النسخة الأفغانية لمأساة شهداء بئر معونة.. أ. أمير سعيد
الفريق العلمي
إن كانت لآبدة، فاجعة من فواجع الزمان، غير أننا لكثرة ما أصابنا من هوان وذلة، واسترخاص لدماء عظيمة معصومة قد تبلدت مشاعرنا إلا من قليلين، يأسون حزانى من مثل هذه الجرائم التي ترتكب بحق المسلمين في غير ما بلد، وقلة القلة من هؤلاء من يتجاوز غضبهم زفراتهم، ويمتد دعائهم أكثر من عدة ساعات، بخلاف ما اعترى النبي صلى الله عليه وسلم من مشهد مشابه؛ فبلغت أحزانه حدوداً عليا ودعاءه مدى طويلاً، وفعاليته مبالغ شتى.
جاء الخبر قاسياً قبل عدة أيام، طائرة تابعة لسلاح الجو الأفغاني الذي يتحرك بإشراف أمريكي مباشر، قصفت حفلاً لتخريج صبيان، حفظة لكتاب الله عز وجل، في مدرسة أفغانية بالقرب من قندز الأفغانية التي تهيمن عليها حركة طالبان، ما أسفر عن استشهاد ما لا يقل عن مائة طفل وصبي، وجرح عشرات آخرين، قدرتهم مصادر بنحو مائتي جريح، في واحدة من أكبر المجازر التي ترتكبها القوات الأفغانية والحليفة ضد المدنيين في أفغانستان.
تناثرت الأشلاء الغضة في محيط مقر الحفل، الذي حولته القوات الجوية الأفغانية بجريمتها النكراء ضد الإنسانية إلى بركة دماء، على نحو يذكر بذاك المشهد المريع الذي رآه عمرو بن أمية الضمري وصاحبه الأنصاري رضي الله عنهما، حين كانت الطير تحجل حول شهداء بئر معونة، حفظة كتاب الله الذين قتلوا في السنة الرابعة من الهجرة غدراً؛ فرآهم عمرو وصاحبه مضرجين في دمائهم والخيل من حولهم واقفة.
وليس من عجب أن يستدير الزمان، فالغدر هو الغدر، ليرينا قصة من بعد أخرى بعد أربعمائة عام ونيف، يتكرر فيها المشهد ذاته، لقراء حانت لحظة نقلهم ما درسوه من قرآن كريم، وعلم شريف إلى غيرهم؛ فأصابتهم سهام الغدر والخيانة والخسة، تولى كبرها في نسختها القديمة، عدو الله عامر بن الطفيل، الذي عمد إلى حرام بن ملحان رضي الله عنه حين كان يقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يمهله حتى قتله ثم حرض جميع الخونة من بني سليم على طائفة القراء تلك التي جاءت لتعلم أهل نجد القرآن فقتلوهم عن بكرة أبيهم، في تلك القصة التي يرويها مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار، يقال لهم: القراء، فيهم خالي حرام، يقرؤون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء، فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا، أنا قد لقيناك، فرضينا عنك، ورضيت عنا، قال: وأتى رجل حراماً، خال أنس، من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه، فقال حرام: فزت ورب الكعبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (إن إخوانكم قد قُتِلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا، أنا قد لقيناك فرضينا عنك، ورضيت عنا).
وباستثناء فروق بسيطة، كادت القصة أن تكون مستنسخة؛ فالشهداء يكافؤون في أفغانستان عدد شهداء بئر معونة، وهم كذلك من القراء الفقراء، كانوا يتأهبون لحمل هذه الأمانة العظيمة إلى غيرهم بلاغاً وتعليماً وتدريساً، والظرف يتشابه أيضاً من حيث تراكم الأحزان، فمن بعد هزيمة أحد واستشهاد ثلة من الصحابة في يوم الرجيع، حصلت فاجعة بئر معونة، وكذا في قندز الأفغانية حصلت تلك المذبحة من بعد هزائم لا تتوقف للمسلمين في بلاد كثيرة بعضها في قلب عالمنا العربي أريد لها أن تبقى تحت نير الاستبداد والقهر والتبعية.. أما القتلة؛ فهم كذلك مجرمون خونة، يحملون ألوية الغدر والخسة، وهم في الحالين تقصدوا القتل والخيانة، وكانوا مدركين تماماً أنهم إنما يغتالون حفظة لكتاب الله عز وجل، ودعاة إلى الله، وإذ لم يكن عامر بن الطفيل ومن تبعه من بني سليم، قبائل ذكوان وعصية ورعل، يجهلون ما يقترفون من جرائم ضد دعاة لم يشهروا سلاحاً أو ينقضوا عهداً، وقد شهدوا بعيونهم إيمان وجسارة حرام، وكرامة عامر بن فهيرة رضي الله عنهما، فإن غارة العدوان الأفغانية على أطفال وشباب قندز الحفاظ، لم تقصف حفل هؤلاء خبط عشواء أو أنها ما فعلت إلا نتاج معلومات "غير دقيقة"، بل كانت المجزرة الرهيبة من صنيع أمريكي دقيق وتنفيذ رسمي أفغاني خسيس؛ فأي جهاز استخباري – ولو كان مبتدئاً – كان يمكنه التحقق جيداً وبسهولة من صحة المعلومات عن أن الهدف لا يعدو أن يكون حفلاً علنياً يقام في مدرسة يرتادها عامة الناس ولا تحوطها أي سرية بالمرة.
إن الحقد والضغينة والإجرام الذي امتلأ به قلب عامر بن الطفيل وقلوب قبائل ذكوان وعصية ورعل، وشجعهم على اجتراح غدرتهم تلك، هو هو الذي تملك من منح هذه الطائرة الأفغانية أمراً بأن تحول أجساد حفظة كتاب الله عز وجل إلى أشلاء، وتلقي قذائفها فتفصل رؤوساً عن أجسادها، وتحيل معها أطفالاً أبرياء إلى مجرد أرقام لأشلاء. ومعلوم أن إحداثيات رادارات أمريكا لا تخطئ إلا نادراً، وهي تعلم جيداً كيف توجه أدواتها، وحيث تضع هدفاً لسلاحها الجوي أو سلاح أدواتها – لا فرق – ولو كان سياسياً أو عسكرياً، فهي تدرك يقيناً ما الذي يمكنه أن يؤلم المسلمون تماماً لتفعله "مرتاحة الضمير"! ولو لم يكن يحقق ذلك الهدف السياسي أو العسكري بشكل مباشر.
في المشهد ربما، ثمة تشابه كبير، لكن في المضمون هناك اختلافات جذرية حقيقية، لاسيما في ردات الفعل؛ فالمسلمون لم يجعلوا خائناً حينئذ ينجو بفعلته، فلم تمض إلا سنون قليلة حتى كانت تلك البقاع جميعها تصدح بالقرآن يتلوه الصغار والكبار في أمان وطمأنينة. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن ليمر عليه الحادث عابراً مثلما يمر على الناس اليوم؛ فلقد بدا تأثره وحزنه الشديد، وهو يدعو على الخونة، ذكوان وعصية ورعل، ثلاثين يوماً، روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه قال: "فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجَدَ (حزن) على شيء ما وجد عليهم". ثم إن الحادثة نفسها كانت لتستأهل من هولها وفداحتها أن ينزل فيها قرآن، قال أنس: "فقرأنا فيهم قرآناً، ثم إن ذلك رُفِع (نُسِخ): {بَلِّغوا عنَّا قَومَنا أنا لَقينَا رَبَّنا، فرَضيَ عَنَّا وأرْضانا}". ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شرع من بعد في تأديب هؤلاء الخونة، يقول الغزالي في فقه السيرة: "وتأديبا لأولئك الغادرين خرج النبيّ عليه الصلاة والسلام يجوس فيافي نجد، ويطلب ثأر أصحابه الذين قتلوا في الرجيع وبئر معونة، ويلقي بذور الخوف في أفئدة أولئك البدو القساة، حتى لا يعاودوا مناكرهم التي ارتكبوها مع المسلمين. وقام النبي صلى الله عليه وسلم- تحقيقا لهذا الغرض- بغزوات شتى، أرهبت القبائل المغيرة، وخلطت بمشاعرها الرعب".
الاختلافات جذرية – كما تقدم - فلا أحد سيؤدب القتلة، ولا بمجرد تحقيق محدود، تحدثت عنه مصادر الأمم المتحدة، وربما النظام الأفغاني نفسه، ذراً للرماد في العيون ولن يتم، ولا ثمة استنكار قوي قد صدر من هنا أو هناك، فالذي استقر في وجدان "الأسرة الدولية"، وفيها دول إسلامية كثيرة، أن الدم المسلم أقل من أن يستدعي سفكه إظهار امتعاض، وحفظة القرآن أقل من أن يثير استشهادهم غضباً عارماً لاسيما لو كانوا من أطراف بلاد الإسلام، ومن فقراء القراء، والخبر مجرد الخبر ليس مما يلفت الانتباه أو يستحق التعليق عليه. هكذا أرادوا، لكن في ميزان العدل لا يستقيم الأمر هكذا طويلاً، فلسوف تصيب دعوات المكلومين المظلومين يوماً ما قلوب الخائنين، {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
المصدر: المسلم