الواسطة والشفاعة
محمد بن إبراهيم النعيم
الخطبة الأولى
أيها المسلمون
لقد أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- بمساعدة الناس وتفريج كربهم وحل مشاكلهم، وعظَّم أجر من سعى في ذلك فقال –صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ) رواه مسلم.
وَمِنَ المعلوم أَنَّ ثَوَابَ الطَّاعَةِ الْمُتَعَدِّيَةِ، أَعْظَمُ قَدْرًا مِنْ ثَوَابِ الطَّاعَةِ اللازمة ؛ فَصَلاَةُ الْعَبْدِ وَصِيَامُهُ وَذِكْرُهُ لَهُ، وَلَكِنَّ خَيْرَهُ الَّذِي يَتَعَدَّى إِلَى إِخْوَانِهِ، وَسَعْيَهُ فِي إِعَانَتِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ وَنُصْحِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ: يَكُونُ أَكْبَرَ أَثَراً وَأَعْظَمَ قَدْراً عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، وَصِلَةُ الرَّحِم، وَالإِحْسَانُ إِلَى الآخَرِينَ، أَعْظَمُ نَفْعاً مِنْ صَلاَةِ التَّطَوُّعِ، وَالاِعْتِكَافِ وَالذِّكْرِ؛
لأَنَّ تِلْكَ الطَّاعَاتِ الأُخْرَى طَاعَاتٌ مُتَعَدِّيَةٌ، وَهَذَا مِنْ عَظَمَةِ هَذَا الدِّينِ الْمَجِيدِ، الَّذِي يُخَلِّصُ الإِنْسَانَ مِنْ أَنَانِيَتِهِ، وَيَجْعَلُهُ نَبْعاً لِلْخَيْرِ، وَظِلاَّ يَأْوِي إِلَيْهِ الآخَرُونَ.
وقد قال –صلى الله عليه وسلم-: (صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ)، وقال أيضا: (خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ).
ومن صور المساعدة التي حث عليها النبي –صلى الله عليه وسلم- الشفاعة الحسنة لأخيك، ونقصد بها: استخدام وجاهتك ومكانتك الاجتماعية في حل مشاكل إخوانك المسلمين. فإن من أعظم أبواب النفع للمسلمين باب الواسطة والشفاعة الحسنة، قال الله عز وجل }مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا{، أي له نصيب من الأجر، وقال –صلى الله عليه وسلم-: (اشفعوا تؤجروا) رواه البخاري.
ويشترط أن تكون الواسطة أو الشفاعة في أمرِ خيرٍ واضح بيّن، كمن يتوسط بين متخاصمين للصلح بينهما، أو زوجين متنافرين ليجمع بينهما، أو التوسط بين دائن ومدين للرفق به وحط شيء من دَينه، أو التوسط لشخص لأنه يمتاز بالأمانة وفي توظيفه تفريج لكربته مع عدم ظلم أحد من الناس.
وكان الصحابة رضوان الله عليهم إذا ضاقت بهم ضائقة ذهبوا إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يسألونه الشفاعة لهم فيها عند أصحابها، فكان النبي –صلى الله عليه وسلم- يشفع لهم، فعندما أُعتقت بريرة وكانت متزوجة بمغيث طلبت الطلاق منه لأنه لا يزال عبدا لم يحرر، فبكى عليها لفرط حبه لها، فذهب إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- ليشفع له عند بريرة كي لا تطلب الطلاق، فقد روى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم- لِعبَّاسٍ: (يَا عَبَّاسُ أَلا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا)، فَقَالَ النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ رَاجَعْتِهِ) قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: (إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ)، قَالَتْ: لا حَاجَةَ لِي فِيهِ" رواه البخاري.
والملاحظ في هذه الأيام انتشار الواسطة في كثير من الأمور، فلا تكاد تصل إلى حق من الحقوق أو أمر تريده إلا بواسطة!
وهناك بعض الناس يظن أن كل شفاعةٍ أو واسطةٍ فيها أجر وثواب! وهذا غيرُ صحيح، لأن الله تعالى قال: }مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا{، فدل ذلك على وجود نوع من أنواع الشفاعات هو حرام، وهي الشفاعة السيئة، فقد يشفع إنسانٌ بجاهه ومنزلته وكلمته المسموعة ليغتصب حقوق الآخرين ويظلمهم ويأكل أموالهم بالباطل، وقد يشفع إنسانٌ في تزويج فاسق أو توظيف رجل غير كفء، أو يتوسط لرجل مع دفع رشوة.
فإن الشفاعة أو الواسطة إذا ترتب عليها تقديم شخص على آخر، أو أخذ حق من حقوقه، أو كان توسطه يترتب عليه حرمان موظف آخر أكفأ منه من ترقية ، فإنها لا تجوز مطلقا، أما إذا كانت المساعدة فيها عونا لشخص محتاج، ولا يوجد فيها ضرر على الآخرين، وليست مخالفة للنظام فلا ضير فيها.
والوساطات والشفاعات تختلف صورها وأحوالها وآثارها، وكذلك الناس يختلفون في مبدأ الواسطة، ففريق غالى وزاد فيها، فتراه يتوسط بحق وبغير حق، وفريق آخر شدد في الواسطة والشفاعة وأغلق بابها، فلا ينفع قريبًا ولا يشفع لصديق، ولا يعين محتاجًا ولا يقف مع صاحب حق، والأصل بين الناس النفع والإعانة والشفاعة والمساعدة فيما يقدر المرء عليه ولا يضر بها أحد؛ لقوله –صلى الله عليه وسلم- (مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ) رواه مسلم.
وينبغي العلم أن هناك أمورا لا تجوز الشفاعة فيها، كالشفاعة في إيقاف حد من حدود الله عز وجل، فقد روت عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-؟ فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-، فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-، فَكَلَّمَهُ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: (أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ)؟ فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- فَاخْتَطَبَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَإِنِّي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ يَدُهَا) متفق عليه.
فإذا وصل الحد إلى السلطان فلا يجوز الشفاعة في إيقاف الحدود، وأما إذا لم يصل مرتكب الحد إلى السلطان فالستر عليه والعفو عنه لا بأس فيه.
وللشفاعة الحسنة أحكام تتعلق بها، وتنبيهات يجدر بالمسلم أن يفطن لها، فإذا شفعت لأخيك المسلم شفاعة حسنة: فلا يجوز لك أن تشترط مقابلا على تلك الشفاعة والواسطة، فبعض الناس قد يبذل جاهه ووساطته مقابل مبلغٍ مالي يشترطه، ليعين شخصًا في وظيفة أو ينقل آخر من دائرة لأخرى، أو من منطقة إلى أخرى، ويأخذ على هذا مبلغًا ماليًا يشترطه، فهذا لا يجوز.
بل حتى لو لم يشترط، فلا يجوز له قبول أي هدية مقابل هذه الشفاعة، والدليل ما رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة –رضي لله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ شَفَعَ لأَحَدٍ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً فَقَبِلَهَا، فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ الرِّبَا) رواه أبو داود.
وإذا قلنا بتحريم أخذ الهدية على الشفاعة والواسطة ولو لم يشترط، فإنه لا يدخل في ذلك استئجار شخص لإنجاز معاملة ومتابعتها وملاحقتها في الدوائر الحكومية، مقابل أجرة معلومة، فهذا باب آخر غير مسألة الشفاعة والواسطة، فهو من باب الإجارة، فأنت تطلب من مكتب خدمات مثلا تخليص معاملة لك، فهو يسعى لإنجازها بجهده وليس بجاهه ومكانته الاجتماعية، فهذا جائز لا شيء فيه،
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من البيان والحكمة، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر أهل السنة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه الرحيم ذو الفضل والمنة.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى
أيها الأخوة في الله
فلا بد من التأكيد على من يقوم بالتوسط للناس في حاجاتهم أن يعلم أن هناك شفاعةً حسنة وأخرى سيئة، لقوله عز وجل: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا). فعليه أن لا يتوسط ولا يشفع إلا في خير بيّن، وأن يحذر أن يكون سببًا في وساطة سيئة قد تكون سببًا في اغتصاب حق امرئ مسلم وحرمانه من هذا الحق.
ولنعلم أن الواسطة والشفاعة أمانة، وأن خطابات التزكية والتوصية أمانة، ولا يجوز فيها المجاملة، فكم من صاحب حق مُنع حقه بشفاعة أو واسطة ظالمة وغير شرعية، وأعطي هذا الحق لمن لا يستحقه، فالضابط في الواسطةِ الجائزة أن تكون الواسطة غير مخالفة للشرع أو للنظام، ولا يترتب عليها ضرر للآخرين.
ولكن لو نظرنا لكثير من المجتمعات العربية اليوم لوجدنا أن الواسطة تلعب دورًا سلبيا في حياة الناس، فيحصل على الوظيفة أحيانًا أناس لا يستحقونها، ويحصل على قطع الأراضي من ليس بحاجة لها، ويقبل في الجامعات طلاب دون المعدّلات المطلوبة، على حساب من هو أكفء منهم، وإذا استمر الحال كذلك فإنّ الناس سوف يتكلون على الواسطة ويتركون التنافس الشريف فيما بينهم، فلماذا يتعلم الإنسان ويحاول الحصول على الدرجات العليا ويكدّ نهارًا ويسهر ليلاً إذا كان يستطيع الحصول على وظيفة مثلا في مكانٍ ما بشفاعة أو بخطاب تزكية؟
فبعض الناس يستغل علاقته بالوجهاء أو الكبراء ليعتدي على حقوق الآخرين، وينزل منزلاً ليس من حقه، فينال به مالاً ليس ماله أو وظيفة ليست له، وهذا لا شك نوع من الظلم.
فحينما يوسَّد الأمر إلى غير أهله بسبب الواسطة والعلاقات الشخصية يحدث الخلل، فلا يسند العمل إلى الماهر أو المتخصص، وإنما يسند للضعفاء مهنيًّا وغير المتخصصين ليفسدوه بدلاً من أن يصلحوه، والسبب لأن العامل أو الموظف الذي تعين ابن لفلان أو قريبه أو صديقه، فتؤدَّى الأعمال بلا كفاءة، وبالتالي يؤدي إلى تخلف في الصناعات والمهارات، وتتبدل التركيبة السليمة لمنظومة القيم في المجتمع، فيعاني المتخصصون من البطالة، ويرفل غيرهم في نعيم الوظائف والأعمال.
فإذا أردت أخي المسلم التوسط لأحد فيجب عليك التأكد أنك لن تضر أحدا ولا تأخذ حق آخر.
ولا شك أن الاعتماد اليوم على التقنية، والفرز عبر وسائل التقنية الالكترونية من أفضل الوسائل التي تخفف وطأة الواسطة ولا تبخس المجدين حقوقهم، فكم نتمنى أن يستمر الترشيح للوظائف والقبول في الجامعات وغيرها من قطاعات عبر البوابة الالكترونية ليتم فرز المرشحين وفقا لكفاءتهم ومستوياتهم العلمية، كي يقضى على الشفاعة المذمومة.
أسأل الله تعالى أن يحفظنا وإياكم من الزلل، ويوفقنا لصالح القول والعمل، نعوذ بالله من أن نَظلم أو نُظلم، اللهم استعملنا فيما يرضيك. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا== اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي == اللهم أحينا على أحسن الأحوال == اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا == اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا،
12/11/1433هـ