الموت وفقد الامير نايف

أبو المقداد الأثري
1433/08/02 - 2012/06/22 01:51AM
الخطبة الأولى : الموت وفقد الأمير نايف بن عبدالعزيز 2/8/1433
الحمد لله (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) , والقائل : (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ) ، والقائل: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) . وصلى الله على نبينا محمد القائل : "والله! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولَبَكَيْتُم كثيراً"، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد :
فيا عبادَ الله : خيرُ ماستَكنّ في الجنانِ ونطق به اللسانُ الوصيّة بتقوى المولى الرّحيمِ الرّحمن : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) .
مِلاكُ الأمر تقوى اللهِ فاجعلْ تُقـاه عدةً لصـلاح أمـــــــــــرك
وبـادر نَحو طـاعته بعــــزمٍ فما تدري متَى يُمضَى بعمــرك
عباد الله :
كيف أبدي بأحرفي ما أريدُ *** وبماذا تراهُ يحكي القصيدُ
كُلُّ يومٍ تدق بابي عظاتٌ *** ويهزُّ الفؤادَ خَطْبٌ جديد
ويح نفسي ألم تُفِقْ من هواها *** أوَما هَزَّ حافقيها الوعيد
يصبح العبد في بنيه ويمسي *** وهو تحت التراب فرد وحيد
آه من يوم سكرتي ومماتي *** حينما أنثني وروحي تجود
أستغيث الطبيب ماذا جرى لي ***م قيل هذا ما كنت منه تحيد
لم تغثني دموعُ مَن كان حولي *** لا ولا عدَّة الطبيب تفيد!
عباد الله : عجب هذا الموت ! مُفَرِّق الجماعات ، وهادم اللذات ، لا يملك أحد من المخلوقين له ردا ، ولا يستطيع أحد له دفعا ، كم من أفراح جعلها أتراحا ! وسرور قلَبه هما وغما ! والد بين أولاده يضاحكهم ويداعبهم في سعادة ونشوة وفرح وفجأة إذا بالأفراح تنقلب أحزانا ويبقى الأولاد أيتاما ، وفتاة في عمر الزهور تراقب الأيام والشهور ليزفها أبوها إلى عريسها ، لحظات والعريس والوالد بين الأموات .
وأم تملأ البيت بحنانها تحنو على صغارها تقبل هذا وتداعب ذاك ثم لم يلبث الحال حتى زال الحنان وغاب ذلك الإنسان فذهبت الابتسامات ، وحلت الآهات والحسرات ، ومسافر وزوجه وأولاده يقطعون الطريق في سعادة وسرور وإذا هم في القبور ! وآخر لتوه فرغ من بناء الدار أتقنها أيما إتقان وصبغها بالألوان وفرشها أجمل ما كان , فلما قارب سكناها أُخِذَ على حين غرة فانتقل إلى دار التراب ، وأما تلك الدار فلا تسمع فيها حسا ولا همسا !.
فلا إله إلا الله ! ما أجل حكمته ! وما أعظم تدبيره ! تلك هي الدنيا ، خدَّاعةٌ غدَّارةٌ فتَّانةٌ غرَّارة ، تُضحك وتبكي وتجمع وتشتت ، شدة ورخاء وسراء وضراء ، والعاقل اللبيب من اتعظ واعتبر ، فالموت أمر واقع ، ماله من دافع ، لا مرد له ولا شافع ، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) .
إنَّ الموت قد فضح الدنيا فلم يدَع لذي لُبٍّ بها فرَحا ، وما ترك لنا قُرَّةَ عينٍ في أهل ولا ولد ولا مال ، ولا أصحاب ولا أحباب ، قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم ، فالتمِسُوا أيها العقلاء نعيما لا موت فيه ، فلقد أمن أهل الجنة الموت .
رحم الله عمر بن عبدالعزيز إذ قال : لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد ، وكان -رحمه الله- يجمع كل ليلة الفقهاء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة .
ودخل مالك بن دينار المقابر ذات يوم فإذا رجل يدفن فجاء حتى وقف على القبر فجعل ينظر إلى الرجل وهو يدفن فجعل يقول : مالك غدا هكذا يصير ! مالك غدا هكذا يصير ! حتى خر مغشيا عليه في جوف القبر فحملوه وانطلقوا به إلى منزله مغشيا عليه.
ونحن ندخل المقابر ونقف على القبور ونصلي على الجنازة ونحمل الجنازة ونضع الجنازة وحامل الجنازة اليوم , محمول غدا ، فهل غشي علينا ؟ بل هل خفقت قلوبنا ؟ وهل اقشعرت أبداننا ؟ وهل دمعت عيوننا ؟ فآهٍ لقسوة قلوبنا ! حتى الموت لم يعد واعظا لنا ! آهٍ لشدة غفلتنا ! آهٍ لكثرة ذنوبنا ! آهٍ لقلة زادنا !.
الموت يردع عن المعاصي ، ويُلين القلب القاسي ، فما الذي جرى للناس ؟ ألم يقل طبيب القلوب -صلى الله عليه وسلم- : "أكثروا من ذكر هاذم اللذات" ؟ ألم يرو عنه -صلى الله عليه وسلم-: "كفى بالموت واعظا"؟! فمن لم يعظه الموت فمَن ؟ ومن لم تعظه مشاهد الاحتضار فمن ؟ ومن لم تعظه سكرات الموت فمن ؟ متى العمل ؟ عند نزول الموت ؟ أبعد الموت ؟ أفي القبر ؟ هيهات هيهات ! لا إله إلا الله ! كيف لا نرى حالنا ؟ والموت أمامنا والقبر منامنا ، والقيامة موقفنا ، وجسر جهنم طريقنا ، ولا ندري ما يفعل بنا .
عبد الله : صور لنفسك لحظات السكرات لحظة مهولة ذات كرب شديد وما بعدها إلا وعد أو وعيد : ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ).
صور لنفسك سكرات الموت التي ما سلم منها خير الأنبياء وأكرم الخلق ؛ فقد كان بين يديه ركوة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول : " لا إله إلا الله ! إن للموت سكرات !" ثم نصب يده فجعل يقول : "في الرفيق الأعلى!" حتى قبض ومالت يده , حتى إن ابنته فاطمة -رضي الله عنها- لما رأت ما به من الكرب الشديد الذي يتغشاه قالت : وا كربَ أباه ! فقال لها : "ليس على أبيك كرب بعد اليوم".
وأما عائشة فقد قالت : " ما أغبط أحد بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لكعب الأحبار : يا كعب ، حدِّثْنا عن الموت ؟ فقال : نعم يا أمير المؤمنين ، إن الموت كغصن كثير الشوك أدخل في جوف رجل ، وأخذت كل شوكة بعرق ثم جذبته رجل شديد الجذب فأخذ ما أخذ وأبقى ما أبقى.
أخي الحبيب : كل هذا فقط عند لحظات السكرات ، فكيف بالقبر والظلمات والصراط والحساب والأهوال ؟ والنهاية جنة أو نار .
أخي : أما تخاف الله ؟! أليس في قلبك تعظيم لله ؟! كم دعاك إلى بابه فما أجبت ! وكم استدعاك إلى جنابه فقعدت !.
عبد الله : ألا تسمع لكلمات الناصح الأمين ؟ فكم سمعت دعوة الخير فتصاممت ، أجب -أخي- داعي الله ، وقل للنفس :
يا نفسُ ويحَكِ قد أتاكِ هُدَاكِ أجيبي فداعي الحق قد ناداكِ
كم قد دُعِيتِ إلى الرشاد فتعرضي وأجَبْتِ داعي الغيِّ حين دعاك
أخي : قل لنفسك وحدثها ، وحاسبها : يانفس إلى متى ؟ أما آن لك أن ترعوي ؟ أما تخافين من الموت ؟ فهو يأتي بغتة ، أما تخشين من المرض ؟ فالنفس تذهب فلتة .
اخبِرْني أخي لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك أكان يسرك حالك وما أنت عليه ؟! يا كثير السيئات ! إن للموت سكرات ! يا هاتك الحرمات ! إن للقبر ظلمات ! يا صاحب الشهوات ! إن للنار زفرات ! اسأل نفسك ماذا أعددت لكل هذا ؟ حسرات ، عبرات ، سكرات ، قبور موحشات ، عظام نخرات ، يا أسير الغفلات !.
أخي الحبيب : لا أريد أن أكدر عليك أيامك ، ولا أن أبعثر احلامك ، لكنها الحقيقة التي لا مفر منها والتي تتغافل عنها ، نحن لا نطالبك بترك المباحات فإن الله تعالى يقول : ( وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) ، لكن لماذا أصبح نصيبك كله للدنيا ؟ لماذا نسيت الآخرة ؟ لماذا نسيت الجنة وما فيها من نعيم وخضرة وأنهار وقصور وجمال ، وخمر وغناء ، و ما لا يخطر على القلب ؟.
قال إبراهيم التيمي : مثلث نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها ، ثم مثلث نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها ، فقلت لنفسي : أي شيء تريدين ؟ قالت : أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحا . قال : قلت فأنت في الأمنية ، فاعملي .
فيا أخي الحبيب : إن العلاج الناجع ان تحرص على عمارة الآخرة , عمارتها بالأعمال الصالحة ، وكثرة التوبة والاستغفار ، وأن نجاهد أنفسنا بترك المعاصي والسيئات ، وإلا فإن الموت حق على الجميع ، لكن شتان بين مَن مات وهو على طاعة ربه وبين من مات عل معصية الله ! شتان بين من مات على خير وحسن ختام وبين من مات على شر وسوء ختام !.
بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح، فلما أصبح قيل له : كل هذا خوفا من الذنوب ؟ فأخذ تبنة من الأرض وقال : الذنوب أهون من هذا ، وإنما ابكى من خوف سوء الخاتمة.
فمن هذا خاف السلف من الذنوب أن تكون حجابا بينهم وبين الخاتمة الحسنى.. اللهم توفنا وأنت راض عنا ، واجعلنا ممن ختمت له بالحسنى برحمتك يا أرحم الراحمين ، أقول قولي هذا..
الخطبة الثانية :
أيها المسلمون : ما كان حديثًا يُفترَى ، ولا أمرًا يُزْدَرَى ؛ أنّ هذه الدار دار امتحان وابتلاء ، ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) وأنّ حقيقتها ظلّ زائل ، وعَرَض حائل ، ( يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ).
لقد تَحَسَّى مرارة الموت الأنبياء والأولياء ، والعلماء والنبلاء ، والعظماء والزعماء ، بل كل صغير وكبير ، وغني وفقير ، ومأمور وأمير .
في حَدَثٍ هزّنا خبُرُه ، وأفزعنا نبؤه ، خبرٍ عزّ علينا مَسْمَعُه ,
لَعَمْرُكَ مـا الرزِيَّة فَقْدُ مـالٍ ولا شـاةٌ تمـوتُ ولا بَعِيـرُ
ولـكنّ الرزِيَّة فَقْـدُ شَهْــــــمٍ يمـوت بمـوته بَشَـرٌ كثيـرُ
مات نايف بن عبدالعزيز رجل الأمن الأول ، نايف الأمن و الأمان , قاهر الإرهاب , العين الساهرة , نائب الخير , نايف السياسة و الحكمة , قائد الأمن الفكري , سيد صقارين الجزيرة , الحارس للأعراض ، والذّاب عن أجهزة الحسبة ، وله في كل باب خير يد مشهودة.
فرحم الله نايف بن عبدالعزيز رحمة الأبرار ، وألحقه بعباده المصطفَين الأخيار ، وأسبغ عليه الرحمة والغفران ، وجمعنا وإياه وسائر موتى المسلمين مع النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين ، وجزاه خير الجزاء على ما قدّم للإسلام والمسلمين.
فاللهم آجرنا في مصابنا واخلف لنا خيرا يا أرحم الراحمين .
والحمد لله على قضائه وقدره ، والله المستعان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، لله ما أخذ ، وله ما أعطى ، وكلّ شيء عنده بأجل مسمّى.
أيها المسلمون : فمع لَوْعَة الفراق تمّ الوفاق والاتفاق ، ومع أسى الوداع تم الاعتصام والاجتماع ، في مظهر فريد ، من اجتماع الكلمة ، ووحدة الصف ، ومُبادَرة للبيعة الشرعية على الكتاب والسنة ، بسلاسة وانسيابيّة ويُسر وتلقائيّة , وهذا بحمد الله ومَنّه يُعدّ من عاجل البشرى ، وصالح العُقْبَى ، في عصرٍ اتّسم بالفتن والاضطرابات ، مما شفى صدور المؤمنين ، وخيّب ظنون المُرْجِفين الذين يُساوِمون على استقرار هذه البلاد المباركة ، ويراهنون على أمنها وثباتها ورسوخها ، وبهذه المناسبة فإننا نجدّد ونؤكّد البيعة الشرعية لولاة أمرنا وفّقهم الله ، على كتاب الله وسنة رسوله ، بيعة مخلصة ، وولاءً صادقًا ، على السمع والطاعة بالمعروف في العُسْر واليُسْر ، والمَنْشَط والمَكْرَه ، امتثالاً لأمر الله عزّ وجلّ ، واستنانًا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
فاللهم لك الحمد حمدا حمدا على نعمة صفاء التوحيد ونقاء العقيدة , فلقد رأى كثير منكم ذلك القبر , فلا هناك ورود ولا أزهار ولا طقوس ولا افتخار , بل قبر على سنة المصطفى , إنه صفاء التوحيد ونقاء العقيدة , فنسأل الله أن يحقق التوحيد قولا و عملا واعتقادا في قلوبنا .
هذا وصلوا وسلموا .... ...
المشاهدات 2267 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا ونفع بعلمك