الناكصون على أعقابهم (1) ﴿آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا﴾
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1439/06/25 - 2018/03/13 13:13PM
الناكصون على أعقابهم (1)
﴿آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا﴾
28 / 6 / 1439هـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْوَلِيِّ الْحَمِيدِ، الْكَرِيمِ الْمَجِيدِ؛ خَلَقَ الْخَلْقَ فَابْتَلَاهُمْ بِدِينِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ هُدُوا إِلَيْهِ فَفَازُوا، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَلُّوا عَنْهُ فَخَابُوا، ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ [النِّسَاءِ: 143]، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ أَنَارَ الطَّرِيقَ لِلسَّالِكِينَ، وَأَوْضَحَ الْحَقَّ لِلْمُمْتَثِلِينَ، وَفَصَّلَ الدِّينَ لِلْمُتَّبَعِينَ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ [الْإِسْرَاءِ: 15]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ اصْطَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهَدَاهُ وَاجْتَبَاهُ، وَأَرْسَلَهُ لِلْعِبَادِ هَادِيًا وَبَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ -عِبَادَ اللَّهِ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ، وَالتَّمَسُّكِ بِكِتَابِهِ، وَالْتِزَامِ دِينِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا سَعَادَةَ لِلْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا نَجَاةَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بِذَلِكَ ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 185].
أَيُّهَا النَّاسُ: الدُّنْيَا فُرْصَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْمَوْتُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْجَزَاءُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، مَنْ فَازَ فَازَ لِلْأَبَدِ، وَمَنْ خَسِرَ خَسِرَ لِلْأَبَدِ، وَلَا فُرْصَةَ أُخْرَى لِلِاسْتِدْرَاكِ أَوِ التَّعْوِيضِ، وَفِي أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى﴾ [الدُّخَانِ: 56]، وَفِي أَهْلِ النَّارِ قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا﴾ [فَاطِرٍ: 36].
وَأَعْظَمُ الضَّلَالِ ضَلَالُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَمَنْ فَارَقَ الْهِدَايَةَ إِلَى الْغَوَايَةِ؛ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَمُنُّ عَلَيْهِ بِالْهِدَايَةِ، وَيَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقِهَا، فَيُعْرِضُ عَنْ هِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَرْفُضُهَا. وَلِخُطُورَةِ هَذَا الْمَسْلَكِ، وَوُقُوعِ بَعْضِ النَّاسِ فِيهِ؛ حَذَّرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يَتْلُوَ عَلَيْنَا نَبَأَ رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمًا فَانْسَلَخَ مِنْهُ، وَاسْتَبْدَلَ بِالْهِدَايَةِ غَوَايَةً، وَبِالْحَقِّ بَاطِلًا، وَبِالْهُدَى ضَلَالًا، نَعُوذُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: 175 - 176].
وَلَيْسَتِ الْعِبْرَةُ فِي تَعْيِينِ هَذَا الرَّجُلِ الْمُنْسَلِخِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا مَعْرِفَةِ زَمَنِهِ، وَلَا فِي أَيِّ أُمَّةٍ كَانَ؛ لِأَنَّهُ أُنْمُوذَجٌ يَتَكَرَّرُ، وَلَكِنَّ الْعِبْرَةَ فِي مَعْرِفَةِ مَا آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ نِعْمَةِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، ثُمَّ كُفْرِهِ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ نِعْمَةٍ، وَتَنَكُّرِهِ لَهَا، وَإِعْرَاضِهِ عَنْهَا، فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَثَلًا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ؛ لِيَعْلَمَ قُرَّاءُ الْقُرْآنِ حَالَهُ فَيَعْتَبِرُوا بِهَا، وَيَتَفَكَّرُوا فِيهَا، وَيَحْذَرُوا مِنْهَا، وَيَلُوذُوا بِاللَّهِ الْعَظِيمِ يَسْأَلُوهُ الثَّبَاتَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ؛ فَإِنَّ قُلُوبَ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ سُبْحَانَهُ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ؛ وَلِذَا كُرِّرَ الْأَمْرَ بِذِكْرِ قِصَّةِ هَذَا الْمُنْسَلِخِ فِي الْآيَاتِ، فِي أَوَّلِهَا: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا﴾ وَفِي خَاتِمَتِهَا: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَفْطَنُونَ إِلَّا لِلْعُقُوبَاتِ الْمَادِّيَّةِ الَّتِي تُصِيبُ الْإِنْسَانَ فِي جَسَدِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ وَظِيفَتِهِ، وَلَا يَفْطَنُونَ لِلْعُقُوبَاتِ الَّتِي تُصِيبُ الدِّينَ، وَمُصِيبَةُ الدِّينِ أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ وَأَدْوَمُهَا، وَأَفْدَحُهَا خَسَارَةً، وَأَشَدُّهَا عَذَابًا؛ لِأَنَّ عُقُوبَةَ الِانْسِلَاخِ مِنَ الدِّينِ دَائِمَةٌ، وَأَمَّا الْمُصَابُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مُؤَقَّتٌ، وَيَأْلَفُهُ الْمُصَابُ بَعْدَ زَمَنٍ، وَيَتَغَلَّبُ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا عَوَّضَهُ. وَهَذَا الْمُنْسَلِخُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَاتِ عُوقِبَ عَلَى انْسِلَاخِهِ بِالْمُصِيبَةِ فِي دِينِهِ، وَذَلِكَ بِتَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ بِالْإِغْوَاءِ ﴿فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التَّوْبَةِ: 67]، ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصَّفِّ: 5]. فَأَصْبَحَ هَذَا الْمُنْسَلِخُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْغَاوِينَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنَ الرَّاشِدِينَ الْمُرْشِدِينَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَذَلَهُ وَوَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ؛ فَاللَّهُمَّ لَا تَكِلْنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَاهْدِنَا صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، وَثَبِّتْنَا عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَنَا الْيَقِينُ.
وَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا الْمُنْسَلِخِ بِآيَاتِهِ إِلَّا لِيَرْفَعَهُ بِهَا، وَيُعِزَّهُ بِسَبَبِهَا، وَيُعْلِيَ ذِكْرَهُ بِالْتِزَامِهَا، فَيَنَالَ بِهَا ذِكْرًا حَسَنًا فِي الدُّنْيَا، وَقُرْبًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّهُ انْسَلَخَ مِنْهَا، وَأَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ، وَرَكِبَ هَوَاهُ، وَقَدَّمَ دُنْيَاهُ عَلَى أُخْرَاهُ ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾، فَشَبَّهَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْكَلْبِ اللَّاهِثِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «كُلُّ شَيْءٍ يَلْهَثُ فَإِنَّمَا يَلْهَثُ مِنْ إِعْيَاءٍ أَوْ عَطَشٍ أَوْ عِلَّةٍ، خَلَا الْكَلْبَ، فَإِنَّهُ يَلْهَثُ فِي حَالِ الْكَلَالِ وَحَالِ الرَّاحَةِ، وَحَالِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَحَالِ الرَّيِّ وَالْعَطَشِ. فَضَرَبَهُ اللَّهُ مَثَلًا لِمَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ فَقَالَ: إِنْ وَعَظْتَهُ فَهُوَ ضَالٌّ، وَإِنْ لَمْ تَعِظْهُ فَهُوَ ضَالٌّ، كَالْكَلْبِ إِنْ طَرَدْتَهُ وَزَجَرْتَهُ فَسَعَى لَهَثَ، أَوْ تَرَكْتَهُ عَلَى حَالِهِ أَيْضًا لَهَثَ». وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ دِينِهِ لِأَجْلِ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا عُوقِبَ بِاللُّهَاثِ خَلْفَ مَا طَلَبَ، وَأَهَانَ نَفْسَهُ وَأَذَلَّهَا لِلْخَلْقِ، وَالْوَاقِعُ يَشْهَدُ لِذَلِكَ فِي طُلَّابِ الدُّنْيَا، وَفِيمَنْ قَدَّمُوا دِينَهُمْ قَرَابِينَ لِدُنْيَاهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ يَعِيشُونَ فِي ذِلَّةٍ لَا يَرْضَاهَا الْعُقَلَاءُ، وَتَرَاهُمْ يَلْهَثُونَ خَلْفَ الدُّنْيَا لَهْثَ الْكِلَابِ، وَلَنْ يَنَالُوا مِنْهَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُمْ، فَتَعِسَ مَنْ تَاجَرَ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِهِ، لَنْ يُفْلِحَ أَبَدًا.
«إِنَّ صِغَارَ الْهِمَمِ تَرَاهُمْ كَاللَّاهِثِ مِنَ الْإِعْيَاءِ وَالتَّعَبِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَعْنُونَ بِهِ وَيَحْمِلُونَ هَمَّهُ حَقِيرًا لَا يُتْعِبُ وَلَا يُعْيِي، وَلَا تَرَى أَحَدًا مِنْهُمْ رَاضِيًا بِمَا أَصَابَهُ مِنْ شَهَوَاتِهِ وَأَهْوَائِهِ، بَلْ يَزِيدُ طَمَعًا وَتَعَبًا كُلَّمَا أَصَابَ سِعَةً وَقَضَى أَرَبًا... وَكَأَيِّنٍ مِنْ إِنْسَانٍ حُرِمَ الِانْتِفَاعَ بِمَوَاهِبِهِ الْفِطْرِيَّةِ بِعَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ إِيَّاهَا فِيمَا يَرْفَعُهُ دَرَجَاتٍ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَكَأَيِّنٍ مِنْ إِنْسَانٍ اسْتَعْمَلَ حَوَاسَّهُ فِي الضُّرِّ، وَعَقْلَهَ وَذَكَاءَهُ فِي الشَّرِّ».
ثُمَّ خُتِمَ مَثَلُ الْمُنْسَلِخِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، الْمُنْتَكِسِ عَلَى عَقِبَيْهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: 177]. أَيْ: سَاءَ مَثَلُهُمْ أَنْ شُبِّهُوا بِالْكِلَابِ الَّتِي لَا هِمَّةَ لَهَا إِلَّا فِي تَحْصِيلِ أَكْلَةٍ أَوْ شَهْوَةٍ، فَمَنْ خَرَجَ عَنْ حَيِّزِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى، وَأَقْبَلَ عَلَى شَهْوَةِ نَفْسِهِ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، صَارَ شَبِيهًا بِالْكَلْبِ، وَبِئْسَ الْمَثَلُ مَثَلُهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
نَعُوذُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ، وَمِنَ الضَّلَالِ بَعْدَ الْهُدَى، وَنَسْأَلُهُ الثَّبَاتَ عَلَى الْحَقِّ إِلَى الْمَمَاتِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ وَاقْتَفَى أَثَرَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الْحَدِيدِ: 28].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: التَّعْبِيرُ عَنْ مُفَارَقَةِ الْحَقِّ، وَالنُّكُوصِ عَلَى الْعَقِبِ، وَالِانْتِكَاسِ فِي مُهَاوِي الْهَوَى، التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالِانْسِلَاخِ تَعْبِيرٌ بَلِيغٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى تَكْسُو الْقَلْبَ بِالْإِيمَانِ وَالنُّورِ وَالْهُدَى، وَالْمُنْسَلِخُ مِنْهَا قَدْ سُلِخَ مَا يَكْسُو قَلْبَهُ، فَكَانَ كَالْعَارِي أَمَامَ النَّاسِ.
وَلَا تَعْجَبْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ- حِينَ تَرَى الْمُنْسَلِخِينَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، النَّاكِصِينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ؛ أَشَدَّ عَدَاوَةً لِلْقُرْآنِ وَلِلسُّنَّةِ وَلِلشَّرِيعَةِ وَلِلْمُتَمَسِّكِينَ بِهَا مِنَ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ مِنْ ضِيقٍ وَحَرَجٍ يُنَفِّسُونَ عَنْهُ بِالْعَدَاءِ السَّافِرِ لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ، وَتِلْكَ عَاجِلُ عُقُوبَتِهِمْ بِسَبَبِ انْسِلَاخِهِمْ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهَا ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [طه: 124] فَهَذِهِ الْعَدَاوَةُ الشَّدِيدَةُ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ الْمُتَمَسِّكِينَ بِهِ، سَبَبُهَا الضَّنْكُ الَّذِي يَجِدُونَهُ، وَالضِّيقُ الَّذِي يُعَانُونَهُ، وَلَنْ يَنَالُوا مِنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا، وَلَا يَضُرُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ.
إِنَّ الْمُعَامَلَةَ الَّتِي تُنْجِي صَاحِبَهَا مِنْ ضَنْكِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَتَضْمَنُ لَهُ السَّعَادَةَ فِي الدَّارَيْنِ، هِيَ الْمُعَامَلَةُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمُعَامَلَةُ مَعَهُ سُبْحَانَهُ تَقْتَضِي التَّمَسُّكَ بِدِينِهِ، وَالدِّفَاعَ عَنْهُ، وَالْإِخْلَاصَ لَهُ، فِي حَالَيِ الرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ، وَالْعَافِيَةِ وَالْبَلَاءِ، وَالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَالْمُتَعَامِلُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَأْبَهُ بِمَنْ ضَلَّ مِنَ النَّاسِ، وَلَا تُزَعْزِعُ ثَبَاتَهُ كَثْرَةُ الضَّالِّينَ وَالْمُنْتَكِسِينَ، وَلَا يُزَحْزِحُ يَقِينَهُ فِي دِينِهِ كَثْرَةُ الطُّعُونِ عَلَيْهِ، وَالتَّشْكِيكِ فِيهِ، بَلْ يَزِيدُهُ ذَلِكَ يَقِينًا إِلَى يَقِينِهِ، وَحَالُهُ كَحَالِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا تَجَمَّعَتِ الْأَحْزَابُ عَلَيْهِمْ تُرِيدُ إِبَادَتَهُمْ ﴿قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ [الْأَحْزَابِ: 22]، فِي حِينِ أَنَّ الْمُتَذَبْذِبِينَ وَالْمُنْتَكِسِينَ وَالْمُنَافِقِينَ قَالُوا: ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الْأَحْزَابِ: 12].
وَكُلُّ عَبْدٍ يَخْتَارُ مَوْضِعَ قَدَمِهِ مِنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِمَّا مَوْضِعٌ مُتَوَسِّطٌ صُلْبٌ رَاسِخٌ، وَإِمَّا مَوْضِعٌ عَلَى حَرْفٍ مَائِلٍ، تَعْصِفُ بِهِ الْفِتَنُ وَالْأَهْوَاءُ فَتُزَحْزِحُهُ عَنْ دَائِرَةِ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ. وَلْيَحْذَرِ الْمُؤْمِنُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ رِدْئًا لِلْإِسْلَامِ غَيَّرَهُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ، وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ...» رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
على-أعقابهم-1-مشكولة
على-أعقابهم-1-مشكولة
على-أعقابهم-1
على-أعقابهم-1
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق