النظافة والتجمل-13-2-1436هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف
محمد بن سامر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله-صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا-أما بعد:
فيا أيها الإخوة، الإسلامُ دينُ الفطرةِ، تَصلُحُ له وتَصلُحُ به كلُّ الأزمنةِ وكلُّ الأمكنةِ، فهو دينُ العقيدةِ والشريعةِ، يُعالِجُ شُؤونَ الحياةِ كلِّها.
دينٌ يَجمَعُ البشاشةَ في حياءٍ، وحُسنَ الخلقِ في ابتسامةٍ، دينٌ يعترفُ بما للبَشَرِ من أشواقٍ قلبيةٍ، وحظوظٍ نفسيةٍ، وطبائعَ إنسانيةٍ، لقد أقرَّ الدينُ ما تتطلبُه الفطرةُ من سرورٍ وفرحٍ، ولباسٍ وزينةٍ، محاطٍ بسياجٍ من الأدبِ الرفيعِ، يَبْلُغُ بالمتعةِ كمالَها ونقاءَها، وبالسرورِ غايتَه بعيدًا عن الخنا والحرامِ، والظلمِ والعدوانِ، والغِلِّ وإيغالِ الصدورِ.
ومتطلباتُ الفطرةِ هذِهِ جاءتْ في دينِ الإسلامِ مصاحبةً ومرتبطةً وملازمةً للعناية بإصلاحِ المعتقدِ وسلامةِ الباطنِ: [يا أَيُّهَا الْمُدَّثّرُ*قُمْ فَأَنذِرْ*وَرَبَّكَ فَكَبّرْ*وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ*وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ].
فتطهيرُ العقيدةِ وتنقيتُها من شوائبِ الشِركِ والبِدعِ والمعاصي مَقرونٌ بِتطهيرِ الظاهرِ في بدنِ الإنسانِ وثوبِه وبقعتِه، ليجمعَ المسلمُ بين النظافتينِ، ويحافظَ على الطهارتينِ.
فحينَ يُجَمِّلُ الدينُ بَواطنَهم بالهدايةِ إلى الصراطِ المستقيمِ، فإنه يُجَمِّلُ ظَواهرَهم في أحسنِ تقويمٍ.
إذا كانَ ذلكَ كذلكَ-أيها الإخوةُ-فإنَّ الأخذَ بالزينةِ، والقصدَ إلى التجملِ، والعنايةَ بالمظهرِ، والحرصَ على التنظفِ والتطهرِ من أصولِ الإصلاحِ الدينيةِ والمدنيةِ التي جاءَ بها دينُنا وتميَّز بها أتباعُه.
إنَّ حبَ الزينةِ والتزينِ من أقوى غرائزِ البشرِ الدافعةِ لهم إلى إظهارِ سننِ اللهِ في الخليقةِ.
ولقدِ امتنَ اللهُ على بني آدمَ كلِّهم بِلُبْسِ الزينةِ حين قال-عز شأنه-: [يَا بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوارِى سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذلِكَ خَيْرٌ].
يقولُ أهلُ العلمِ: خصَ-سبحانَه-الريشَ بالذكرِ؛ لأنه ليس في أجناسِ الحيوانِ كالطيرِ، في كثرةِ أنواعِ ريشِها، وبهجةِ مناظرِها، وتعددِ ألوانِها، فهي جامعةٌ لجميعِ أنواعِ المنافعِ والزينةِ.
يقولُ الحافظُ ابنُ القيمِ-رحمه الله تعالى-: "ولمحبته-سبحانَه-للجمالِ أَنزلَ على عبادِه الجمالينِ: اللباسَ والزينةَ تُجَمِّلُ ظواهرَهم، والتقوى تُجَمِّلُ بواطنَهم، وقال في أهل الجنة: [وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيرًا].
فجَمَّلَ وجوهَهم بالنضرةِ، وبواطنَهم بالسرورِ، وأبدانَهم بالحريرِ.
ونبينا محمد-صلى الله عليه وآله وسلم-يقولُ: "خمسٌ مِنَ الفطرةِ: الاستحدادُ(حلقُ شعرِ العانةِ: الشِعرةِ)، والخِتانُ، وقصُّ الشاربِ، ونَتْفُ الإِبِطِ، وتقليمُ الأظافرِ"، إنها الفطرةُ وسُنَنُ المرسلينَ؛ اتفقتْ عليها الشرائعُ، ودعتْ إليها الدياناتُ، وتَرْكُ ذلك وإهمالُه مُزْرٍ بالجسمِ، وتَشبُهٌ بالوُحوشِ والسِباعِ، بل تَشبُهٌ بالكفارِ المبتعدينَ عن صحيحِ الفطرةِ وهديِ المرسلينَ.
ومن أجل هذا-أيها الإخوة-فإنَّ الإسلامَ حريصٌ على أخذِ أبنائه بنظافةِ الحسِ مع نظافةِ النفسِ، وصفاءِ القلبِ مع نقاءِ البدنِ، وسلامةِ الصدرِ مع سلامةِ الجسدِ، فاللهُ يُحب المطهرينَ ويُحب المتطهرينَ.
أيها الإخوة، المسلمون هم الذين نَشروا النظافةَ والتنظيفَ في أصقاعِ الدنيا حيثما حَلُّوا وأينما وُجِدوا، مما لمْ تعرفْه الأممُ السابقةُ قبلَهم.
إنَّ مَنْ يقرأُ تاريخَ الأممِ والمللِ يعلمُ أنَّ أكثرَ البشرِ يعيشونَ كما تعيشُ الوحوشُ في جَزائرِ البحارِ، وكُهوفِ الجبالِ، وأكواخِ الأدغالِ، كُلُّهُم أو جُلُّهُم يعيشون عُراةً أو شِبْهَ عُراةٍ، الرجالُ منهم والنساءُ.
وما دَخَلَ الإسلامُ بيئةً ولا بيتًا إلا وعلَّمهم حُسْنَ الْلِّباسِ، وجمَالَ السَّترِ، ونظافةَ البدنِ، وطهارةَ المسلكِ بالإيجابِ تارةً وبالاستحبابِ أُخرى، فَنَقَلَهم مِنَ الوحشيةِ الفاحشةِ إلى الحضارةِ الراقيةِ.
وهذا الحديثُ لا يَخُصُ العصورَ الغابرةَ، بلْ إنَّك وبِكلِّ ثِقةٍ وأسًى لا ترى أمكنةً أو أزمنةً انطمستْ فيه آثارُ النبوةِ إلا ويتجلى فيها صورُ الجهلِ والظلمِ، والكفرِ بالخالقِ، والشركِ بالمخلوقِ، واستحسانِ القبائحِ، وفسادِ العقائدِ، وانحرافِ السلوكِ، وما خَلِيَتْ ديارٌ مِنْ هديِ النبوةِ إلا وكان أهلُها أشبهَ بالبهائمِ، يَتهارشونَ في الطرقاتِ، ويَتعاملونَ كالعجماواتِ، لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، ولا يتورعون عن قبيحٍ، ولا يهتدون إلى سبيل، وأدلةُ ذلك في هذا العصر لا تُعدُ و لا تُحصى.
إنَّ المسلمينَ نماذجُ رائعةٌ للطهرِ والجمالِ، عندما يُنَفِّذُونَ تعاليمَ دينهِم في أبدانهِم وبيوتهِم وطرقِهم ومدنِهم، ومساكينُ بعضُ المنتسبينَ إلى الإسلامِ ممن يُوَلُّونَ وجوهَهم شَطْرَ الشرقِ والغربِ، شطرَ نُظُمٍ وتقاليدَ وعاداتٍ يُعجبونَ بها وهي لِغيرِهم، يَتشبثونَ بها وعندهم خيرٌ منها، في دينِهم-واللهِ-ما هو أزكى وأتقى وأعلى وأنقى [صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً].
أيها الإِخوان: وهذا عرضٌ لبعضِ مظاهرِ الطُهرِ والنقاءِ والجمالِ والزينةِ في توجيهاتِ الإسلامِ، وسلوكِ المسلمينَ المتمسكينَ؛ الطَّهورُ شطرُ الإيمانِ، والصلاةُ أهمُ فرائضِ الإسلامِ بعدَ الشهادتينِ، شُرِعَ لها التطهرُ من الحدثِ، والتَنَظُفِ من الَقذَرِ والنَّجَسِ، والوضوءُ على الوضوءِ نورٌ على نورٍ، مع مطلوباتِ من الوضوءِ أخرى؛ للنومِ والعباداتِ الطارئةِ كالجنازةِ والخسوفِ والكسوفِ وسجود التلاوةِ والعيدينِ وغيرِ ذلك.
إنها الصلواتُ الخمسُ، تُنظفُ الباطنَ وتنهى عن الفحشاءِ والمنكرِ، و وُضوؤها يُنظفُ الظاهرَ؛ قال-صلى الله عليه وآله وسلم-: "أرأيتُم لو كانَ بابُ أحدِكم على نهرٍ جارٍ يغتسلُ منه خمسَ مراتٍ أيبقى من درنِه-وسخِه-شيءٌ".
وغُسلُ الجمعةِ واجبٌ على كلِّ محتلمٍ، قال-صلى الله عليه وآله وسلم-: "لا يغتسلُ رجلٌ يومَ الجمعةِ، ويتطهرُ ما استطاعَ مِن طُهْرٍ، ويَدَّهنُ من دُهنِه، ويَمَسُ مِن طِيبِ بيتِه، ثم يخرجُ فلا يُفَرِقُ بينَ اثنينِ، ثم يصلي ما كُتِبَ له، ثم يُنْصِتُ إذا تكلمَ الإمامُ إلا غُفِرَ له ما بينه وبين الجُمعةِ الأخرى".
والتطهرُ المأمورُ به ليس مقصورًا على المجامعِ ومجالسِ الناسِ، ولكنه مطلوبٌ في جميعِ الأحوالِ، حتى إذا مَكثَ المرءُ في بيتِه أو ذهبَ إلى فراشِه، قال-صلى الله عليه وآله وسلم-: "طهروا الأجسادَ طهَّرَكم اللهُ؛ فإنه ليس عبدٌ يبيت طاهرًا إلا باتَ معهُ في شعارِه ملَكٌ لا يَنقلبُ ساعةً مِن الليلِ إلا قال: اللهم اغفرْ لعبدِك فإنه بات طاهرًا"، "ما من مسلم يبيتُ طاهرًا، فيتعارُ من الليلِ-يستيقظُ-فيسألُ الله خيرًا مِن أمرِ الدنيا والآخرةِ إلا أعطاهُ اللهُ إياهُ".
وأمةُ محمدٍ-صلى الله عليه وآله وسلم-تُعرَفُ يومَ القيامةِ بين الأمم بِغُرتِها وتَحْجيلِها مِن آثارِ الوضوءِ، والسِّواكُ مَطْهرةٌ للفمِ، مرضاةٌ للربِّ، وقصُّ الشاربِ من التجملِ، ومَنْ كان له شَعَرٌ فلْيُكرِمْهُ، بالغَسْلِ والدَّهْنِ والتطييبِ والترجيلِ بالمِشْطِ، وقد رأى رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وآلهِ وسلمَ-رجلا شَعِثًا رَأْسُهُ قد تَفَرَّقَ شعرُهُ فقال: "أمَا كانَ يَجِدُ ما يُسَكِّنُ شعرَه؟".
وقصُ الأظافرِ، وغَسْلُ البراجمِ-مفاصلِ الأصابعِ-، ونَتْفُ شعرِ الإِبِطِ، وحلقُ العانَةِ، واجتنابُ الروائحِ الكريهةِ من الثومِ والكراثِ والبصلِ؛ فالإنسانُ قد يَحْتملُ مِن غيرِه ألوانًا من الأذى، ولكنه لا يصبرُ على الرائحةِ المنتنةِ، تنبعثُ من فمٍ أو عِرِقٍ أو غيرِهما، ويَتأكدُ ذلك في المساجدِ التي يَؤُمُّها المسلمونَ للطاعةِ وذكرِ اللهِ والصلاةِ، وكيف تخشعُ نفسٌ مهتاجةٌ مضطربةٌ تعرّضتْ للأذى، وتَعَكَّرَ عليها صفوُ مناجاةِ الربِّ؟ وانقطعتْ مِن لذةِ التضرعِ والتذللِ؟؟، ومِن المستكرهِ فتحُ الفمِ عندَ التثاؤبِ؛ لما في ذلك مِن قُبْحِ المنظرِ، وقِلَّةِ الذوقِ، وإيذاءِ الجليسِ، وسرورِ الشيطانِ.
وفي مقابلِ ذلك جاء الحرصُ على الطِيبِ والحثِّ على التطيبِ، ونبينُا محمدٌ-صلى الله عليه وآله وسلم-يُحبُ الطيبَ ويُكثرُ منِ التطيبِ.
وغطوا الإناءَ، وأَوْكِئُوا السِقاءَ، واجتنبوا الجُشاءَ، ولا تشربْ مِن فمِ السِّقاءِ، ولا تتنفسْ في الإناءِ، ولا تنفُخْ فيه.
والتنظفُ مِن بقايا الطعامِ وفضلاتِه في الأيدي والأفواهِ والأسنانِ مندوبٌ إليه. وشربَ النبيُ-صلى الله عليه وآله وسلم-لبنًا ثم تمضمضَ وقالَ: "إن له دسمًا".
والتطهرُ والتنظفُ يمتدُ من الأبدانِ إلى البيوتِ والطرقاتِ والمساجدِ ومجامعِ الناسِ؛ [وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]، [فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ*رجالٌ...]، "وإماطةُ الأذى عنِ الطريقِ صدقةٌ".
ومِنِ الدِّقةِ في التعاليمِ رعايةُ طُرُقِ الوقايةِ المحكمةِ في آدابِ قضاءِ الحاجةِ فلا يَتَلَوَثُ بها ماءٌ، ولا يَتَنَجَسُ بها طريقٌ أو ظِلٌ، فقد جاء "النهيُ عنِ البولِ في الماءِ الدائمِ"، وقالَ-عليهِ وآلهِ الصلاةُ والسلامُ-: "اتقوا الملاعنَ الثلاثَ-ابتعدوا عن الثلاثِ التي تجعلُ الناسَ يَلعنُونَكم: البُرازِ في المواردِ وقارعةِ الطريقِ والظِلِّ"، والمواردُ ماءُ الأنهارِ والآبارِ والعيونِ والخزاناتِ وغيرِها التي يستخدمُها الناسُ للغَسَلِ والوُضوءِ والتنظيفِ.
أما حُسْنُ الملبسِ وجمالُ الهيأةِ فمطلوبٌ قدْرَ الاستطاعةِ وحَسْبَ الوُجْدِ، فعنِ الأحوصِ الجُشَمِيِّ-رضيَ اللهُ عنهُ-قالَ: رآني النبيُ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-وعَلَيَّ أطمارٌ-ثيابٌ باليةٌ-فقالَ: "هلْ لكَ مِن مالٍ؟ قلتُ: نعمْ، قال: ومِنْ أيِّ المالِ؟ قلتُ: مِن كلِّ ما آتى اللهُ من الإبلِ والشاءِ، قال: فَلْتُرَ نعمتُه وكرامتُه عليك؛ فهو-سبحانَه-يُحبُ ظُهورَ أثرِ نعمتِه على عبدِه".
وكما قال-عليه وآله الصلاةُ والسلامُ-: "لا يدخلُ الجنةَ مَن كانَ في قلبِه مثقالُ ذرةٍ مِن كِبْرٍ، فقالَ رجلٌ: إنَّ الرجلُ يحب أنْ يكونِ ثوبُه حَسَنًا ونعلُه حسنةً؛ فقال-عليه وآلهِ الصلاةُ والسلامُ-: إنَّ اللهَ جميلٌ يحب الجمالَ، الكِبْرُ بَطَرُ الحقِ وغَمْطُ الناسِ".
وفي الناسِ أجلافٌ يظنون أنَّ قصدَ الزينةِ تَصَنُعٌ، فيردُ عليهم ابنُ الجوزيِ-رحمَه اللهُ تعالى-بقوله: وهذا ليس بشيء فإنَّ اللهَ-تعالى-زَيَنَنَا لما خَلَقَنَا لأنَّ للعينِ حظًا مِن النَظَرِ، وقد كان رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-أنظفَ الناسِ وأطيبَ الناسِ، وكان لا يفارقُه السواكُ، ويكرَهُ أنْ يُشمَّ منه ريحٌ ليستْ طيبةً، فهو-عليه وآلهِ الصلاةُ والسلامُ-كاملٌ في العلمِ والعملِ، فبِه يكونُ الاقتداءُ، وهو الحُجةُ على الخَلْقِ.
بل إنَّ بعضَ الجاهلينَ يحسبون فوضى اللباسِ وإهمالَ الهيأةِ والتبذلَ المستكرهِ نوعًا من العبادة، وربما لبسوا المرقعاتِ والثيابَ المهملاتِ، وهم على خيرٍ منها قادرون، ليُظهروا زهدَهم في الدنيا وحبَهم للأخرى، وهذا جهلٌ وبعدٌ عن الصواب، إنه لا يطيقُ الروائحَ الكريهةَ والأقذارَ المستنكرةَ إلا ناقصُ الفطرةِ وجمالِ الأدبِ، وإنما لَبِسَ المُرَقَّعَ من لَبِسَه من السلف الصالح-رحمهم اللهُ تعالى-ليستمرَ الانتفاعُ به؛ يوضحُ ذلك ويجّلِيهِ الإمامُ أبو بكرٍ بنُ العربيِّ-رحمه اللهُ-حيث يقولُ: "وما حُكي عن عمرَ بنِ الخطابِ-رضي اللهُ عنه-من أنه كان يُرَقِّعُ ثيابَه إنما يفعلُه لاستدامةِ الانتفاعِ به، وذلك شعارُ الصالحينَ حتى اتخذه المتصوفةُ شعارًا فجعلتْه في الجديدِ، وليس بسنةٍ بل هو بدعةٌ...، وإنما المقصودُ من الرَقْعِ هو الانتفاعُ بالثوبِ".
أحبابي الكرام: ومَن دَقَّقَ النظرَ في طبائعِ النفوسِ وأخلاقِ البشرِ رأى بين طهارةِ الظاهرِ وطهارةِ الباطنِ وطهارةِ الجسدِ واللباسِ وطهارةِ النفسِ وكرامتِها ارتباطًا وثيقًا وتلازمًا بيّنًا.
نعم، إن هناك تلازمًا بين شرعِ اللهِ، اللِّباسُ للسَترِ والزينةِ وبين تقوى اللهِ في النفوسِ فكِلاهُما لِباس. فالتقوى لباسٌ يسترُ عوراتِ القلوبِ ويزيِّنُها، والثيابُ تَسترُ عوراتِ الأجسامِ وتزيِّنُها.
مِن تقوى اللهِ يَنْبُعُ الحياءُ الذي يُنْبِتُ الشعورَ باستقباحِ عريِ الجسدِ والحياءِ منه، ومَن لا يستحي مِنَ اللهِ ولا يّتقيهِ لا يكترث ولا يستحي أنْ يتعرى أو يدعوَ إلى التعري.
ومن أجل هذا-أيها الكرام-فإن سَترَ الجسدِ ليس مجردَ أعرافٍ وتقاليدَ، كما يزعمُ الماديونَ الهادمونَ لأسوارِ العِفَةِ والفضيلةِ، ولكنها فطرةُ اللهِ التي فطرَ الخَلْقَ عليها وشريعتُه التي أنزلَها وكرَّمَ بني آدمَ بها.
وبعد-أيها الإخوة-فعنايةُ الإسلامِ بالنظافةِ والتجملِ والصحةِ والتطهرِ جزءٌ مِنْ عنايتِه بقوةِ المسلمِ، إنَّ المطلوبَ أجسامٌ تجري في عروقِها دماءُ العافية، وتمتلئُ أبدانُ أصحابِها قوةً وفتوةً، فالأجسامُ الهزيلةُ الضعيفةُ لا تُطيق حِملا، والأيدي القذرةُ غيرُ المتوضئةِ لا تُقدمُ خيرًا، ورسالةُ الإسلامِ أوسعُ في أهدافِها، وأصلبُ في كِيانِها من أنْ تحيا في أمةٍ مريضةٍ موبوءةٍ عاجزةٍ، [يَابَنِى آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ].
أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين...
أما بعد: فيا أعزائي: إنَّ الأناقةَ مِن غيرِ سَرَفٍ، والتجملَ في غيرِ تكلفٍ مِنْ آدابِ الإسلامِ وتوجيهاتِه، إنه الإسلامُ الذي يَنْشُدُ ويُريدُ لبنيهِ علوَّ المنزلةِ، وجمالَ الهيئة في ظاهرِهم وباطنِهم؛ ليكونوا في الناسِ كالشامةِ البيضاءِ.
غيرَ أنه ليسَ من الإسلامِ الركضُ إلى أسبابِ الزينةِ بغير عِنانٍ، ومَلأِ اليدِ منها بغيرِ ميزانٍ. إنَّ مِن يُطلِقُ يدَه في الإنفاقِ في الزينةِ ولذائذِ النفسِ، ويتجاوزُ بإنفاقهِ الإنفاقَ المعتادَ مِن أمثالِه، قَلَّ نصيبُه من البذلِ في وجوهِ الخيرِ، ذلك أن النفوسَ المبتلاةَ بحبِ الزينةِ المُفْرِطَةِ ولذائذِ الأجسامِ لا تقفُ عندَ حَدٍ، وكُلَّما أدركتْ منزلةً تَشوَّفَتْ وتشوقتْ إلى ما فوقَها؛ قال-صلى الله عليه وآله وسلم-: "إنَّ هذا المالَ حُلْوٌ، مَن أخذَه بحقِه ووضعَه في حقِه فَنِعْمَ المعونةُ، وإنْ أخذَه بغيرِ حقِه كان كالذي يأكلُ ولا يَشبعُ"، وسألَ رجلٌ عبدَ اللهِ بنَ عمرَ-رضي اللهُ عنهما-: ما ألبسُ من الثيابِ؟ قال: ما لا يَزْدَريك-يحتقرُك-فيه السفهاءُ، ولا يعيبُك به الحكماءُ.
إذا كان الأمرُ كذلك-إخواني-فليس مِن زينةِ الرجالِ بل من الممنوعِ المحرمِ حلقُ اللِحى، ولُبْسُ الحريرِ، والتختمُ بالذهبِ، وإسبالُ الثيابِ؛ فما أسفلَ من الكعبينِ ففي النارِ، وليس من المقبولِ بل من الممنوعِ المحرمِ تبرجُ النساءِ بزينةٍ كاسياتٍ عارياتٍ مائلاتٍ مميلاتٍ، وفي الجملةِ فإنَّ السلفَ كانوا يكرهونَ الشهرةَ من الثيابِ: العالي منها والمنخفض، وثوبُ الشهرةُ العالي ما قُصدَ به الاختيالِ والتعالي والفخرِ والمباهاةِ، والمنخفضُ القصدُ إلى الرديءِ والمبتذلِ مع القدرةِ على ما هو خيرُ منه امتناعًا عما أباحَ اللهُ بزعمِ التزهدِ والتعبدِ، ودينُ اللهُ الوسطُ، والرفيعُ مِنَ اللباسِ ممدوحٌ إذا كان تجملا وإظهارًا للنعمةِ.
وبعد-أيها الإخوة-فحَسْبُ الناسِ مِن القذرِ والكدرِ هذا التدخينُ المحرمُ الذي اِبْتُليتْ به طوائفُ من الناسِ-عافانا الله وهدانا وإياهم-فيسيئُ هذا المبتلى ويؤذي بما يَنْفُخُ من دُخَانٍ وينفثُ من رائحةٍ، تَخْنِقُ الأنفاسَ، وتُفسدُ الأجواءَ، وتلوِّثُ المجالسَ، وهو بلاءٌ ماحقٌ في المنازلِ والمكاتبِ والمتاجرِ والمراكبِ، وإنَّه لشاهدٌ على أنَّ الفردَ والأمةَ حينَ تبتعدُ عن آثارِ النبوةِ تفقدُ الأدبَ الرفيعَ، والذوقَ السليمَ، والإحساسَ الرقيقَ، والتصرفَ المهذبَ.
ألا فاتقوا اللهَ-رحمكم اللهُ-والزموا هديَ دينِكم واسلكوا مسلكَ العدلِ والوسطِ.
[/align]
المرفقات
النظافة والتجمل-13-2-1436هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف.doc
النظافة والتجمل-13-2-1436هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف.doc
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق