النبي والمنهج الأخلاقي مع الأعداء

النبي والمنهج الأخلاقي مع الأعداء

لا شك أن كل نبي من الأنبياء عليهم السلام وكل ولي من الأولياء يدعو إلى الله لا بد له من أعداء يتربصون به الدوائر من الجن والإنس ، وكلا الجانبين يتبادلون الخبرات فيما بينهم ونبينا العظيم لم يكن بدعا من الرسل بل كانت أذيته من قومه ومن غيرهم أشد مما أصاب الأنبياء السابقين وقد روي عنه صلى الله عليه وآله قوله ( ما أوذي نبي كما أوذيت ) فقد كسرت رباعيته وسالت الدماء على كريمته وفعل به ما فعل .
وينقسم الأعداء لرسول الله صلى الله عليه وآله إلى قسمين :
1- أعداء شياطين الإنس . 2- أعداء شياطين الجن .
كما ذكرنا أن أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله من الجن والإنس ولكن لمواجهة هؤلاء الأعداء أدب الله سبحانه نبيه فأحسن تأديبه حتى صار خلقه القرآن ومدحه بقوله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم .

المنهج القرآني

طرح القرآن الكريم في تعامل رسول الله صلى الله عليه وآله مع أعدائه منهجاً ناجحاً (مهما كانت الظروف والأحوال )وفرق بين نوعين من أعدائه في التعامل معهم:
1- شياطين الإنس عليه أن يستعمل معهم جانب الأخلاق العالية الكريمة من المدارات والعفو والرحمة والأمر بالعرف والصفح والدفع بالتي هي أحسن حتى يتأثر الطرف الآخر فإن لم ينفع معه فعليه الإعراض عنه .
2-أما شياطين الجن فهم الذين ليس لهم مدارات ولا هوادة وإنما الحرب والعداء مستمرة ، ولا مهادنة معهم بل التعوذ منهم والاستعانة بالله عليهم .
وهنا نعرض ثلاث مشاهد قرآنية في منهج النبي وتعامله معهم وبشكل مختصر تاركين تفاصيل ذلك إلى مجال آخر :
المشهد الأول :
قوله تعالى في سورة الأعراف : { خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ }
العفو : أي خذ ما يسهل قصده وتناوله ، وقيل تعاطى العفو عن الناس .
العرف : أي أمر بالمعروف .
الإعراض عن الجاهلين : كوسيلة من وسائل التعامل مع شريحة من الأعداء والجهال .
هذا في تعامله مع أعدائه من بني البشر ، ولكن مع أعدائه من الجن في الآية اللاحقة مباشرة يقول : { وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[الأعراف: 199- 200]
النزغ : دخولٌ في أمر لإفساده . وبما أن الشيطان مهمته الأساسية هو الإفساد أي النزغ على الرسول وأتباعه التحرز منه والتسلح بكل قوة .
المشهد الثاني :
قوله تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ } المولى يرشد رسوله إلى أنجع السبل في إنجاح دعوته إلا وهو استعمال دفع السيئة بالحسنة وليس بالسيئة والله هو أعلم بما يقوله الأعداء ويصفونه ويخططون له وإذا كانت الخاصة من الأعداء لا تتبدل إلا أن السواد الأعظم من الناس سوف يتأثرون .
أما شياطين الجن فدورهم أخطر وأعظم وهم يفتنون فيقول في هؤلاء الشياطين الذين يفسدون بين الناس { وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } [المؤمنون: 96- 97]
الْهَمْزُ : كالعصر. يقال: هَمَزْتُ الشي‏ء في كفّي، و منه: الْهَمْزُ في الحرف، و هَمْزُ الإنسان: اغتيابه. قال تعالى: { هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ‏ } [القلم/ 11] يقال: رجل هَامِزٌ، و هَمَّازٌ، و هُمَزَةٌ. قال تعالى: { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } [الهمزة/ 1] .
ويحضرون : من باب الكناية أي يتعوذ من حضور الجن الذي هو الجنون وكأنه مثل الميت المحتضر .
المشهد الثالث :
قوله تعالى: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [فصلت: 34- 36] .
إن أسلوب الدفع بالتي هي أحسن من أنجح الأساليب التي تحول الأعداء الألداء إلى محب والولي حميم فهو القريب المشفق وصديق قريب وحامة الرجل قرابته المشفقون .
( فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها و هو أن اللّه تعالى يأمر بمصانعة العدو الإنسي و الإحسان إليه ليرده عنه طبعه الطيب الأصل إلى الموادة و المصافاة، و يأمر بالاستعاذة به من العدو الشيطاني لا محالة إذ لا يقبل مصانعة و لا إحسانا و لا يبتغي غير هلاك ابن آدم لشدة العداوة بينه و بين أبيه آدم من قبل) [7]
هذا المنهج الرباني لم يلحظ فيه أي دعوة أو تحبيذ للعنف أو الحقد أو الضغينة أو السب والشتم ولا حتى اللعن ولا بمستوى الدعاء على الطرف الآخر ( اللعن ) والتشفي منه .
هذا في الجانب الإيجابي الذي كان أدب القرآن وخلقه ، وتحول إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فكان خلقه القرآن .
الجانب السلبي :
وكما كان القرآن الكريم يؤكد على الجانب الإيجابي في منهجية الرسول مع أعدائه كذلك في الجانب السلبي يشرح الموقف المكمل للجانب الإيجابي فها هو النبي الكريم يحذر أصحابه وأمته أن لا يتعرضوا لمقدسات الآخرين بالسب أو الشتم أو اللعن وتجريحها بحيث تثير عواطف أتباعهم وتستفزهم حتى وإن كانت آلهة وكفار ويدعون من دون الله قال تعالى : {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (108) سورة الأنعام ، والسب ليس له خصوصية هنا إلا إثارة الطرف الآخر والتعرض لرموز ومقدسات المتكلم والإساءة إليهم كما هو أساء إلى الآخرين ، وحينئذ كل ما يستفز الطرف الآخر ويؤدي به المقابلة بالمثل أو أشد حتى ولو لم يكن سباً - كاللعن إذا سلمنا أنه لم يكن من أقسام السب - فهو مرفوض .
بل اثبت علماء اللغة العربية : أن اللعن هو قسم من أقسام السب .
وكما أن هذا الاستفزاز مرفوض على المستوى الآلهة والرموز من غير المسلمين فكذلك مرفوض على المستوى المذهبي أو في داخل المذهب الواحد .
نزول العذاب على بعض الأمم
يحدثنا القرآن الكريم عن الأمم السالفة أنه قد نزل العذاب عليها بعد أن وصل أنبياؤهم إلى طريق مسدود معهم وعدم استجابتهم لهم فحصل انتقام منهم سواء أكان ابتداء من الله سبحانه أو لأجل دعوة أنبيائهم عليهم .
أما نبينا الأعظم صلى الله عليه وآله فلم يذكر القرآن ولا مورداً واحداً أنه قد دعا على قومه بنزول العذاب عليهم بل أن وجوده الشريف بين ظهرانيهم أمان لهم من نزول العذاب قال تعالى {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (33) سورة الأنفال .
حرص النبي على شمول الرحمة للكل :
من شدة حرص النبي الأعظم لقومه وأن يجنبهم سخط الله كان يريد أن يدخلهم جميعاً في الإيمان بالله والتصديق برسالته وعندما يصطدم بعدم قبولهم كان يتأسف ويتحسر ويتألم لذلك وبلغ الحد به أن يصيبه الهم والغم الذي يؤدي به إلى هلاك النفس قال تعالى في تهدئة حاله {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (3) سورة الشعراء .
وقوله تعالى : {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (6) سورة الكهف
والبَخْع : قتل النفس غماً – كما يقول علماء اللغة - ، فقد حثه على عدم التأسف وأن لا يقتل نفسه حزناً وغماً لأنهم لم يؤمنوا ، وهاتان الآيتان على حد قوله تعالى { فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } (8) سورة فاطر . أي تموت عليهم حسرة ، إن هذه الآيات تكشف عن نفسية الرسول صلى الله عليه وآله الطاهرة كما تكشف عن مدى عظمته ورحمته للآخرين حتى ولو كانوا مشركين ولم يدخلوا بعد في دينه .
قصة واقعة أحد
إن المتتبع لسيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله يرى الشواهد والأمثلة الكثيرة في حرصه على عدم اللعن لمن خالفه حتى ولو كانوا مشركين ففي واقعة أحد كان النصر في البداية للمسلمين على المشركين ولكن تبدل الوضع عندما نزل الرماة من فوق الجبل الذي كانوا فيه إلى ساحة المعركة ولم يلتزموا بأوامر القيادة وتبدل النصر إلى هزيمة وحينها كسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسالت الدماء على كريمته .
هذا و قد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي حَازِمٍ عن أبي هُرَيْرَةَ قال قِيلَ يا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ على الْمُشْرِكِينَ ؟.
قال : إني لم أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً [8]
هذا على المشركين الذين كسروا رباعيته وسالت الدماء على وجهه فكيف بالمسلمين بعضهم مع البعض الآخر .
والذي نريد أن نستفيده من هذا الحديث أن الدعاء باللعن على شخص لا يجتمع مع الرحمة فهما صفتان متنافرتان بل متناقضتان . لا تجتمعان في شخص واحد نبيا كان أو عادياً .
وفي نص آخر قال صلى الله عليه وآله : ( إنما أنا رحمة مهداة ).
النبي يدعو لهم لا عليهم :
ما يثيره البعض من ثقافة اللعن واستحبابه وتبرير الواقع الخارجي ولكن على العكس من ذلك فإن النبي صلى الله عليه وآله لمّا كسرت رباعيته في أحد قال : عَنِ الزُّهْرِيِّ عن سَهْلِ بن سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قال : قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَومَ أُحُدٍ ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) [9]
وروي الطبراني بصورة مفصلة : بسنده عن سهل بن سعد الساعدي قال : شَهِدْتُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حين كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَجُرِحَ وَجْهُهُ وَهُشِّمَتِ الْبَيْضَةُ على رَأْسَهِ وَإِنِّي لأَعْرِفُ من يَغْسِلُ الدَّمَ عن وَجْهِهِ وَمَنْ يَنْقُلُ عليه الْمَاءَ وَمَاذَا جُعِلَ على جُرْحِهِ حتى رَقَأَ الدَّمُ كانت فَاطِمَةُ بنتُ مُحَمَّدٍ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَغْسِلُ الدَّمَ عن وَجْهِهِ وَعَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه يَنْقُلُ الْمَاءَ إِلَيْهَا في مَجَنَّةٍ فلما غَسَلَتِ الدَّمَ عن وَجْهِ أَبِيهَا أَحْرَقَتْ حَصِيرًا حتى إذا صَارَتْ رَمَادًا أَخَذَتْ مِنَ ذلك الرَّمَادِ فَوَضَعَتْهُ على وَجْهِهِ حتى رَقَأَ الدَّمُ ثُمَّ قال يَوْمَئِذٍ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ على قَوْمٍ كَلَمُوا وَجْهَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ثُمَّ مَكَثَ سَاعَةً .
ثُمَّ قال اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ [10]
فصار يدعو لهم بالهداية بدل أن يدعو عليهم بالبعد عن رحمة الله
المشاهدات 3993 | التعليقات 0