الهلع من غلاء الاسعار ..
د محمد بن حمد الهاجري
أما بعد: فأوصيكم - عباد الله - ونفسي بتقوى الله، فاتقوه حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واحذروا الدنيا فالعمر فيها قصير؛ سرورها إلى حزن، واجتماعها إلى فرقة، وصحتها إلى سُقْم، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [فاطر: 5].
عباد الله، إن ربكم سبحانه قدر المقادير، وقسم الأرزاق، وكتب الآجال، وجعل عباده متفاوتين في ذلك، ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ﴾ [الأنعام: 165]، وكل ما في الكون من حركة ولا سكون إلا بمشيئته وإرادته، وهذه الدنيا هي دار الابتلاء والامتحان، والله يبتلي عباده بالسراء؛ ويبتليهم بالضراء؛ ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35].
وإن من الابتلاء ظهور الغلاء وارتفاع الأسعار؛ لما له من آثار سيئة تلحق الفرد والمجتمع، ونعلم أن هذا الغلاء ليس عندنا فقط بل هو عام في الدول وخاصة الدول المعتمدة على غيرها في المنتجات، ولهذا الغلاء أسبابه العالمية والمحلية، ولسنا في مقام تحليل لهذه الأسباب؛ وإنما نريد الحديث حول التوجيهات الشرعية في مثل هذه الغلاء.
عباد الله: لقد عانى كثير من المسلمين من غلاء الأسعار وخاصة في الأعوام الأخيرة ولا يزال ذلك في ازدياد، وهذا بطبعه أثَّر على معيشة كثير من الناس، وأدى بهم إلى زيادة الحاجة والعوز،والوقوع في معاصي الله من أجل الحصول على لقمة العيش.
وأصبح كثير من الناس يشتكي هذا الغلاء، وخاصة الفقراء، ولكن غاب عن الجميع أن الغلاء له أسباب كثيرة ومتعددة.
إنه قد يكون وراء ذلك أسباب اقتصادية أو أسباب أخلاقية أو غيرُها من الأسباب، إلا أن السبب الأعظم الذي تنتج عنه الشدائد والمصائب ـ ومنها القحطُ والغلاء والفتنُ والبلاء ـ هو معصية الله عز وجل والبعد عن طاعته، كما قال الله تبارك وتعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ[الشورى: 30]، وقال سبحانه: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 165]، وقال عز وجل: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[النور: 63].
عباد الله .. إن غلاء الأسعار لم يسلم منه أفضل العهود وأزكاها عصرُ النبي ﷺ وأصحابِه، ففيه تسلية وعزاء لكل مجتمع قد يصاب في دنياه بشيء من المصائب ولو كان على دين وتقوى وصلاح فإن الابتلاءات كما تكون عقوبات فإنها قد تكون أيضاً لتكفير السيئات ورفع الدرجات. ، فقد وقع الغلاء في زمان النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعَنْ أَنَس بن مالك -رضي الله عنه- قَالَ: غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ (إِنَّ اللَّهَ هُوَ المُسَعِّرُ، القَابِضُ، البَاسِطُ، الرَّزَّاقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ). (2)
قال السندي: فيه إشارة إلى أن التسعير تصرف في أموال الناس بغير إذن أهلها، فيكون ظلما فليس للإمام أن يسعر، لكن يأمرهم بالإنصاف والشفقة على الخلق والنصيحة.
ونقل لنا علماؤنا الذين كتبوا في التاريخ الإسلامي فظائع وأهوال بسبب وقوع الغلاء في هذه الأمة من ذلك:
- ما ذكره ابن كثير في أحداث سنة (334 هـ)
قال: في هذه السنة وقع غلاء شديد ببغداد حتى أكلوا الميتة والكلاب، وكان من الناس من يسرق الأولاد فيشويهم ويأكلهم، وكثر الموت في الناس حتى كان لا يدفن أحدٌ أحدا، بل يتركون على الطرقات، فيأكل كثيرا منهم الكلاب، وبيعت الدور والعقار بالخبز، وانتجع الناس البصرة فكان منهم من يموت في الطريق، ومن وصل منهم مات بعد مديدة.
وقال ابن الجوزي: وفي سنة (448هــ) غلت الأسعار، وانقطعت الطريق من القوافل للنهب المتدارك، ولحق الفقراء من معاناة الغلاء ما كان سببا للوباء والموت حتى دفنوا بغير غسل ولا تكفين، وكان الناس يأكلون الميتة، واغْبرَّ الجو، وفسد الهواء، وكثر الذباب، ووقع الغلاء والموت بمصر أيضا، وكان يموت في اليوم ألف نفس، وعظم ذلك في رجب وشعبان، حتى كفن السلطان من ماله ثمانية عشر ألف إنسان، وحمل كل أربعة وخمسة في تابوت، وعم الوباء والغلاء مكة، والحجاز، وديار بكر، والموصل، وخراسان، والجبال، والدنيا كلها.
وقال ابن كثير: وفي سنة (462 هــ) كان غلاء شديد وقحط عظيم بديار مصر، بحيث أنهم أكلوا الجيف والميتات والكلاب، فكان يباع الكلب بخمسة دنانير، وماتت الفيلة فأُكلت، وأفنيت الدواب فلم يبق لصاحب مصر سوى ثلاثة أفراس ; وكان لا يجسر أحد أن يدفن ميِّتَه نهارا، وإنما يدفنه ليلا خُفْيَةً ; لئلا يُنبش فيُؤكل.
وقال ابن كثير: وفي سنة (596 هــ) وفى التي بعدها كان بديار مصر غلاء شديد، فهلك بسببه الغنيُّ والفقير، وهرب الناسُ منها نحو الشام فلم يصل إليها إلا القليل، وتخطفهم الفرنج من الطرقات وغرُّوهم من أنفسهم واغتالوهم بالقليل من الأقوات.
وفي أواخر هذه السنة (694) والتي تليها حصل بديار مصر غلاء شديد، هلك بسببه خلق كثير، هلك في شهر ذي الحجة نحو من عشرين ألفا.
وقال السيوطي: وفي سنة ست وتسعين وخمسمائة توقف النيل بمصر، بحيث كَسَرها، ولم يُكمل ثلاثة عشر ذراعاً، وكان الغلاء المفرط بحيث أكلوا الْجِيَفَ والآدميين.
وفَشَا أكلُ بني آدم واشتُهر وَرُوِي من ذلك العجب العجاب، وتَعَدَّوْا إلى حفر القبور وأكل الموتى، وتمزّق أهلُ مصر كل ممزق، وكثُر الموت من الجوع بحيث كان الماشي لا يقع قدمه أو بصره إلا على ميت أو مَن هو في السياق، وهلك أهل القرى قاطبة بحيث إن المسافر يمر بالقرية فلا يرى فيها نافخ نار، ويجد البيوت مفتحة وأهلها موتى.
وقد حكى الذهبي في ذلك حكايات يقشعر الجِلْدُ من سماعها، قال: وصارت الطرق مُزَرَّعة بالموتى وصارت لحومها للطير والسباع، وبيعت الأحرار والأولاد بالدراهم اليسيرة، واستمر ذلك إلى أثناء سنة ثمان وتسعين وخمسمائة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم …..
الخطبة 2
عباد الله، يتحدث الناس عن ظاهرة غلاء الأسعار، ويُلْقُون التُّهَم يمنةً ويسرة، ويضعون الحلول والآراء، ويناقشون الأسباب والمسببات وكل واحد نصب نفسه خبيرا اقتصاديا ويفهم أكثر من غيره ، وثمة سبب نتغافل عنه، ألا وهو فُشُوُّ الذنوبِ والسيئات والتهاون في الفرائض والواجبات، أما علمنا أنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة؟! ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾
عباد الله .. إن ارتفاع الأسعار ورخصها بيد الله تعالى فمن صفاته جل وعلا أنه يبسط ويقبض ويرفع ويخفض ومن ذلك أنه يبسط الأرزاق ويكثرها فترخص أسعارها ويقبض الأرزاق ويقللها فترتفع أسعارها، وكل ذلك على ما تقتضيه حكمته وهو الحكيم العليم.
وإذا كانت الأسعار بيد الله سبحانه هو المتصرف فيها كما يشاء فعلى العباد أن يعلّقوا قلوبهم بالله ويسألوه ما ينفعهم من رخص الأسعار ووفرة الأرزاق كما قال النبي ﷺ لما قيل له سعر قال (بل أَدعو) أي بل أدعو الله تعالى أن يرخص الأسعار ويبسط الأرزاق.
فالواجب علينا يا أهل الإيمان أن نعود باللوم والمحاسبة إلى أنفسنا على تقصيرها في حق ربها ، ووقوعها في معاصيه وحرماته ، ((وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ )) . فالذنوب والمعاصي ومخالفة أوامر الله والتعدي على حدوده سبب في ضيق المعايش ونقص الأرزاق؟! قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليحرم الرزق بسبب الذنب يصيبه)).
فوا عجباً من حالنا .. نتذمر ونتسخَّط ونجزع من الغلاء والرسوم ، وفينا من لا يشهدون صلاة الفجر والمضيعون للصلاة والمقصرون في الجماعة ، فينا قاطع الرحم والعاق لوالديه وآكل المال الحرام وباخس حقوق الناس والمتساهل في النظر إلى المنكرات وفينا مانع الزكاة ومضيع الأمانات ، واستشرى فينا الإسراف في المآكل والمشارب في المناسبات ، وظهرت فينا مظاهر عدم شكر النعمة مما هي أسباب لنقص النعم بل وزوالها، ونطلب المزيد والثبات لها .. هذا يخالف سنة الله التي جرت وتجري في العباد، فنحن الذين تعاطينا أسباب نقص الأرزاق ، فلنستحِ من ربنا ولنتوقف عن السخط وهذه حالنا فنحن نستحق ما هو أكبر من هذا البلاء ، لولا عفو الله ورحمته ولطفه ورأفته وحلمه علينا .
فنحن عبيد لله مربوبون له يدبرنا كيف يشاء بعلم وحكمة ورحمة.. فتوبوا الى الله واصبروا وأبشروا بحسن العاقبة في العاجلة والآجلة . وأبشروا بالفرج بعد الشدة وبالسعة بعد الضيق .
واتركوا عنكم التشكي والتسخط والتذمر فهي منافيات للصبر ، فلا تضيعوا أجر الصبر على البلاء بإطلاق العنان للسان .
أيها الناس .. قارنوا حالكم بحال من حولكم من دول الجوار لتعرفوا عظيم نعمة الله عليكم ... قارنوا حالكم بحال المشردين وحال الخائفين وحال المعدمين .. لتعرفوا عظيم نعمة الله عليكم بما أبقى لكم من النعم ، فتشتغلوا بشكره عليها بدل النوح على ما نقص منها .
عباد الله، علينا أن نشكر الله على نعمه علينا؛ والتي لا تُعد ولا تُحصى، فشكر النعم سبب في بقائها ودوامها، ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]. والشكر ليس باللسان فقط؛ بل بالتزام أوامر الله؛ وأداء فرائضه كما أمر؛ والوقوف عند حدوده.
والزموا الاستغفار والتوبة ، فما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة واستغفار ((وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ )). فيجب علينا أن نحاسب أنفسنا؛ ونعود إلى ربنا؛ بالتوبة والاستغفار؛ والإنابة والاستقامة؛ والتضرع والدعاء، فنؤدي فرائضه؛ ونترك ما حرمه؛ ونقف مع حدوده؛ ونسأله أن يعيننا على أمور ديننا ودنيانا؛ وأن يكشف عنا هذا الغلاء؛ وأن يبارك لنا فيما رزقنا.
فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على نعمه وآلائه، وسارعوا إلى مغفرته وجناته. وبادروا الآجال بصالح الأعمال، واحفظوا الأعمار أن تذهب سدى في القيل والقال، ومعصية رب العزة والجلال، وصمّوا آذانَكم عن المغرضين الحاقدين الذين يقتنصون الفرص لإثارة الشعوب على ولاة الأمور لزرع الأحقاد وإشعال الفتن لا سيما عند حلول الأزمات والجوائح والمشاكل الاقتصادية. فإن عواقبَ دعواتِهم سفكُ الدماء، وذهابُ الأمن، وخراب الديار. وتمسكوا بما أمركم الله به في قوله (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا). اللهم رخص أسعارنا ووسع أرزاقنا وبارك لنا فيها، اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق إمامنا وولي عهده لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، اللهم هيء لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبد الله بن علي الطريف
أحسنت أخي الكريم وأجدت
تعديل التعليق