النزاهة والمال العام
أنشر تؤجر
الحَمْدُ للهِ عَمَرَ قُلُوبَ عِبادِهِ بِالإيمَانِ ، وَغَمَرَ صُدُورَهُمْ بِالإحْسَانِ , وأَشهَدُ ألَّا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ بَشَّرَ الذين أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى وَزِيَادَة ، وأَشهدُ أنَّ مُحمَّداً عَبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَليهِ وَعلى آلِهِ وَأصحَابِه أُولِي الفَضْلِ والرِّيادَةِ ، وَمَن تَبِعَهُم بِإحسانٍ وَإيمانٍ إلى يومِ القِيَامَةِ .
أما بعد : فاتَّقُوا الله بِفعل ما أمركم بِهِ ، وتركِ ما نهاكم عَنهُ ، وإدامةِ الذّكرِ لَه ،:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا )
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : إِنَّ الإِسْلاَمَ دِينُ الأَخَلاَقِ الْعَالِيَةِ ، وَالأَقْوَالِ الْفَاضِلَةِ ، فَقَدْ حَثَّنَا عَلَى أَنْ نَتَحَلَّى بِأَرْفَعِ الشِّيَمِ ، وَأَجْمَلِ الْخِصَالِ وَالْقِيَمِ ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ وَمَعَالِيَ الأَخْلاَقِ ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا »، ومن الأخلاق العالية التي ينبغي للمسلم أن يتحلى بها خلق النزاهة ، وَالنَّزَاهَةُ مِنْ أَهَمِّ الصِّفَاتِ وَأَجَلِّهَا ، فهي تدعوا للبُعْدِ عَنِ كل سوء ، وَالتَّرَفُّعُ عَنِ كل نقَصٍ .
عباد الله : وأول من يُنزه عن كل نقص ويُمدح بكل كمال هو الله سبحانه وتعالى ، فإن له الكمال المطلق ، وله الأسماء الحسنى التي كملت في حسنها ، وله من الصفات أعلاها فلا يشابهه فيها مخلوق قال تعالى :" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"، وكلما احتوى الذكر على تنزيهِ الله وتمجيدِه كلما ارتفع أجرُه وعلا قدرهُ قال النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ، ثَقِيلَتَانِ فِى الْمِيزَانِ ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ » ، فالتسبيح تنزيه لله تعالى عن كل نقص وسوء ، والحمد إثبات الكمال لله تعالى ، ولذلك ثقلت هذه الكلمات في الميزان.
عباد الله : ومن مجالات النزاهة : النزاهة في المال أخذا وإعطاء ، وقد كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي نَزَاهَتِهِ وَتَرَفُّعِهِ خَيْرَ قُدْوَةٍ يُتَّبَعُ ، وَأَفْضَلَ أُنْمُوذَجٍ يُحْتَذَى ؛ فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ :« إِنِّى لأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِى فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِى ثُمَّ أَرْفَعُهَا لآكُلَهَا ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيهَا »، ودل هذا الحديث على أن المسلم يتنزه عن الشبهات وما لا يعلم حكمه من حل أو حرمة ، فالنبي صلى الله عليه وسلم ترك التمرة لخشيته أن تكون من الصدقة ، والنبي صلى الله عليه وسلم لا تحل له الصدقة ، لذا فقد حثَّنا صلى الله عليه وسلم على لزوم جانب الورع ، وحَذَّرنا من خَوْضِ غِمار الشُّبهات؛ فقال :« فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ ، وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ »، ويقول نبيُّنا صلى الله عليه وسلم مبيّناً الثِّمارَ الطيّبةَ التي يَجْنِيها مَنْ يتَّصفُ بالعِفَّةِ والنَّزاهةِ :« ومن يستعفِف يُعِفَّهُ الله ، ومن يستغنِ يُغنِه الله »
عباد الله : وَمِنْ أَبْرَزِ صُوَرِ النَّزَاهَةِ التَّرَفُّعُ عَنِ الْمَكَاسِبِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَشْبُوهَةِ ، وَيُسْتَعَانُ عَلَى ذَلِكَ بِالْقَنَاعَةِ ، فَهِيَ كَنْزٌ لاَ يَفْنَى ، يَقُولُ صلى الله عليه وسلم :« أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ، خُذُوا مَا حَلَّ ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ ».
والمُؤْمِنُ النَّزِيه ؛ يَتَحَرَّى ما أحَلَّ اللهُ له ، ويَجْتَنِبُ ما حَرَّمَ اللهُ عَلَيه ؛ فالمَالُ مَالُ الله ، ومَا عِنْدَ اللهِ لا يُنَالُ بِمَعْصِيَتِه ، ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ).
وأَصْحَابُ المَكَاسِبِ الطيِّبة ، والأموَالِ الصَّالحةِ ؛ هم أَسْلَمُ النَّاسِ دِينًا ، وأَعَفُّهُمْ نَفْسًا ، وأَهْنَؤُهُمْ عَيْشًا ، فرِزْقُهُمْ مُبَارَك ، وذِكْرُهم في النَّاسِ جَمِيل .
اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا وأعمالنا ، وَزَكِّ نُفُوسَنَا، وَاجْعَلْنَا بِالنَّزَاهَةِ قَائِمِينَ .
اللهمَّ أَغْنِنَا بِحَلالِكَ عن حَرَامِكَ وبفضلِكَ عمَّن سواكَ ؛ واستغفرُ اللهَ لي ولكم ولِسائِر المُسلمين من كلِّ ذنَّبٍ فاستغفروهُ وتُوبوا إليهِ إنَّ ربَّي غفورٌ رحيمٌ .
الخطبة الثانية :
الحَمدُ للهِ شَرَحَ صُدُورَ الْمُؤمِنِينَ لِطَاعَتِهِ ، وَسَهَّل لَهُم سُبُلَ الخَيرِ وَحُسْنَ عِبَادَتِهِ ، أَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي أولوهِيَّتِه ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَيرُ بَرِيَّتِهِ ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ ؛ أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ، وَأَحْسِنُوا الظَّنَّ بِرَبِّكُمْ وَلا تَعْصُوهُ :( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ).
عباد الله : ومِنْ أَبْرَزِ صُوَرِ النَّزَاهَةِ وَأَشَدِّهَا أَثَرًا عَلَى الْمُجْتَمَعِ النَّزَاهَةُ فِي أَدَاءِ الْوَظَائِفِ ، وَذَلِكَ بِتَعَفُّفِ الْمُوَظَّفِ عَمَّا لاَ يَلِيقُ ؛ كالتَّعَفُّفِ عَنِ الْمِسَاسِ بِالأَمْوَالِ الْعَامَّةِ ، والْمُوَظَّفُ النَّزِيهُ لاَ يُقَصِّرُ عَنْ أَدَاءِ وَاجِبٍ ، وَلاَ يُقْدِمُ عَلَى فِعْلِ مَحْظُورٍ ، فَهُوَ أَنْزَهُ مِنْ أَنْ يَقْبَلَ رِشْوَةً ، أَوْ أَنْ يَأْخُذَ هَدِيَّةً مِنْ وَرَائِهَا مَآرِبُ أُخْرَى .
ولنعلم أنْ أَخْذَ الموظفُ مِنَ أموَالِ المُسلِمينَ العَامَّةِ مَا ليسَ له مِنَ الظُّلْمِ العَظِيم ، الذي يَجُرُّ المُجتَمَعَ إلى فَسَادٍ عَرِيضٍ ، وصَاحِبُهُ مُتَوَعَّدٌ بالعُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ في الدُّنيا والآخِرَة ؛ فعن خَولَةَ الأنصَارِيَّةِ رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال :( إنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللهِ بغَيرِ حَقٍّ ، فلَهُمُ النَّارُ يومَ القِيَامَة ) رواه البخاري.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :( بيت مال المسلمين أعظم من ملك واحد معين ، وذلك لأن سرقته خيانة لكل مسلم ، بخلاف سرقة ، أو خيانة رجل معين ، فإنه بإمكانك أن تتحلل منه وتسلم ).
وَاعلموا رحمكم الله أن الْمَالَ الْحَرَامَ دَخْلٌ مَشْؤُومٌ ، وَهُوَ أَخْطُرُ عَلَى بَنِي آدَمَ مِنَ السُّمُومِ ، فَإِنَّهُ يَقْصِمُ الْأَعْمَارَ ، وَيُخَرِّبُ الدِّيَّارَ ، وَيُورِثُ الْخِزْيَ وَالْعَارَ ، وَيَكُونُ وَقُودًا عَلَى صَاحِبِهِ فِي النَّارِ .
يقول النبي عليه الصلاة والسلام :( كلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ السُحْتِ ؛ فالنَّارُ أَوْلَى بِه ) رواه الترمذي.
ألَا فاتَّقوا اللهَ عِبادَ الله ، فإنَّهُ لا سَبِيلَ للنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللهِ إلَّا بمُرَاقَبَتِهِ سُبحَانَهُ في السرِّ والعَلَن ، والخَوْفِ مِنهُ قبلَ الخَوْفِ مِنَ البَشَر ، وأنْ يُقيمَ المُسلِمُ العَدلَ في نَفْسِهِ ومَالِهِ ومَنْ تحتَ يدِه .
اللهُمَّ يا حيُّ يا قيوم ، يا ذا الجلال والإكرام ؛ اكْفِنا بحَلالِكَ عن حَرَامِك ، وأغْنِنَا بفَضْلِكَ عمَّنْ سِوَاك ، واسْتَعْمِلْنَا اللهُمَّ في طَاعَتِك ، واجعلنا مفَاتِيحَ للخير ، مَغَالِيقَ للشَّر ، واجعلنا شَاكِرينَ لِنِعَمِك ، مُثْنِينَ بها عليك ، قَابِلِيها ، برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين .
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ ، وعلى آله الطاهرين ، وأزواجِهِ أمهاتِ المؤمنين ، وخُلفائِه الأربعةِ الراشدين ، وسائر صحابةِ نبيِّك أجمعين ، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وارضَ اللهمَّ عنَّا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، وأذلَّ الشرك والمشركين ، ودمِّر أعداءَ الدين ، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا سَخَاءً رَخَاءً وسائرَ بلاد المسلمين .
اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاةَ أمورنا ، وأيِّد بالحق والتوفيقِ إمامَنا وولي أمرنا ، اللهم وفّق خادمَ الحرمينِ الشريفين ووليَّ عهده لهداك ، واجعلْ أعمالهما في رضاك ، اللهم أعزَّ بهم دينَك ، وأعل بهم كلمتك ، واجمع بهم كلمة المسلمينَ يا رب العالمين .
اللهم أصلح قلوبنا ، واشرح صدورنا ، ويسر أمورنا ، واحفظِ اللهمَّ جنودَنا ، اللهم انْصُرْهُمْ ، وقوِّ عزائمهم ، وسدِّدْ رميَهُمْ ، واكبِتْ عدوَّهُمْ ، وانصرهم على القومِ الظالمين ، يا قوي يا عزيز.
اللهم أنتَ الله لا إله إلا أنت ، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء ، أنزلْ علينا الغيث ، واجعل ما أنزلتَهُ قوةً لنا على طاعتك وبلاغًا إلى حين ، اللهم أغثنا ، غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا غدقًا ، نافعًا غيرَ ضار ، اللهم سُقيا رحمة ، لا سقيا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق ، اللهم إنَّا خَلْقٌ من خَلْقِك فلا تمنع عنَّا بذنوبنا فضلك.. برحمتك يا أرحم الراحمين.
(ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار)
سبحان ربّك رب العزة عما يصفون ، وسلامٌ على المرسَلين ، والحمد لله رب العالمين .
المرفقات
1733403412_النزاهة والمال العام.docx