الهَمُّ والحُزْنُ سَبَبٌ وعِلَاجٌ 1445/1/17ه
يوسف العوض
الخطبة الأولى
أيُّها المسلمون: كان رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، كَثِيرًا مَا يَسْتَعِيذُ باللهِ مِن الهَمِّ والحَزَنِ، وَمَا ذاكَ إلَّا لِعِظَمِ خَطَرِهِما عَلَى العَبْدِ فِي أُمُورِ دِينِهِ وَدُنياه ، قالَ أَنَسُ بْنُ مالِكٍ رضيَ اللهُ عَنْهُ: كُنْتُ أَخْدِمُ النبيَّ صلى اللهُ عَلَيْه وسلم، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا يَقُولُ: ( اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الهَمِّ والحَزَنِ وَالعَجْزِ والكَسَلِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجالِ ) ، فَاسْتَعَاذَ صَلَّى اللهُ عَليِه وسَلَّمَ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَشْيَاءٍ كُلِّ شَيْئَيْنِ مِنْهَا قَرِينَانِ : فَالْهَمُّ وَالْحُزْنُ قَرِينَانِ ، وَهُمَا اَلْأَلَمُ اَلْوَارِدُ عَلَى اَلْقَلْبِ ، فَإِنَّ كَانَ عَلَى مَا مَضَى فَهُوَ اَلْحُزْنُ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا يُسْتَقْبِلُ فَهُوَ اَلْهَمُّ ، ، وَالْعَجْزُ وَالْكَسَلُ قَرِينَانِ ، فَإِنَّ تَخَلُّفَ مَصْلَحَةِ اَلْعَبْدِ وَبُعْدَهَا عَنْهُ إِنْ كَانَ مِنْ عَدَمِ اَلْقُدْرَةِ فَهُوَ عَجْزٌ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عَدَمِ اَلْإِرَادَةِ فَهُوَ كَسَلٌ ، وَالْجُبْنُ وَالْبُخْلُ قَرِينَانِ ، فَإِنَّ اَلْإِحْسَانَ يُفْرَحُ اَلْقَلْبَ وَيَشْرَحُ اَلصَّدْرَ وَيَجْلِبُ اَلنِّعَمَ وَيَدْفَعُ اَلنِّقَمَ ، وَتَرْكُهُ يُوجِبُ اَلضَّيْمَ وَالضِّيقَ وَيَمْنَعُ وُصُولَ اَلنِّعَمِ إِلَيْهِ ، فَالْجُبْنُ تَرْكُ اَلْإِحْسَانِ بِالْبَدَنِ ، وَالْبُخْلُ تَرْكُ اَلْإِحْسَانِ بِالْمَالِ ، وَضِلَعُ اَلدِّينِ وَغَلَبَةُ اَلرِّجَالِ قَرِينَانِ ، فَإِنَّ اَلْقَهْرَ وَالْغَلَبَةَ اَلْحَاصِلَةَ لِلْعَبْدِ إِمَّا مِنْهُ ، وَأَمَّا مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ شِئْتُ قُلْتَ : إِمَّا بِحَقٍّ وَإِمَّا بِبَاطِلٍ مِنْ غَيْرِهِ .
وَحَدِيثُنَا مَقْصُورٌ اَلْآنَ عَلَى اَلْهَمِّ وَالْحُزْنِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهُمَا ، فنَقولُ أنَّ لِلْهَمِّ والحَزَنِ أسبَاباً:
أَوَّلُها: الذُّنُوبُ والْمَعاصِي ، فَإِنَّ لِلْمَعْصِيَةِ ظُلْمَةً فِي القَلْبِ، تَجْعَلُ صاحِبَها فِي هَمٍّ وَغَمٍّ، وَوَحْشَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، تَجْعَلُهُ لَا يَتَلَذَّذُ بِطاعَةِ اللهِ، وَلَا يَأْنَسُ بِذِكْرِ اللهِ. يَقُولُ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( إذا أَذْنَبَ العَبْدُ، نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْداءُ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ واسْتَغْفَرَ، صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ، زِيدَ فِيها، حَتَّى يَعْلُوَ قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الذي قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ ).
الثاني: التَّعَلُّقُ بالدنيا، يَقُولُ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( مَنْ كانت الدُّنيا هَمَّه، فَرَّقَ اللهُ عليه أَمْرَه، وجَعَل فقرَه بين عَيْنَيْه، ولَمْ يأتِه مِن الدنيا إلا ما كُتِبَ لَه. ومن كانت الآخرةُ نِيّتَه، جَمَعَ اللهُ له أَمْرَه، وجَعَل غِناه في قلبِه، وأَتَتْهُ الدنيا راغِمَة ). وَقَدْ دَعا النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم عَلَى عَبْدِ الدينارِ والدِّرْهَمِ بِالتَّعاسةِ فقال: ( تعِسَ عَبْدُ الدينارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ ).
الثالثُ: الأَوْهامُ: فَإِنَّها مِن الأَمْراضِ النَّفْسِيَّةِ، وَهِيَ مَا يَقَعُ في القَلْبِ مِنْ الخَوَاطِرِ، وَتَضْخِيمِ الوَقَائِعِ إِلَى عدة أُمُورٍ غَيْرِ حَقِيقِيَّةٍ، سَوَاءً كانَت الوَقَائِعُ مُتَعَلِّقَةً بِنَفْسِ الشَّخْصِ، أَوْ بِحُكْمِهِ عَلَى الآخَرِين. فَكَمْ مِنْ شَخْصٍ أَصابَه عَارِضٌ يَسِيرٌ فِي صِحَّتِهِ، فَصارَ بِسَبَبِ الوَهْمِ مَرَضًا مُسْتَعْصِيًا. وَكَمْ مِنْ شَخْصٍ أَلْصَقَ بِإِخْوانِهِ التُّهَمَ وَهُمْ أَبْرِياءُ مِنْها، بِسَبَبِ الأوْهامِ. وَكَمْ مِنْ شَخْصٍ وَقَعَ فِي الوَسْوَاسِ فِي صَلَاتِه وَطَهارَتِهِ بَلْ وَعَقِيدَتِهِ بِسَبَبِ الأَوْهامِ.
الرابعُ: كَثْرَةُ الجِدَالِ فِي الأُمُورِ التي لَا تُفِيدُ، والتي لَا يَجْنِي مِنْها الْمُتَحاوِرُونَ إلَّا ضَيَاعَ الوَقْتِ وإيغَارَ الصُّدُورِ. وَقَدْ تَكَفَّلَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وَسَلَّم بِبَيْتٍ ( فِي رَبَضِ الجنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِراءَ وَإِنْ كانَ مُحِقًّا ). وَأَخْبَرَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم أَنَّه مِن عَلَامَاتِ الضَّلالِ بِقَوْلِه: ( ما ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى أُوتُوهُ إلَّا أُوتُوا الجَدَلَ ). مَا لَمْ يَكُن الجِدالُ مُشْتَمْلًا عَلَى النُّصْحِ والتَّوْجِيهِ وَبَيانِ الحَقِّ، إذا كان بالتي هِيَ أَحْسَنُ.
الخامسُ: الحَسَدُ، فَإِنَّ الحَسُودَ مَرِيضٌ، مُعَذَّبٌ، يُعَذِّبُ نَفْسَه بِانْشِغالِهِ في عِبادِ اللهِ، وَحُزْنِهِ عَلَى النِّعَمِ التي يَراهَا تَنْزِلُ عَلَى إخْوانِهِ، وَتَمَنِّي زوالَها عَنْهُم. فَإِنَّ الحَسُودَ عَدُوُّ النِّعْمَةِ. مُعْتَرِضٌ عَلَى تَقْدِيرِ اللهِ في ذلك، كَأَنَّه يَلُومُ رَبَّه عَلَى ذلك، نَعُوذُ بِاللهِ.
الخطبة الثانية
عِبادَ اللهِ: وَمِنْ أَسْبابِ الهَمِّ والحَزَنِ: عَدَمُ القَناعَةِ، فَإِنَّ عَدَمَ القَنَاعَةِ سَبَبٌ لِلتَّنافُسِ فِي الدنيا وانْشِغالِ القَلْبِ بِها، يَقُولُ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( أُنْظُرُوا إلى مَنْ هُوَ أسْفَلَ مِنْكُم، ولا تَنْظُرُوا إلى مَنْ هُوَ فَوقَكم فإنَّه أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيكُم ). كَثَيرٌ مِن الناسِ قَدْ حَمَّلُوا أَنْفُسَهُم ما لَا يُطِيقُونَ وَأَثْقَلُوا كَوَاهِلَهُم بِالدُّيُونِ والالْتِزاماتِ بِسَبَبِ النَّظَرِ إلى مَنْ هُمْ فَوْقَهُمْ فِي الْمَسْكَنِ والْمَرْكَبِ والْمَلْبَس،ِ وَلَوْ أَنَّهُم قَنَعُوا بِمَا آتاهُم اللهُ، وعاشُوا عَلَى قَدْرِ كِفايَتِهِمْ وَطاقَتِهِمْ لَكان خَيْرًا لَهُمْ، وَلَا يُعَدُّ ذلك عَيْبًا.