النفعيون ثعالب أم واقعيون .. عمار بن ناشر العريقي
الفريق العلمي
لا ينكر عاقل أن حب الذات في طلب جلب المنفعة لها، ودفع المضرة عنها طبيعة وفطرة بشرية، بل وشريعة إلهية؛ فما شرع الدين إلا لحفظ مصالح الناس في دنياهم وآخرتهم؛ (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
لكن النفعية المشروعة مشروطة بأن تكون الأسباب مباحة غير ممنوعة، وألا يترتب عليها ضرر على النفس وعلى الآخرين؛ لمنافاة ذلك أخلاق وحقوق المؤمنين؛ "مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى له سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى"(متفق عليه).
ويبقى خير الناس وصفوتهم وقدوتهم من لا يكتفون بالعبادات القاصر أثرها على النفس؛ كصلاة الجماعة والأذكار فالمتفرغون لها وإن كانوا عليها يؤجرون، لكنهم من عظيم ثواب العبادات والأخلاق التي يعم أثرها ونفعها؛ كالبذل والتضحية مغبونون؛ (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ)[التوبة: 19].
وفي صحيح الجامع؛ "أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ- شَهْرًا".
بعض من هذه القدوات والدروس والدورات تنمي وللأسف طبيعة الشخصية النرجسية؛ وهي الموغلة في الأنانية وحب الذات وعشق المال والشهرة والزعامة؛ كما تنمي الشخصية البرجماتية؛ وهي العاجزة عن التحكم في رغبات النفس لتحقيق ما يمكن من كمال الاستمتاع واللذة.
الشخصية النفعية الذرائعية المصلحية الوصولية نوع من النفاق الاجتماعي، وهي إذا لم تتعهد بالمحاسبة يمكنها ان تهدر الثوابت الدينية والوطنية إذا تعارضت مع مصالحها الشخصية، وقديما؛ أكثر الحسن البصري من التحذير من النفاق والمنافقين، فقيل له : يا أبا سعيد، أفي البصرة منافقون؟ قال: لو خرج المنافقون من أسواق البصرة لاستوحشتم؛ أي لشعرتم بالوحشة والغربة، وفي رواية: "لم يبق في البصرة أحد؛ فإذا كان ذلك في زمن كبار التابعين؛ فلا عجب توافرهم في مثل وضعنا الأليم.
طبيعة الشخصية النفعية حرباوية؛ سريعة التقلب والتلون بتغير الأوضاع، وهوى المتثعلب المتقلب دائما مع القوي التغلب بعيدا عن المبادئ والقيم والثوابت الدينية والأخلاقية والوطنية؛ بل تراهم يطوعونها حسب المصلحة الشخصية فما أشبههم ب ؛ (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)[البقرة:14]؛ ظاهرهم بديع لكن باطنهم شنيع؛ (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)[المنافقون: 4].
وخطاب النفعيين غامض حمّال أوجه، وجوه أصحابه صفيقة وابتسامتهم صفراء باهتة؛ يتعاملون بمقتضى الجشع والإقصاء والأنانية؛ ينظرون للناس بمعيار الفوقية والدونية؛ يمسكون العصا من الوسط؛ ليجعلوا لأنفسهم خط رجعة حتى لا يحسبوا على فئة أو أحد حين تقلب الزمان ورجحان كفة الميزان يحاولون كسب رضا كل الأطراف المتنازعة المتناقضة و المختلفة والمتضادة في آن.
إثبات ضدين معا في حال *** هذا لعمر الله من المحال
شتان بين الحالتين فمن يرم *** جمعا فما الضدان يجتمعان
والله ما اجتمعا ولن يتلاقيا *** حتى تشيب مفارق الغربان.
أيها المنكح السهيل ثريا *** عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت *** وسهيل إذا استقل يماني
يغير النفعي موقعه من الإعراب بلا ضابط ولا معيار، ولذا؛ فهو يتنقل بين الاحزاب والمناهج والمبادئ والشعارات والأفكار ويصير لمخالفيه خصما عنيدا لدودا بهذا الاعتبار، وللانتماء القبلي والمناطقي تأثير في موقفه السياسي والفكري والعسكري بحسب الموقع الجغرافي لا المصلحة الوطنية والمبدأ الشرعي.
وما أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية أرشد.
وكون النفعي يمسك العصا من الوسط؛ فهو يدعي أو يتوهم الوسطية؛ كونها لا تشرع بين طرفين أحدهما حق والآخر باطل؛ (ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا)[النساء: 62]؛ فحاله كما قال الإمام البيحاني -رحمه الله-:
يدور مع الزجاجة حيث دارت *** ويلبس للسياسة ألف لبس
وعند الإنجليز يعد منهم *** وفي باريس محسوب فرنسي
يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن *** وإن لقيت معديا فعدناني.
وتبقى الآثار السيئة للثعالب النفعية محتملة مالم يتولوا القيادة؛ كونهم لا يعملون على الإصلاح الحقيقي؛ فإذا اشتغلوا بالسياسة؛ كانوا أسوأ ممن كانوا ينكرون من الساسة؛ (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)[البقرة: 205]؛ ذلك لأنهم يكرهون الظالم حسدا له، ولا يتعاطون الظلم لعجزهم عنه؛ مُكرهٌ أخاك لا بطل.
وأخيرا؛ فإن علاج هذه الآفة الظاهرة ممكن من خلال العناية القصوى بحسن اختيار البيئة والصحبة، والعناية القصوى بإصلاح وسائل الإعلام والتربية والتعليم، ومعالجة اختلالات مناهج بعض المربين أو المدربين في مثل برامج التنمية البشرية والبرمجة اللغوية العصبية غير المؤسلمة والمتأثرة بالحضارة الغربية المادية والبراجماتية النفعية والذرائعية والوصولية والتي يسمونها زورا بغير اسمها حنكة ومرونة وواقعية؛ (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ)[البقرة: 42].
والتذكير بأن إتمام مكارم الأخلاق هي الغاية الأولى من البعثة النبوية وأن الشريعة بما تضمنته من عقائد وأحكام إنما جاءت لتطهير النفوس من أدران الشح؛ (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9].
وجاء في صحيح مسلم؛ "وَاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ".
إنارة العقل مكسوفٌ بطوع هوىً *** وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا
ونعوذ بالله من فتنة القول بلا علم ولا عمل.