( الميراث ميراثان فانتبه ) 10 / 7 / 1446 هـ
د. عبدالله بن حسن الحبجر
( الميراث ميراثان ) 10 / 7 / 1446 هـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله ، خلَق الجنَّ والإنسَ ليعبدوه، وأسبَغ عليهم نعمَه ليشكروه، ودلَّهم على ذاته ليُعظِّموه ويُوقِّروه، أشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، تُسبِّح له الذَّرَّات والمجرَّات، وتشهد بعظمتِه وجلالِه الأرضُ والسماواتُ، وتخضع له جميعُ المخلوقات، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، أكرَمَنا بنبوته، ومنَّ علينا ببعثته، وجعَل ختمَ الرسالات برسالته، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ وسار على نهجه وسنته، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، لا حد لنهايته. أما بعد:
فوصيتي لنفسي ولكم أيها الناس: وصية الله للأولين والآخرين ( ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ) فاتقوا الله رحمكم الله، واعتصموا بحبله حق الاعتصام، واستمسكوا بالعروة الوثقى التي ليس لها انفصام.
حبل الله: الإقرارُ بتوحيده، وأداءُ فرائضهِ وإقامةِ حدوده، والتصديقِ بوعده ووعيده. (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب).
معاشر المسلمين: النَّاسُ في هذهِ الحَياةِ يِسْعونَ بما كَتَبَ اللهُ لَهُمْ طِوَالَ حَيَاتِهِمْ، ثم يُفَارِقونَ الدنيا ويتركونَ خلفهمْ الإرثَ لمن بعدهم.
والمتأمل بعين البصيرة قبل البصر، يجد أن الْمِيرَاث مِيْراثَاْن، فَالْأَوَّل مِيْراثُ مَالٍ بأنواعِهِ المَعرُوفةِ، وهذا يذهبُ إلى الورثةِ الذينَ شرَعَ اللهُ تعالى حَسَبَ نَصيبِ كلِّ وَارثٍ وما يستحق. وهذا في الغالبِ يكونُ نَفْعُهُ مُخْتَصاً بالأقربين جدا .
أما المِيرَاثُ الثَاْنِي فَهْو ـ والله ـ الْأَعْظَم وَالْأَجَل، ذلكمْ الميراثُ الأعمُّ نفعا، والأشملُ للقريب والبعيد والحاضر والمستقبل إلى ما شاء الله ، وهو من فضل الله وكرمه يتنوع بأنواعٍ كثيرةٍ، ووجوهٍ متعددة، لا يفرط فيها مع الاستطاعة إلا محروم .
أول هذه المواريث: العلم النافع ، فالعلماء ورثة الأنبياء ، والأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذهُ أخذَ بحظٍ وافر، فهنيئا لمُعَلّمِ الناسِ الخيرَ، وهنيئا لمن سعى في نشر العلم بين الناس بماله وجهده إذا لم يكن من العلماء.
من الميراث الباقي النافع أيضا: الصدقة الجارية المتمثلة في الأوقاف على أعمال الخير ووجوه البر، التي يوقفها الإنسان في حياته، أو يوقفها غيره من محبيه، ويهدي ثوابها إليه . وهي من فضل في هذا الزمن تيسرت أكثر من غيرها ، حيث يمكن لجميع أفراد المجتمع المشاركة فيها بالقليل والكثير، عبر الجهاتِ الرسميةِ الموثوقةِ والمصرّحِ لها بذلك ، وذلك لمن ليسَ لديه القدرةُ الماليةُ على الانفرادِ بوقفٍ مكتملٍ ومستقل .
ومن الميراث الباقي النافع أيضا: الولدُ الصالحُ الذي هو من أعظمِ المكاسب، والذي خصه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث بقوله: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علمٍ يُنتفعُ به أو ولدٍ صالحٍ يدعو له"
فمن حصَّلَ واحدةً منها فهو على خير، ومن أكرمَهُ بها كلِّها فذلكَ فضلٌ عظيمٌ لا يحصي ثوابَهُ إلا الله.
عباد الله: من الميراث الباقي النافع أيضا: القدوة الحسنة في الخلقِ الطيبِ والتعاملِ الحسن ، التي يسير بها المسلمُ بين الناسِ معلما وموجها وناصحا.
يراه الناسُ فيذكرونَ الله ؛ لأنه يسيرُ على نورٍ من كتابِ الله وسنةِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم .
روى أحمد في مسنده عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ ) ؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : ( الَّذِينَ إِذَا رُءُوا ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى ، ثُمَّ قَالَ : أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ ؟ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ )
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أحبِّكم إليَّ، وأقربِكم مني مجلسًا يوم القيامة، أحاسنَكم أخلاقًا، وإنَّ أبغضَكم إليَّ، وأبعدكم مني يوم القيامة، الثرثارون والمتشدِّقون والمتفيهقون))، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: ((المتكبِّرون)؛) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وفي حديثٍ صحيحٍ أيضا: (إنَّ اللهَ ليُبَلِّغُ العبدَ بحسنِ خلقِهِ دَرَجَةَ الصَّوْمِ والصَّلاةِ) خرجه الحاكم والطبراني وغيرهما .
أولئك أقوام ربما تغيب أجسادهم عن الدنيا لكنهم بين الناس أحياء.
يارُبَّ حيّ رخامُ القبرِ مسكنُهُ ** وربّ ميتٍ على أقدامِهِ انتصبا .
ذلكم مِيْراثُ أخلاقٍ وطِباعٍ تنْتقِلُ مَن الْآبَاء وَالْأُمَّهَات إِلَى الْأَوْلَاد وَالْبَنَات ، والى الجيران والأصدقاء والقرابات، فيُحمَدون بِهَذَا الْمِيرَاث بَيْن النَّاس إِذَا كَانَت مَن خَيْر الصِّفَات وكريمِ الشِّيَم ، كَمَا وَصَفّ اللَّه تَعَالَى هَذِه الثَّلَّة الْمُبَارَكَة بِقَوْلِه : ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ فَالصِّفَات الْكَرِيمَة مِيْراثُ الْكِرَام
وفي الجانبِ الآخر فإنَّ البعض - والعياذ بالله - قد يُوَرّثُ في حياته وبعد وفاته للاقربين وغير الأقربين أَيْضًا: سخائمَ الصِّفَات وردئ الْمَعَانِي، فشتانَ شتانَ بينهما .
عباد الله: ربما يَمُوت المَيْتُ ويُحسَبُ فِي عِدَاد الْأَمْوَات لكنَّ وَصَاْيَاه وتروكَهُ فِي الْحَيَاة لَهَا أَبْلَغ الْأَثَر فِي آخرتِهِ، ولذلك قَال اللَّه تَعَالَى ﴿يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾ وَقَال ﷺ: [إنَّ مِمَّا يَلْحَق الْمُؤْمِن مَن عَمَلِه وَحَسَنَاتِه بَعْد مَوْتِه عِلَّمَاً عِلْمِه وَنَشْرِه ، وَولداً صَالِحًا تَرَكَه ، أَو مُصَحَفَاً وَرَّثَه أَو مَسَجِداً بَنَاه ، أَو بيتاً لِابْن السَّبِيل بَنَاه ، أَو نهراً أَجْرَاه ، أَو صدقةً أَخْرَجَهَا مَن مَالِه فِي صِحَّتِه وَحَيَاتِه تَلْحَقُه مَن بَعْد مَوْتِه] فَمَن النَّاس مَن يُوَرَّث الخيراتِ والمسرَّاتِ لِأَهْلِه وَذَوِيه وَمِنْهَم مَن يُوَرَّث لَهُم المَعرةَ وَالذكرَ الشائن عِنْد اللَّه وَعِنْد النَّاس
اللهم اجعلنا يا ربنا جميعا مفاتيح لكل خير مغاليق لكل شر مباركين أينما كنا وحيثما حللنا وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا ذا الجلال والإكرام ، اقول قولي هذا ....
__ الخطبة الثانية ____
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ثم أما بعد:
فيقول ابن قدامة رحمه الله: " السعيد هو من إذا توقفت أنفاسه ، لم تتوقف حسناته "
تأمل يا رعاكَ اللهُ هذا المعنى العميق ، فالسعادةُ الحقيقيةُ ليست في عمرٍ طويل، بل في أثرٍ يبقى بعد رحيلكَ عن هذه الدنيا .
ازرع علما ، قدم صدقة ، أو اترك عملا صالحا يدومُ ليكونَ أنفاسك التي لاتنقطع .
وأخيرا يا عبدالله تذكر:
( إنَّ إلى رَبَّكَ الرُجعَى )
(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ المُنتَهى)
فمَنْ أيقن أنَّ إلى الله المصير، أحسن في الدنيا المَسِير.
اللهم إنا نتوجه إليك بالمسألة، وندعوك ونرجوك، وأنت الله لا إله إلا أنت.
يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام ندعوك باسمك الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت ، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام
اللهم يا من يقول للشيء كن فيكون ،
اللهم إنا نسألك لأُمَّةِ الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم أمرَ رُشد، يُعَزُّ فيه أهل الطاعة، ويُتَابُ فيه على أهل المعصية، يؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، في كل مكان يارب قوي يا عزيز .
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين ونفس كرب المكروبين واقض الدين عن المدينين واشف مرضانا ومرضى المسلمين وارحم موتانا وموتى المسلمين
اللهم الطف باخواننا في فلسطين وانصرهم على أعدائهم يا رب العالمين
اللهم وعليك باعداء الملة والدين من اليهود والنصارى والرافضة وأعوانهم .
اللهم لا تمكن لهم في اي بلد من بلاد المسلمين ..
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، ولِّ عليهم خيارهم واكفهم شر شرارهم يارب العالمين.
اللهم وفق امامنا خادم الحرمين الشريفين بتوفيقك، وأيده بتأييدك واعل به دينك، اللهم وفقه وولي عهده إلى ما فيه صلاح الإسلام والمسلمين.
اللهم انصر بهم دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وعلى آله وصحبه صلاة وسلاما دائمين ممتدين متلازمين الى يوم الدين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.