الهجرة والعام الجديد 2-1-1434هـ
عوض القحطاني
1434/01/01 - 2012/11/15 03:33AM
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي منّ علينا بالإسلام، وأرسل إلينا محمدا عليه أفضل الصلاة والسلام، بعثه الله بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه، وسراجا منيرا: )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا(الأحزاب:45-46بعثه الله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، وحجة على العباد أجمعين. فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(آل عمران:164) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(الأنبياء:107.)لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(
أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولـو كـره المشركون ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المنزل على عبده: ) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا( النساء:100 ،وأشهد أن نبينـا محمدا عبده ورسوله القائل للصديق فى الغار:(( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ))، فصلى الله عليه وسلم تسليما كثيراً.
أما بعــد: فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله، فمن رام خيراً غفيراً ورزقاً وفيراً ومقاماً كبيراً؛ فعليه بتقوى الله، فمن حققها حقق في الدنيا مجداً أثيراً، وفي الآخرة جنة وحريراً، ورَوحاًَ وعبيراً.واعلموا أن مرور الليالى والأيام وتصرم الدهور والأعوام مؤذن بانقضاء الآجال وتغير الأحوال فهذا يوم قد ذهب وانقضى وهذا شهر قد تصرم وانتهى وهذا عام قد طويت صحائفه ومضى وهكذا تتغير الأحوال وتنقضى الآجال والكل منا في غفلة وتسويف وأمال متشعبة وغفلة مستولية وانهماك في الشهوات وتلهف على مافات وأفكار تدور على جمع الحطام ونفوس تتلوث بأوضار الذنوب والآثام إلى متى ونحن في سكرة الدنيا وحتى متى ونحن في حظيرة اللهو والهوى متى تستيقظ ضمائرنا وتتنور بصائرنا ونجعل همنا ما أمامنا من القدوم على الله والسؤال عن الصغير والكبير والجليل والحقير لقد زجرنا القرآن بمواعظة وآياته وصروف الدهر بنوازله وتقلباته ولكننا في ثياب الغفلة رافلون وعما يراد بنا غافلون )اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ* مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ(الأنبياء:1-2
عباد الله : لقد ودعتم عاما مضت أيامه ولياليه وطويت صحائفه وما تحويه وهل يمكن رد شيء مما فيه أو أصلاحه أو تلافيه كلا فليس إلى هذا من سبيل إلا بالتوبة الصادقة المقرونة بالندم على ما سلف وكان والرجوع إلى طاعة الملك الديان وقد استقبلتم عاما جديدا فجددوا عزمكم على التقوى فإنها هي النجاة من المخاوف وفيها السعادة الأبدية وعليكم التمسك بكتاب ربكم وسنة نبيكم فأن فيهما ما يكفل لكم السعادة والسيادة0
عباد الله، وفي بداية كل عام للمسلمين ذكرى عطرة يسترجعون فيها سيرة نبيهم ، إذ يستذكرون فيه هجرة نبيهم من مكة إلى المدينة، ويستذكرون كيف فرق الله بهذه الهجرة بين الحق والباطل، ويستذكرون فرحة المسلمين بوصول نبيهم إلى المدينة سالمًا، ويستذكرون كيف كانت آلام وحسرات الكافرين وغمهم بما تحقق للمسلمين ولنبيهم من خيرات بعد تلك الهجرة المباركة، ويستذكر المسلمون كيف حول الله تلك المصائب والآلام التي لازمت النبي وصحبه، كيف حولها الله إلى خيرات ونعم ورغد واستقرار. والمسلم لا يستذكر أمرًا ثم لا يستفيد منه، ولا يستذكر تاريخًا عطرًا من تاريخ أمته ثم يجعل من تلك الذكرى سببا لمخالفة نبيه وسلف أمته، وسببا لجلب سخط ربه جل وعلا. فالمسلم بعيد عن تلك المنكرات التي تقع في بعض المجتمعات ادعاء لمحبة النبي ، بينما هي منكرات وبدع سيمنع صاحبها من الورود على نبيه الذي أحبه، ولا تشمتوا بهم فهم دهماء سذج مساكين، سلوا الله لهم ولنا ولكم وللمسلمين أجمعين الفقه في الدين.
يستذكر المسلم في ذكرى هجرة نبيه الكريم تلك اللحظات العصيبة التي مرت بالنبي ليلة الهجرة، وكيف أحاط به صناديد قريش يريدون قتله في خطة محكمة لا تقبل الفشل بكل مقاييس البشر، وخطة لا ينتج عنها خسارة لهم ولا مسؤولية عليهم ولا إحراجا لهم أمام القبائل من غيرهم، ولكن عندما تتعارض إرادة الله جل وعلا مع إرادة البشر تنقلب كافة الموازين، وتطيش كل صنوف الكيد والمكر التي يتمتع بها الدهاة.
كلنا يتذكر كيف خرج رسول الله من بين تلك السيوف المشهرة ليحثو التراب في وجوه وعلى رؤوس حامليها، وهو يتلو قول ربه جل وعلا: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [يس:9]. وكلنا يتذكر حال النبي مع صاحبه في الغار لثلاث ليال، وعدوهما يجول حولهما ويصول، ولكنها عناية الله تحجبهما عن عدوهما. يتذكر المسلم هذه اللحظات فيزداد يقينه بحفظ ربه له، وبنصر الله لجنده مهما اشتدت الكرب وتعسرت الأحوال، فلا يستعجل ولا يتهور فيضيع دنياه، وقد يلحق بها دينه عياذا بالله، ولكنا نتذكر قول أبي بكر رضي الله عنه: كنت مع النبي في الغار، فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا! قال: ((اسكت يا أبا بكرٍ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)). فيظل الله حافظا لهما؛ لأنهما لم ينسيا الله جل وعلا لا في رخائهما ولا شدتهما.
وكلنا يتذكر سراقة بن مالك لما لحق بهما، وكاد أن يدركهما، كيف لطف الله به فمنعه عن الوصول إليهما، ولم يهلكه لتكون تلك عبرة له وآية لعله أن يهتدي بها، وهكذا كان كما حوله الله بلطفه وحكمته من طالب لهما إلى حام لهما، صادٍّ الناسَ عنهما، فتكون تلك الذكرى للمسلم عبرة وآية، فلا يستعجل الأمور ولا ييأس؛ لأنه يدرك أن الله لا يقضي بمكروه محض على عباده وإن كرهوه وتثاقلوه، فدوما في كل مكروه خير مخفيّ لا يدركوه، (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216].
وكلنا يدرك أن رسول الله هو خير الخلق أجمعين وصفي رب العالمين، وما غضب الله جل وعلا لشيء كما غضب سبحانه لأذية نبيه المصطفى، ومع ذلك حمّله جل وعلا شيئا مما يكره بمفارقة بلده وأهله وعشيرته؛ ليجعل من ذلك درسًا لأمته في أن لا تتخاذل ولا تستسلم ولا تستعجل النتائج في كل شأنها، ولتعلم أن كل أمر خير أو مكروه مربوط بسببه الذي قد لا ينفك. فهل ـ يا ترى ـ لو بقي النبي في بلده، هل سيتحقق له أن يعود إليها بعد سنوات فاتحًا غالبًا، يحطم آلهة قريش وتخضع له الصناديد منهم قبل الضعفاء؟! يبتلى المرء بما يكره، فيصبر ويعايش ظرفه ولا يستسلم له، فتكون العاقبة الحميدة له. كم من رجل له بأس شديد على أهله وعلى من حوله يقف مستسلما خاضعا لظرف سيئ يمر به، كم من رجل يظن الحياة فقط في بلده وعند أهله فإذا نأى رزقه وبعد عنه قعد مستسلما كإحدى نساء بيته، ولست أقصد ـ عياذا بالله ـ سخرية ولا شماتة ولا أريد مطالبة بمستحيل، ولكنها الدنيا كما هي الجنة؛ لا تأتي لكسول ولا لمتهاون فيها متكل على غيره، (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء:100].
لا تقف ولا تيأس ولا تتكل على أحد، اعمل وابحث واصبر وانظر إلى من هو دونك، فستجد النهاية حميدة بإذن الله. يجب أن نتخذ من سيرة النبي منهجًا، وأن يكون تذكرنا لها تذكرًا لتلك المواقف والآلام التي مرت بالمصطفى؛ لنعلم كم أحبنا رسول الله ، وكم أشفق وخاف علينا، فلقد تحمل الأذى وصبر، تحمل أذى أعدائه، وتحمل جهل أصحابه، وتحمل سوء طباع بعض من ابتلي بسوء الخلق، وإذا علمنا مدى حبّه لنا ومدى حرصه على إنقاذنا من عذاب ربنا كان ذلك أدعى للتأسي به والتفقه في رسالته التي أرسل بها، إذ حب رسول الله لنا ليس لهيئاتنا وأشكالنا ولا لقرابة منا، ولكن لرسالة بلغها فاقتدينا بها. باقتدائنا بها نفوز بحب ربنا، وباقتدائنا بها نفوز بحب نبينا ، يقول جل وعلا: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران:31].
عبد الله، هل تعلم أن رسول الله يتمنى لو رآك وجلس معك يحادثك؟! نعم، أنت يتمنى سيد الخلق رؤيتك ومحادثتك، فهل تبادله أنت نفس الشعور؟! إذا أجبت بنعم فالزم ما يحقق لك ذلك، يقول لأصحابه: ((وددت أنا قد رأينا إخواننا))، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: ((أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد))، فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟! فقال: ((أرأيت لو أن رجلاً له خيلٌ غر محجلةٌ بين ظهري خيلٍ دهمٍ بهمٍ، ألا يعرف خيله؟!)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجالٌ عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا)). رؤية النبي لك ورؤيتك له تتطلب منك التزام الصلاة والتطهر لها في أوقاتها، وأداؤها كما كان يؤديها. التزامك سنته وتخلقك بخلقه يجعلك قرينه ورفيقه، فالمرء يحشر مع من أحب، والمحب لا بد أن يصبر على ما تكرهه نفسه لأجل حبيبه، والمحب لا يخالف لحبيبه سنة ولا طريقة ولا أمرًا.
جعلني الله وإياكم ووالدينا ووالديهم وذرياتنا وأزواجنا وسائر قرابتنا وأحبابنا من أحباب نبيا ، وحشرنا في زمرته، وأسعدنا في الدنيا باتباع سنته وفي الآخرة بصحبته.
أقول قولي هذا...
الحمد لله حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، والشكر له على توفيقه وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا هو جل جلاله وتقدست أسماؤه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله دعا إلى الحق وإلى طريق مستقيم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره وأحب سنته وتخلق بخلقه إلى يوم الدين.
وبعد: عباد الله، ومع مرور عام كامل وانقضاء مرحلة من مراحل العمر بخيرها وشرها، فلنتحدث عن خبر الرجال الأربعة، فهل سمعتم بها مسبقا؟! هم أربعة رجال خرجوا من بلادهم، تركوا أهاليهم وعشيرتهم طلبًا للرزق، وانقطعت أخبارهم عمن وراءهم، حتى مضى عام كامل فكانت أخبارهم على النحو التالي:
أما الأول منهم فقد عاد لأهله بما تعجز عن حمله المراكب الثقال، ففرح به أهله وفرح بهم، فكان في نعيم لا يوصف.
وأما الثاني فقد عاد صفر اليدين لا له ولا عليه، عاد كما راح، فكانت رحلته بمثابة الفرصة الأخيرة له لتحسين معيشته فأضاعها، ولم يفلح فيها، وبقي يرجو تلطف من حوله عليه.
وأما الثالث فكان يتوارى من صحبه عند عودته؛ إذ قد عاد وهو يبحث عمن يسدّد عنه أجرة المركب الذي عاد به، فكان وبالا وخسارة على أهله قبل سفره وبعد عودته، فيعيش في حسرة، يأمل خلاصا ولا يجد له سبيلا.
وأما الأخير فقد قعدت به ديونه وحبسته عن العودة إلى أهله وبلاده، فبقي يائسا محطمًا معذبًا في نفسه وفي حبسه.
هذه ـ عباد الله ـ حكاية حكاها وعاظ السلف ليشرحوا لنا حالنا، كيف سيكون بعد نهاية سفرتنا هذه، سفرتنا إلى الله والدار الآخرة.
إخوة الإسلام، الله الله في أنفسنا، أوصيكم ونفسي أن نكون كما كان الأول، وصل إلى أهله رافعًا رأسه، فرحًا بهم وفرحين هم به، مثقلا بالخيرات لنفسه ولهم، ولا نكن كالآخرين عادوا بهم أكثر مما كانوا فيه، فرح بحالهم عدوهم ومن كرههم. تخيل نفسك بين يدي ربك، وجميل إن تخيلتها أن تتخيلها في حال جميلة تفرح بها الآن، علك أن تفرح بها يوم القيامة، (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ **فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ **إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ **فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ **فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ **قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ *كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ **وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ **وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ **يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ **مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ **هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ **خُذُوهُ فَغُلُّوهُ **ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ **ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة:18-32]
عبد الله، خذ من تصرم الأيام عبرة، واحمد الله أن مد في عمرك، وأتاح لك الفرصة لتتزود مما يتمناه غيرك من سكان القبور ومقعدي الفرش والدور، واعلم أنك في نعمة إن لم ترعها الآن عضضت أصابعك ندما على فواتها. عد إلى سيرة نبيك المصطفى فتخلق بما تستطيع التخلق به من أعماله وصفاته، ولا تبخل على نفسك بصغير ولا كبير مما يمكنك عمله، وخذ من قول رسول الله نبراسًا تسير على هداه، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا ويسروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدلجة)).
الدين ـ بحمد الله ـ كل أعماله وتكاليفه في مقدور البشر، وما خرج عن القدرة سقط. فالزموا السداد وهو الطريق الصواب بغير إفراط ولا تفريط، إن لم تستطيعوا بلوغ الكمال فاحرصوا على ما يقربكم إليه. وأبشروا إن صدقتم العمل والقصد بقرة عين لا تخطر لكم على بال، ولا تشددوا على أنفسكم ولا على الناس أمور دينهم، واستعينوا على التقرب إلى ربكم بالأوقات التي تحبها أنفسكم وتنشط فيها للعبادة، كما يحرص المسافر على الأوقات التي يرتاح للسفر فيها.
ثم اعلموا أن أكثر ما يصلكم بنبيكم هو الصلاة والسلام عليه في كل حين، وبالأخص في يوم الجمعة، فصلوا عليه وسلموا تسليمًا كثيرًا...
الحمد لله الذي منّ علينا بالإسلام، وأرسل إلينا محمدا عليه أفضل الصلاة والسلام، بعثه الله بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه، وسراجا منيرا: )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا(الأحزاب:45-46بعثه الله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، وحجة على العباد أجمعين. فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(آل عمران:164) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(الأنبياء:107.)لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(
أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولـو كـره المشركون ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المنزل على عبده: ) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا( النساء:100 ،وأشهد أن نبينـا محمدا عبده ورسوله القائل للصديق فى الغار:(( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ))، فصلى الله عليه وسلم تسليما كثيراً.
أما بعــد: فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله، فمن رام خيراً غفيراً ورزقاً وفيراً ومقاماً كبيراً؛ فعليه بتقوى الله، فمن حققها حقق في الدنيا مجداً أثيراً، وفي الآخرة جنة وحريراً، ورَوحاًَ وعبيراً.واعلموا أن مرور الليالى والأيام وتصرم الدهور والأعوام مؤذن بانقضاء الآجال وتغير الأحوال فهذا يوم قد ذهب وانقضى وهذا شهر قد تصرم وانتهى وهذا عام قد طويت صحائفه ومضى وهكذا تتغير الأحوال وتنقضى الآجال والكل منا في غفلة وتسويف وأمال متشعبة وغفلة مستولية وانهماك في الشهوات وتلهف على مافات وأفكار تدور على جمع الحطام ونفوس تتلوث بأوضار الذنوب والآثام إلى متى ونحن في سكرة الدنيا وحتى متى ونحن في حظيرة اللهو والهوى متى تستيقظ ضمائرنا وتتنور بصائرنا ونجعل همنا ما أمامنا من القدوم على الله والسؤال عن الصغير والكبير والجليل والحقير لقد زجرنا القرآن بمواعظة وآياته وصروف الدهر بنوازله وتقلباته ولكننا في ثياب الغفلة رافلون وعما يراد بنا غافلون )اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ* مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ(الأنبياء:1-2
عباد الله : لقد ودعتم عاما مضت أيامه ولياليه وطويت صحائفه وما تحويه وهل يمكن رد شيء مما فيه أو أصلاحه أو تلافيه كلا فليس إلى هذا من سبيل إلا بالتوبة الصادقة المقرونة بالندم على ما سلف وكان والرجوع إلى طاعة الملك الديان وقد استقبلتم عاما جديدا فجددوا عزمكم على التقوى فإنها هي النجاة من المخاوف وفيها السعادة الأبدية وعليكم التمسك بكتاب ربكم وسنة نبيكم فأن فيهما ما يكفل لكم السعادة والسيادة0
عباد الله، وفي بداية كل عام للمسلمين ذكرى عطرة يسترجعون فيها سيرة نبيهم ، إذ يستذكرون فيه هجرة نبيهم من مكة إلى المدينة، ويستذكرون كيف فرق الله بهذه الهجرة بين الحق والباطل، ويستذكرون فرحة المسلمين بوصول نبيهم إلى المدينة سالمًا، ويستذكرون كيف كانت آلام وحسرات الكافرين وغمهم بما تحقق للمسلمين ولنبيهم من خيرات بعد تلك الهجرة المباركة، ويستذكر المسلمون كيف حول الله تلك المصائب والآلام التي لازمت النبي وصحبه، كيف حولها الله إلى خيرات ونعم ورغد واستقرار. والمسلم لا يستذكر أمرًا ثم لا يستفيد منه، ولا يستذكر تاريخًا عطرًا من تاريخ أمته ثم يجعل من تلك الذكرى سببا لمخالفة نبيه وسلف أمته، وسببا لجلب سخط ربه جل وعلا. فالمسلم بعيد عن تلك المنكرات التي تقع في بعض المجتمعات ادعاء لمحبة النبي ، بينما هي منكرات وبدع سيمنع صاحبها من الورود على نبيه الذي أحبه، ولا تشمتوا بهم فهم دهماء سذج مساكين، سلوا الله لهم ولنا ولكم وللمسلمين أجمعين الفقه في الدين.
يستذكر المسلم في ذكرى هجرة نبيه الكريم تلك اللحظات العصيبة التي مرت بالنبي ليلة الهجرة، وكيف أحاط به صناديد قريش يريدون قتله في خطة محكمة لا تقبل الفشل بكل مقاييس البشر، وخطة لا ينتج عنها خسارة لهم ولا مسؤولية عليهم ولا إحراجا لهم أمام القبائل من غيرهم، ولكن عندما تتعارض إرادة الله جل وعلا مع إرادة البشر تنقلب كافة الموازين، وتطيش كل صنوف الكيد والمكر التي يتمتع بها الدهاة.
كلنا يتذكر كيف خرج رسول الله من بين تلك السيوف المشهرة ليحثو التراب في وجوه وعلى رؤوس حامليها، وهو يتلو قول ربه جل وعلا: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [يس:9]. وكلنا يتذكر حال النبي مع صاحبه في الغار لثلاث ليال، وعدوهما يجول حولهما ويصول، ولكنها عناية الله تحجبهما عن عدوهما. يتذكر المسلم هذه اللحظات فيزداد يقينه بحفظ ربه له، وبنصر الله لجنده مهما اشتدت الكرب وتعسرت الأحوال، فلا يستعجل ولا يتهور فيضيع دنياه، وقد يلحق بها دينه عياذا بالله، ولكنا نتذكر قول أبي بكر رضي الله عنه: كنت مع النبي في الغار، فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا! قال: ((اسكت يا أبا بكرٍ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)). فيظل الله حافظا لهما؛ لأنهما لم ينسيا الله جل وعلا لا في رخائهما ولا شدتهما.
وكلنا يتذكر سراقة بن مالك لما لحق بهما، وكاد أن يدركهما، كيف لطف الله به فمنعه عن الوصول إليهما، ولم يهلكه لتكون تلك عبرة له وآية لعله أن يهتدي بها، وهكذا كان كما حوله الله بلطفه وحكمته من طالب لهما إلى حام لهما، صادٍّ الناسَ عنهما، فتكون تلك الذكرى للمسلم عبرة وآية، فلا يستعجل الأمور ولا ييأس؛ لأنه يدرك أن الله لا يقضي بمكروه محض على عباده وإن كرهوه وتثاقلوه، فدوما في كل مكروه خير مخفيّ لا يدركوه، (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216].
وكلنا يدرك أن رسول الله هو خير الخلق أجمعين وصفي رب العالمين، وما غضب الله جل وعلا لشيء كما غضب سبحانه لأذية نبيه المصطفى، ومع ذلك حمّله جل وعلا شيئا مما يكره بمفارقة بلده وأهله وعشيرته؛ ليجعل من ذلك درسًا لأمته في أن لا تتخاذل ولا تستسلم ولا تستعجل النتائج في كل شأنها، ولتعلم أن كل أمر خير أو مكروه مربوط بسببه الذي قد لا ينفك. فهل ـ يا ترى ـ لو بقي النبي في بلده، هل سيتحقق له أن يعود إليها بعد سنوات فاتحًا غالبًا، يحطم آلهة قريش وتخضع له الصناديد منهم قبل الضعفاء؟! يبتلى المرء بما يكره، فيصبر ويعايش ظرفه ولا يستسلم له، فتكون العاقبة الحميدة له. كم من رجل له بأس شديد على أهله وعلى من حوله يقف مستسلما خاضعا لظرف سيئ يمر به، كم من رجل يظن الحياة فقط في بلده وعند أهله فإذا نأى رزقه وبعد عنه قعد مستسلما كإحدى نساء بيته، ولست أقصد ـ عياذا بالله ـ سخرية ولا شماتة ولا أريد مطالبة بمستحيل، ولكنها الدنيا كما هي الجنة؛ لا تأتي لكسول ولا لمتهاون فيها متكل على غيره، (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء:100].
لا تقف ولا تيأس ولا تتكل على أحد، اعمل وابحث واصبر وانظر إلى من هو دونك، فستجد النهاية حميدة بإذن الله. يجب أن نتخذ من سيرة النبي منهجًا، وأن يكون تذكرنا لها تذكرًا لتلك المواقف والآلام التي مرت بالمصطفى؛ لنعلم كم أحبنا رسول الله ، وكم أشفق وخاف علينا، فلقد تحمل الأذى وصبر، تحمل أذى أعدائه، وتحمل جهل أصحابه، وتحمل سوء طباع بعض من ابتلي بسوء الخلق، وإذا علمنا مدى حبّه لنا ومدى حرصه على إنقاذنا من عذاب ربنا كان ذلك أدعى للتأسي به والتفقه في رسالته التي أرسل بها، إذ حب رسول الله لنا ليس لهيئاتنا وأشكالنا ولا لقرابة منا، ولكن لرسالة بلغها فاقتدينا بها. باقتدائنا بها نفوز بحب ربنا، وباقتدائنا بها نفوز بحب نبينا ، يقول جل وعلا: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران:31].
عبد الله، هل تعلم أن رسول الله يتمنى لو رآك وجلس معك يحادثك؟! نعم، أنت يتمنى سيد الخلق رؤيتك ومحادثتك، فهل تبادله أنت نفس الشعور؟! إذا أجبت بنعم فالزم ما يحقق لك ذلك، يقول لأصحابه: ((وددت أنا قد رأينا إخواننا))، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: ((أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد))، فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟! فقال: ((أرأيت لو أن رجلاً له خيلٌ غر محجلةٌ بين ظهري خيلٍ دهمٍ بهمٍ، ألا يعرف خيله؟!)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجالٌ عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا)). رؤية النبي لك ورؤيتك له تتطلب منك التزام الصلاة والتطهر لها في أوقاتها، وأداؤها كما كان يؤديها. التزامك سنته وتخلقك بخلقه يجعلك قرينه ورفيقه، فالمرء يحشر مع من أحب، والمحب لا بد أن يصبر على ما تكرهه نفسه لأجل حبيبه، والمحب لا يخالف لحبيبه سنة ولا طريقة ولا أمرًا.
جعلني الله وإياكم ووالدينا ووالديهم وذرياتنا وأزواجنا وسائر قرابتنا وأحبابنا من أحباب نبيا ، وحشرنا في زمرته، وأسعدنا في الدنيا باتباع سنته وفي الآخرة بصحبته.
أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، والشكر له على توفيقه وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا هو جل جلاله وتقدست أسماؤه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله دعا إلى الحق وإلى طريق مستقيم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره وأحب سنته وتخلق بخلقه إلى يوم الدين.
وبعد: عباد الله، ومع مرور عام كامل وانقضاء مرحلة من مراحل العمر بخيرها وشرها، فلنتحدث عن خبر الرجال الأربعة، فهل سمعتم بها مسبقا؟! هم أربعة رجال خرجوا من بلادهم، تركوا أهاليهم وعشيرتهم طلبًا للرزق، وانقطعت أخبارهم عمن وراءهم، حتى مضى عام كامل فكانت أخبارهم على النحو التالي:
أما الأول منهم فقد عاد لأهله بما تعجز عن حمله المراكب الثقال، ففرح به أهله وفرح بهم، فكان في نعيم لا يوصف.
وأما الثاني فقد عاد صفر اليدين لا له ولا عليه، عاد كما راح، فكانت رحلته بمثابة الفرصة الأخيرة له لتحسين معيشته فأضاعها، ولم يفلح فيها، وبقي يرجو تلطف من حوله عليه.
وأما الثالث فكان يتوارى من صحبه عند عودته؛ إذ قد عاد وهو يبحث عمن يسدّد عنه أجرة المركب الذي عاد به، فكان وبالا وخسارة على أهله قبل سفره وبعد عودته، فيعيش في حسرة، يأمل خلاصا ولا يجد له سبيلا.
وأما الأخير فقد قعدت به ديونه وحبسته عن العودة إلى أهله وبلاده، فبقي يائسا محطمًا معذبًا في نفسه وفي حبسه.
هذه ـ عباد الله ـ حكاية حكاها وعاظ السلف ليشرحوا لنا حالنا، كيف سيكون بعد نهاية سفرتنا هذه، سفرتنا إلى الله والدار الآخرة.
إخوة الإسلام، الله الله في أنفسنا، أوصيكم ونفسي أن نكون كما كان الأول، وصل إلى أهله رافعًا رأسه، فرحًا بهم وفرحين هم به، مثقلا بالخيرات لنفسه ولهم، ولا نكن كالآخرين عادوا بهم أكثر مما كانوا فيه، فرح بحالهم عدوهم ومن كرههم. تخيل نفسك بين يدي ربك، وجميل إن تخيلتها أن تتخيلها في حال جميلة تفرح بها الآن، علك أن تفرح بها يوم القيامة، (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ **فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ **إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ **فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ **فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ **قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ *كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ **وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ **وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ **يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ **مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ **هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ **خُذُوهُ فَغُلُّوهُ **ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ **ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة:18-32]
مثل وقوفك يـوم العرض عريانـا مستوحشا قلق الأحشاء حيرانـا
والنـار تلهب من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا
اقـرأ كتابك يـا عبدي علـى مهل فهل ترى فيه حرفا غير ما كانـا
لما قـرأت ولَم تنكـر قـراءتـه إقرار من عرف الأشياء عرفانـا
نـادى الجليـل خذوه يا ملائكتِي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا
المشركـون غدا في النـار يلتهبوا والْمؤمنـون بدار الخلد سكانـا
عبد الله، خذ من تصرم الأيام عبرة، واحمد الله أن مد في عمرك، وأتاح لك الفرصة لتتزود مما يتمناه غيرك من سكان القبور ومقعدي الفرش والدور، واعلم أنك في نعمة إن لم ترعها الآن عضضت أصابعك ندما على فواتها. عد إلى سيرة نبيك المصطفى فتخلق بما تستطيع التخلق به من أعماله وصفاته، ولا تبخل على نفسك بصغير ولا كبير مما يمكنك عمله، وخذ من قول رسول الله نبراسًا تسير على هداه، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا ويسروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدلجة)).
الدين ـ بحمد الله ـ كل أعماله وتكاليفه في مقدور البشر، وما خرج عن القدرة سقط. فالزموا السداد وهو الطريق الصواب بغير إفراط ولا تفريط، إن لم تستطيعوا بلوغ الكمال فاحرصوا على ما يقربكم إليه. وأبشروا إن صدقتم العمل والقصد بقرة عين لا تخطر لكم على بال، ولا تشددوا على أنفسكم ولا على الناس أمور دينهم، واستعينوا على التقرب إلى ربكم بالأوقات التي تحبها أنفسكم وتنشط فيها للعبادة، كما يحرص المسافر على الأوقات التي يرتاح للسفر فيها.
ثم اعلموا أن أكثر ما يصلكم بنبيكم هو الصلاة والسلام عليه في كل حين، وبالأخص في يوم الجمعة، فصلوا عليه وسلموا تسليمًا كثيرًا...