إنَّها عبادةٌ من أعظمِ العبادات، بها يَدخل العبادُ على الله، فيملَؤون قلوبَهم إجلالاً وتعظيمًا له.

فيا أيُّها المسلمُ ،هل وقفتَ مرةً في حياتك تتفكَّرُ كيف يجمعُ اللهُ السّحابَ في السماء، ويُنزل منه مطرًا يَسقى الأرضَ والناسَ والبهائمَ، ويُخرج به من الثمراتِ رزقاً لنا؟ كيف يرينا البرقَ ويُسمعنا صوتَ الرّعدِ؟ كيف يجعلُ السّحابَ والغيومَ تُمطرُ بَرَدًا وثلجًا ؟ كيف وكيف وكيف ؟

هل يقعُ في قلبِك - إن نظرتَ لشيءٍ - جلالُ الله وعظيمُ شأنه عزَّ وجلَّ، حتى يقولَ قلبُك بكلِّ قوةٍ وتعظيمٍ وإجلالٍ: "لا إله إلا الله" يخشعُ بها القلبُ، ويذلُّ ويخضعُ لجلالِ روعةِ وعظمةِ خلقِ اللهِ جلَّ في علاه؟

سبحانه على كلِّ شيءٍ قديرٌ، يَعلمُ ما كانَ، وما يكونُ، وما سيكونُ وما لا يكونُ لو كانَ كيفَ كانَ يكونُ ، إذا أراد شيئًا فإنما يقول له: "كن" فيكون.

 

الخطبة الثانية

أيُّها المُسلمون : إنَّ التفكرَ في خلقِ اللهِ تعالى يَزيدُ الإيمانَ، ويرفعُ الهمّةَ، ويجعلُ المسلمَ يواظبُ على فعلِ الخيراتِ وعملِ الصالحاتِ كما أنَّ التفكرَ في خلقِ الله فيه دعوةٌ للمسلم ليهجرَ الذنوبَ والمعاصي؛ إذ إنَّ التفكُّرَ في عَظَمَةِ اللهِ وواسعِ قدرتهِ وعظيمِ بطشهِ وشدةِ انتقامهِ - يورثُ القلبَ خوفًا ووجَلاً وخشيةً تحولُ بين المسلمِ وبينِ الشهواتِ.

أيُّها المُسلمون : مدحَ اللهُ سبحانه وتعالى المتفكِّرين فِي خلقهِ وبيَّن أن صفةَ التفكرِ من صفاتِ أولي الألباب؛ أي: أصحابُ العقولِ الناضجةِ والأفهامِ النيِّرةِ، فقالَ سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ..

المشاهدات 701 | التعليقات 0