الموت دروس وعبــــــــر

محمد بن سليمان المهوس
1442/04/10 - 2020/11/25 09:28AM

الخُطْبَةُ الأُولَى

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: الْمَوْتُ حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ وَوَاقِعٌ مُتَحَتَّمٌ عَلَى مَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مِنَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلاَئِكَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [آل عمران:185]، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 88]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرحمن:26-27].

حَتَّى أَشْرَفُ الْخَلْقِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَسْلَمْ مِنَ الْمَوْتِ، وَقَدْ نَعَاهُ رَبُّهُ فِي حَيَاتِهِ، فَقَالَ: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: 30].

فَالأَجَلُ مَحْدُودٌ، وَالْعُمْرُ مَعْدُودٌ، يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْمَخْلُوقُ لاَ يَتَجَاوَزُهُ وَلاَ يَقْصُرُ عَنْهُ؛ عَلِمَهُ اللهُ وَكَتَبَهُ وَشَاءَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً﴾ [آل عمران: 145].

وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: اللَّهُمَّ مَتِّعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : «إِنَّكِ سَأَلْتِ اللهَ تَعَالَى لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَآثَارٍ مَوْطُوءَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لاَ يُعَجَّلُ شَيْءٌ مِنْهَا قَبْلَ حِلِّهِ، وَلاَ يُؤَخَّرُ مِنْهَا يَوْمًا بَعْدَ حِلِّهِ، وَلَوْ سَأَلْتِ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُعَافِيَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ لَكَانَ خَيْرًا لَكِ».

وَالْعِلْمُ بِالأَجَلِ مِنْ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، فَلاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ [لقمان: 34].

وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : «إِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى قَبْضَ رُوحِ عَبْدٍ بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ فِيهَا -أَوْ قَالَ: بِهَا- حَاجَةً» [صححه الألباني]، وَكَمَا قِيلَ:

بَيْنَا الْفَتَى مَرِحُ الْخُطَى فَرِحٌ بِمَا *** يُسْعَى لَهُ إِذْ قِيلَ قَدْ مَرِضَ الْفَتَى

إِذْ قِيلَ بَاتَ بِلَيْلَةٍ مَا نَامَهَا *** إِذْ قِيلَ أَصْبَحَ مُثْخَنًا مَا يُرْتَجَى

إِذْ قِيلَ أَصْبَحَ شَاخِصًا وَمُوَجَّهًا *** وَمُعَلَّلاً إِذْ قِيلَ أَصْبَح قَدْ مَضَى

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يُخْطِئُ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الْمَوْتَ فَنَاءٌ مَحْضٌ وَعَدَمٌ تَامٌّ، لَيْسَ بَعْدَهُ حَيَاةٌ وَلاَ حِسَابٌ وَلاَ حَشْرٌ وَلاَ نَشْرٌ وَلاَ جَنَّةٌ وَلاَ نَارٌ؛ إِذْ لَوْ كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ لاَنْتَفَتِ الْحِكْمَةُ مِنَ الْخَلْقِ وَالْوُجُودِ، وَلاَسْتَوَى النَّاسُ جَمِيعًا بَعْدَ الْمَوْتِ وَاسْتَرَاحُوا، فَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ سَوَاءً؛ وَلاَ شَكَّ أَنَّ هَذَا يُنَاقِضُ الإِيمَانَ، وَيُنَافِي تَصْدِيقَ الْقَلْبِ وَإِقْرَارَ اللِّسَانِ، وَإِنْكَارٌ لِعِلْمِ اللهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115]، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُقْسِمَ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى وُقُوعِ الْمَعَادِ وَوُجُودِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [التغابن: 7]. 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: دُنْيَانَا مَهْمَا طَالَتْ فَهِيَ قَصِيرَةٌ، وَمَهْمَا عَظُمَتْ فَهِيَ حَقِيرَةٌ! لأَنَّ اللَّيْلَ مَهْمَا طَالَ لاَ بُدَّ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلِأَنَّ الْعُمُرَ مَهْمَا طَالَ لاَ بُدَّ مِنْ دُخُولِ الْقَبْرِ، وَالْحَقِيقَةُ الَّتِي سَمَّاهَا اللهُ فِي قُرْآنِهِ بِالْحَقِّ لاَ بُدَّ مِنْهَا، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ [ ق: 19].

وَقَدْ حَثَّنَا نَبِيُّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِكَثْرَةِ ذِكْرِ الْمَوْتِ، فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَادِمِ اللَّذَّاتِ»  أَيْ: أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ قَاطِعِ لَذَّاتِ الدُّنْيَا، وَالْمُقَرِّبِ مِنْ لَذَّاتِ الآخِرَةِ، وَاجْعَلُوهُ عَلَى بَالِكُمْ كَثِيرًا حَتَّى تَعُدُّوا الْعُدَّةَ بِالتَّوْبَةِ وَالإِقْبَالِ عَلَى اللهِ وَالاِسْتِعْدَادِ لِلآخِرَةِ، وَقَالَ عَبْدُالله بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَنْكِبِي فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» [رواه البخاري].

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ ، اللَّهُمَّ أَحْيِنَا عَلَى أَحْسَنِ الأَحْوَالِ الَّتِي تُرْضِيكَ عَنَّا، وَأَمِتْنَا عَلَى أَحْسَنِ الأَحْوَالِ الَّتِي تُرْضِيكَ عَنَّا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ لِذِكْرِ الْمَوْتِ فَوَائِدَ عَظِيمَةً لِلْعَبْدِ الْمُسْلِمِ، مِنْهَا: التَّأَهُّبُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ بِالْعَمَلِ بِأُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا؛ كَالْعَمَلِ بِالطَّاعَةِ وَالْمُسَارَعَةِ بِالْخَيْرَاتِ، وَفِي الدُّنْيَا بِأَدَاءِ الْحُقُوقِ وَكِتَابَةِ الْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون : 10].

فَذِكْرُ الْمَوْتِ لاَ يَنْقُصُ الأَجَلَ الَّذِي كَتَبَهُ اللهُ، وَلاَ يَقْطَعُ عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي يَحْتَاجُهُ الإِنْسَانُ فِي دُنْيَاهُ، وَإِنَّمَا يَبْعَثُ عَلَى الاِسْتِعْدَادِ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَهْوَالِ الْقَبْرِ وَالْقِيَامَةِ، وَالظَّفَرِ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ فَاتَّقُوا اللهَ، وَاسْتَعِدُّوا لِلْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ بِتَحْقِيقِ التَّوْحيدِ لِرَبِّكُمْ، وَصِدْقِ الْمُتَابَعَةِ لِنَبِيِّكُمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى أَدَاءِ كُلِّ مَا افْتَرَضَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ.

هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [ رَوَاهُ مُسْلِم ].

المرفقات

الموت-دروس-وعبر

الموت-دروس-وعبر

المشاهدات 2776 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا