المنهج في التعامل مع المنتكسين الشيخ صالح بن مقبل العصيمي

المنهج في التعامل مع المنتكسين

الشيخ صالح بن مقبل العصيمي


مقدمة:
الحمدُ لله المستحقِّ الحمْدَ لآلائه، المتوحِّد بعِزِّه وكبريائه، القريب مِنْ خلقه في أعلى عُلُوِّه، البعيد منهم في أدنى دنوِّه، العالِم بكنِين مكنون النجْوى، المطَّلِع على أفكار السرِّ وأخفى، وما استَجنَّ تحت عَناصِر الثَّرَى، وما جالَ فيه خَواطِر الوَرَى، الذي ابتَدَع الأشياء بقُدرته، وذَرَأ الأنام بمشيئتِه، من غير أصْل عليه افتعل، ولا رسم مرْسوم امتثل، ثم جعل العقول مسْلكًا لذَوي الحِجَا، وملجأً في مسالك أُولي النُّهَى، وجعَل أسبابَ الوصول إلى كيفيَّة العقول ما شقَّ لهم مِن الأسماع والأبصار، والتكلُّف للبحث والاعتِبار، فأحكم لطيف ما دَبَّر، وأتقن جميع ما قدَّر.



ثُم فضَّل بأنواع الخِطاب أهْلَ التمييز والألباب، ثم اختارَ طائفةً لصفوته، وهداهم للُزُومِ طاعَتِه، من اتِّباع سُبُلِ الأبرار، في لُزُوم السُّنَنِ والآثار، فزَيَّنَ قُلوبَهم بالإيمان، وأنطَقَ ألسِنَتَهم بالبَيَان، من كشْف أعلام دينِه، واتِّباع سنن نبيِّه، في جمع السُّنَن ورفْض الأهواء، والتفقُّه فيها بترْك الآراء، فتجرَّد القومُ للحقِّ وطلَبُوه، وذكَّروا به ونشَرُوه، وتفَقَّهوا فيه وأصَّلُوه، وفرَّعوا عليه وبذَلُوه؛ حتى حفِظ الله بهم الدين على المسلِمين، وصانَه عن ثَلْبِ القادِحين، وجعَلهم عند التنازُع أئمَّة الهدى، وفي النَّوازِل مَصابِيح الدُّجَى، فهم ورَثَة الأنبياء، ومأنس الأصفِياء، وملجَأ الأتْقِياء، ومركز الأولياء.



فله الحمدُ على قدَرِه وقَضائِه، وتفضُّله بعَطائِه، وبِرِّه ونعمائه، ومَنِّه بآلائِه.



وأشهد أن لا إله إلا الذي بهدايته سَعِدَ مَن اهتَدَى، وبتأييده رشد مَن اتَّعَظَ وارعوى، وبخذلانه ضلَّ مَن زلَّ وغَوَى، وحادَ عن الطريقة المثْلَى.



وأشهَد أنَّ محمَّدًا عبدُه المصطفَى، ورسوله المرتَضَى، بعَثَه إليه داعِيًا، وإلى جِنانه هاديًا، فصلَّى الله عليه، وأزلَفَه في الحشْر لديه، وعلى آلِه الطيِّبين الطاهِرِين أجمعين.



أمَّا بعدُ: فإنَّ الله - جلَّ وعَلاَ - انتَخَب محمَّدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - لنفسِه وليًّا، وبعَثَه إلى خلقِه نبيًّا؛ ليدعو الخلق من عبادة الأشياء إلى عبادتِه، ومِن اتِّباع السُّبُل إلى لزوم طاعَتِه؛ حيث كان الخلْق في جاهليَّة جَهلاء، وضَلالة عَمياء، يَهِيمون في الفِتَن حَيارَى، ويَخُوضُون في الأهْواء سُكارَى، يتردَّدون في بِحار الضَّلالة، ويَجُولون في أوْدِيَة الجهالة، شريفهم مغْرور، ووضيعُهم مقْهور.



فبعَثَه الله إلى خَلقِه رسولاً، وجعَلَه إلى جِنانه دلِيلاً، فبلَّغ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عنه رسالاته، وبيَّن المراد من آياته، وأمَر بكسْر الأصنام، ودحْض الأزلام، حتى أسفَرَ الحق عن مَحضِه، وأبدى الليل عنْ صُبحِه، وانحَطَّ به أعلام الشِّقاق، وتهشَّم به بيضة النِّفاق.



وإنَّ في لُزُوم سنَّته تمامَ السَّلامَة، وجِماع الكَرامَة، لا تطفأ سرجها، ولا تُدحَض حججها، مَن لزمها عُصِم، ومَن خالَفَها نَدِمَ؛ إذ هي الحصن الحَصِين، والرُّكن الرَّكِين، الذي بانَ فضلُه، ومتن حبلُه، مَن تمسَّك به ساد، ومَن رام خلافَه باد، فالمتعلِّقون به أهلُ السَّعادة في الآجِل، والمغبوطون بين الأنام في العاجل[1].



وإنِّي لَمَّا رأيتُ الانتِكاسات طرقها كَثُرتْ، ومعرفة الناس بأساليب التعامُل معها وأنواعها قلَّتْ، أحببتُ أنْ أكتب في هذا الموضوع مِنْ أجل تَجْليته وإبرازه، وجميع ما في أثناء هذه الرسالة اجتِهادات بشريَّة، كتبتُها من خِلال قَناعات شخصيَّة، قد أُوافَق عليها أو أُخالَف، فما كان من صَوابٍ فمن الله، وما كان مِن خطأٍ فمن نفسي وقلَّةِ علمي، فلا تَبخَل على أخيك بما تُلاحِظه باتِّصالٍ أو برسالة.



وفي الختام: أسأل الله العليَّ القدير أنْ يُبارِك في هذا الكتاب، وأنْ يجعلَه خالصًا لوَجْهه.



سبب تأليف الكتاب
اتَّصَل بي أحدُ طلبة العلم وقال لي: إنَّ أحد الشباب انْتَكَس - وهذا أمرٌ معروف ومشهور، وليس بجديد - وقد انتَقَده زُمَلاؤُه وعنَّفوه، بل وصَل الحالُ ببعضهم إلى التَّشهِير به عَبْرَ الإنترنت، وكأنَّه قد خرَج من ملَّة الإسلام، مع أنَّ ما طَرَأ عليه لا يَعدُو أن يكون نقصًا في استِقامَتِه، وتَباحثْتُ معه في المسألة، فدفعَنِي ما حدَث إلى تَأليفِ هذه الرِّسالة التي أردتُ مِنْ خِلالها أن يعلم الشبابُ المنهج في التعامُل مع زملائهم الذين طرَأ عليهم تغيُّرٌ في الاستقامة.

• • •




المنهج في التعامُل مع المنتَكِس


من الصُّعوبة أن يُحكَم على إنسانٍ بأنَّه مُنتَكِس بدون استِقصاءٍ وتثبُّت في الأمر مع نيَّة سليمة وصادقة؛ بحيث لا يكون الهدفُ هو تتبُّع العوْرة، إنَّ الحكم على إنسانٍ بأنَّه مُنتَكِسٌ بدون توفُّر شروط الانتِكاس عليه، أمْرٌ في غايَة الخطورة؛ لأنَّ من الناس مَن يَتساهَل في هذه المسألة ولا يتردَّد بالحكم على أخٍ له في الدين بأنَّه مُنتَكِس، وقد لاحَظتُ - مع الأسَف الشديد - أنَّ مفهوم الانتِكاس عند بعض الشباب خطأ؛ لأنَّه بمجرَّد حدوث تغيُّر عند أخٍ له حتى ولو كان التغيُّر في حدود تَعاطِي المكروهات والمباحات والمستحبَّات، يستحقُّ فاعلُ هذا عنده هذا الوصْف بلا تردُّد، وأُعطِي مِثالاً على ذلك: عندما يَقُوم أحدُ المستَقِيمين بلبس الكبك أو العقال، يصفه البعض بأنَّه مُنتَكِس، وهذه طامَّةٌ كُبرى، ومصيبةٌ عُظمى؛ لأنَّ اللباس الأصل فيه الحِلُّ والإباحة، وما اعتادَه الناس لا يرْتقي لمرتبة السنَّة، فَضْلاً على الوجوب بأيِّ حال من الأحوال، ما لم يرد نصٌّ بذلك.

• • •

الانتِكاس الحقيقي:


هو ترْك الواجِبَات، والإصرار على إتيان المحرَّمات واستِمرائها؛ بحيث تكون ظاهرةً جليَّةً، يُجاهِر بها أمامَ الناس.



أمَّا الوقوع في الذُّنوب والمعاصي - سواء أكانتْ كبائر أم صغائر - فإنَّها لا تُعَدُّ من الانتِكاس، طالما تابَ عنها صاحِبُها، دون عِنادٍ ومُكابَرة، فليس يَسلَم من الذُّنوب والمعاصي أحدٌ، والعصمة لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولو وُصِف كلُّ مُذنِب بالانتِكاس لما بقي على وجْه الأرض ملتزم.



والخلاصة:


الوقوع في صغائر الذنوب، أو ترْك المستحبَّات مع إتيان المباحات والمكروهات، لا يُعدُّ مُتعاطِيها مُنتَكِسًا، فالأحكام الشرعيَّة مصدرها الشرع المطهَّر، وليست الأهواء والأمْزجة.



فهناك علاماتٌ وآثارٌ تَظْهَر على الشخص تدلُّ على وجود التغيُّر عنده؛ ومنها:

1 - مجاهرته بالمعاصي دون خوفٍ أو حياءٍ.

2 - تركُه بالكليَّة للمجتمع الطيِّب الطاهِر، والتحاقُه برفقةٍ سيِّئة.

3 - تغيُّر نظرته عن الدِّين وأهله.



كما أنَّ من الأمور التي أحِبُّ أن أنبِّه عليها، هو تسرُّع بعض الشباب بهجران زميلهم المنتَكِس، دونما معرفةٍ بأحكام الهجْر؛ ولذا أحببتُ أنْ أبدأ بهذا الموضوع بذِكْر أحكام الهجْر باختِصارٍ بسيط يُناسِب الباب؛ لأنَّ الهجر ليس محبوبًا في غالب أحواله مع أبناء زماننا، إلاَّ إذا كان المنتكِسُ قد انتكَس بسبب شُبَهٍ، فإنَّ هجرَه قد يكون لازِمًا حتى لا يُؤثِّر على بقيَّة زُملائِه، فما أخطر وقوع الشُّبَه على العُقُول التي قد يلتَبِس أمرُها ولا تتحمَّلها العقول، وخاصَّة عقول الشباب الصغار؛ كشُبه العقلانيِّين والخوارج!



ولذا أنصَحُ بهجر مَن كانت انتِكاستهُ انتكاسةَ شُبَه، وهذا كان منهجُ السَّلَف الصالح؛ كما فعَل عمر - رضِي الله عنْه - مع صبيغ بن عسل الحنظلي الذي كان يتكلَّم بمُتَشابِه القرآن، وبدأ يُشكِّك الناس به، فأبعَدَه إلى البصرة، ونهى الناس عن مجالسته ومكالَمته حتى تاب[2].



قال شيخُ الإسلام - رحمه الله -: وهذا الهجْر يختَلِف باختلاف الهاجرين في قوَّتهم وضَعفِهم، وقلَّتهم وكثرتهم، فإنَّ المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامَّة عن مثل حاله، فإنْ كانتِ المصلحةُ في ذلك راجحةً؛ بحيث يُفضِي هجرُه إلى ضعف الشرِّ وخفيته - كان مشروعًا، وإنْ كان لا المهجور ولا غيره يرتَدِع بذلك، بل يَزِيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته - لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفَع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفَع من التأليف؛ ولهذا كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتألَّف قومًا، ويَهجُر آخَرِين[3].



مع وجوب الحرْص على عدَم تَطبيقِه إلاَّ في أضيَقِ نِطاق، مع التأكِيد على أنْ يكون دافع الهجر هو حب الله - عزَّ وجلَّ - وطلب رِضاه، والإخلاص له، والتأكيد على ألاَّ يكون للمَصالِح الشخصيَّة أو الحسد والانتِقام والنيل من الخصوم دورٌ في ذلك، حتى يُؤتِي الهجر ثمارَه.



إذًا علينا ألاَّ نتعجَّل بهجره، والتفكير ألف مرَّة قبلَ الإقدام على هجره، وإذا عزمتَ على الهجر فاستَشِر جمعًا من أهل العلم الكِبار الثِّقات، حتى تَبرَأ الذمَّة أمامَ الله.



المخاطب بموضوعي هذا هو:


1 - مَن يهمُّه أمرُ المنتَكِس؛ كقريبه وجاره، وصديقه وزميله في العمل.

2 - شيخ المنتَكِس ومدرِّسه وزميله، إذا كان ضمن مجموعة دعويَّة كحلقات التحفيظ، والمراكز الصيفيَّة، والمراكز الإسلاميَّة.

3 - الملتزم عندما يجد التغيُّر قد بدأ يظهر عليه.



اتَّبع الخطوات التالية عند دعوة المنتَكِس ومناصحته، وذلك عبر ما يلي:

أولاً: التثبُّت والتبيُّن:
إذ الواجب عليك أولاً أن تَتأكَّد أنَّ صاحِبَك أو قريبَك قد انتَكَس؛ لأنَّ كثيرًا من الناس يُصدِّقون الخبر بمجرَّد وروده دون أن يتأكَّدوا من مصدره وصحَّته، ودون أن يبذلوا أيَّ جهدٍ لمعرفة حقيقة الأمر، هذا إنْ كان يهمُّهم، أمَّا إن كان لا يهمُّهم فعليهم أن يسمَعُوا لنصحه - صلَّى الله عليه وسلَّم - حينما قال: ((مِن حُسْنِ إسلام المرء تركُه ما لا يَعنِيه))[4].



وكم سمع الناس أنَّ فلانًا قد ضَلَّ أو انتَكَس، أو فسق أو فجر، وغالبُ هذه الأخبار شائِعات لا أساس لها منَ الصحَّة، ويبدأ بعضُهم بتناقلِها والترويج لها، دون التثبُّت مِنْ صحَّتها، وهذا مِصداق قوله - تعالى -: ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 15].



لسانٌ يَتلقَّى عن لسان بلا تدبُّر ولا تروٍّ، ولا فحص ولا إنعام نظر، حتى لكأنَّ القول لا يمرُّ على الآذان، ولا تتملاه الرُّؤوس، ولا تتدبَّره القلوب؛ ﴿ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [النور: 15]، بأفواهكم لا بوعيِكم، ولا بعقلكم، ولا بقلبكم.



إنما هي كلمات تَقْذف بها الأفواه، قبل أن تستَقِرَّ في المدارِك، وقبل أن تتلقَّاها العقول.

﴿ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا ﴾ أن تقذفوا عرض أخيكم، وأن تدعو الألم يعصر قلبه وقلب زوجه وأهله ومُحِبِّيه.

﴿ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾، وما يعظم عند الله إلا الجليل الضخم الذي تُزَلزَلُ له الرَّواسِي، وتضجُّ منه الأرض والسماء.



ولقد كان ينبَغِي أن تجفل القلوب بمجرَّد سماعه، وأن تحرج بمجرَّد النُّطق به، وأن تنكرَ أن يكون هذا موضوعًا للحديث؛ ﴿ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 16].



وعندما تَصِلُ هذه اللَّمسَة إلى أعماق القلوب فتهزها هَزًّا، وهي تُطلِعها على ضَخامَة ما جَنَتْ، وبشاعة ما عَمِلَتْ، وعندئذٍ يَجِيء التحذير منَ العَوْدَة إلى مِثْلِ هذا الأمر العظيم.

﴿ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: 17].



﴿ يعظكم ﴾ في أسلوب التربية المؤثِّر في أنسب الظروف للسمْع والطاعة والاعتبار، مع تضْمين اللفظ معنى التحذِير من العودة إلى مثْل ما كان: ﴿ يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدًا ﴾، ومع تعليق إيمانهم على الانتِفاع بتلك العِظَة.



﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ فالمؤمنون لا يُمكِن أن يَكشِف لهم عن بَشاعَة عملٍ كهذا الكشف، وأن يحذَروا منه مثل هذا التحذير، ثم يَعُودوا إليه وهم مؤمنون[5].



وإنَّك لَتعجَبُ من هذه السرعة في النقل مع هذا التَّحذير الواضح والتهديد الصريح للمتعجل، بل أمر الله بطلَبِ بَيان الحقيقة ومعرفة صدق الخبر عند نقله فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6].



وهذه الآية قاعدة أساسيَّة للأمَّة أفرادًا وجماعات؛ بألاَّ يقبلوا من الأخبار التي تُنقَل إليهم ولا يعمَلُوا بمُقتضاها إلا بعد التثبُّت والتبيُّن؛ حتى لا يُصِيبوا الأفراد والجماعات بسُوء؛ فالعقيدة الإسلامية - ولله الحمد - عقيدةٌ واضحة المعالِم، لا تقوم على ظنٍّ أو شُبهة؛ لذا قال - تعالى -: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ [الإسراء: 36].



فهذه الآيَة تضَع منهَجًا للمسلم إذا أراد السلامةَ يوم يلقَى اللهَ، بل وإذا أراد أن يمدَّ الله عليه سترَه في الدنيا ولا يَفضَحه في جَوْفِ بيته، أوَمَا يردُّ العاقِلَ من أهلِ الإسلامِ قولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بئسَ مطيَّة الرجل زعَمُوا))[6]؟



فعندما تَصِفُ أخًا لك بأنَّه قد ضَلَّ وهو ما زال على الهدى مستَقِيمًا وسالِكًا طريقَ الحق، فقد آذيتَه، والرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لَمَّا سُئِل: "أي الإسلام أفضل؟": ((مَن سَلِمَ المسلِمون من لسانه ويده))[7].



فهل هذا المسلم قد سَلِمَ مِن لسانك وإيذائك؟ بل عليك أن تحذرَ من إطلاق هذه الكلمة التي ستَقُود إلى النار - إلاَّ إذا رحمه الله - كما جاء في الصحيحَيْن أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ العبد ليتكلَّم بالكلمة، ما يتبيَّن ما فيها يزلُّ بها في النار أبعد ممَّا بين المشرق والمغرب))[8].



قال ابن حجر في بيان معنى الحديث: "((لا يتطلَّب معناها))؛ أي: لا يثبتها بفكره ولا يتأمَّلها حتى يَتثبَّت فيها، فلا يقولها إلا إنْ ظهرت المصلحة في القول"[9].



الشاهد في كلِّ هذا الكلام أنَّ عليك التقصِّي والبحث دون إثارَة إذا وصلتْك مثلُ هذه الأخبار، وعليك أن تُغلِّبَ جانِب الظنِّ الحسَن، ووالله كمْ منْ إنسانٍ ذكر من أناسٍ بسوء ثم ظهر لهم خِلاف ذلك.



وأَذكُر هنا قصَّة: جاءني مجموعةٌ من الشباب، ونقَلُوا أنَّ أحد العُلَماء قد أفتى بفتوى مخالِفة لما هو عليه منهج السَّلَف الصالح في قضيَّة من القضايا؛ فما كان مِنِّي إلاَّ أن اتَّصَلت بهذا العالم أثناء وجودهم عندي وسألتُه عن الفتوى فتعجَّب واستَنكَر، فقلت: هذا أحد الذين نقَلُوها هو بجواري فكلِّمه، فتخبَّط الرجل في كلامه، ثم قال لي: أحرجتنا مع العالم، فقلت له ولزملائه: ألَم تنقلوا عنه هذا الكلام؟ قالوا: بلى، ولكن لم نتصوَّر أن تتَّصلَ به، فقلت: وهل تريدوني أنْ أُصدِّقَ دون أنْ أتبيَّن، ثم بيَّنت لهم المنهجَ الشرعيَّ في مثْل هذه القضيَّة.



والخلاصة:


أنَّ على مخاطب المنتَكِس وغيره أن يستَمِعَ لهذه النَّصِيحة من صاحِب كتاب التثبُّت عندما قال: "إنَّ على المسلم عدمَ التسرُّع في تصديق الأخبار والأنباء التي تَرِدُ إليه من الناس أو من وسائل الإعلام قبل التأكُّد من صحَّتها أو كذبها، وبخاصَّة الأخبار التي تأتي عن طريق الواشين[10].



ثانيًا: ألاَّ يكون هدفك تتبُّع عورته:

فالواجِب على المسلم الكفُّ عن هذا الخُلُق السيِّئ، والذي لا تُحمَد عُقباه يومَ القيامة إلا إنْ تاب أو رحمه الله.



وقد ورَد النهي عن التجسُّس صراحةً في القرآن الكريم في قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 12].



وقال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾ [النور: 19].



وقال الحافظ ابنُ كثيرٍ - رحمه الله - عند تفسير هذه الآية: هذا تأديبٌ لِمَن سمع شيئًا من الكلام السيِّئ، فقام بذِهنه شيءٌ وتكلَّم به، فلا يُكثِر منه، ولا يُشيعه ولا يُذِيعه؛ فقد قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 19]؛ أي: يختارون ظُهور الكَلام عنهم بالقَبِيح ﴿ في الدنيا والآخِرة ﴾؛ أي: بالحدِّ، وفي الآخِرَة بالعذاب الأليم...[11].



وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي: "فإذا كان هذا الوَعِيد لمجرَّد محبَّة أنْ تشيع الفاحشة واستحلاء ذلك بالقلب، فكيف بما هو أعظم من ذلك من إظهاره ونقله، وسواء كانت الفاحشة صادرة أو غير صادرة"[12].



وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي - رحمه الله -: "والمراد: إشاعة الفاحشة على المؤمن المستتر فيما وقَع منه، أو اتُّهِم به وهو بريءٌ منه"[13].



ومن هذا الباب أيضًا نهيُ الله - جلَّ وعلاَ - عن التجسُّس وتتبُّع المستور.



وقال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -: قال الفضيل بن عِياض: "المؤمن يستر وينْصح، والفاجر يهتك ويعيِّر"[14].



وما أحسن ما قال الناظم:

لاَ تَلْتَمِسْ مِنْ مَسَاوِي النَّاسِ مَا سَتَرُوا
فَيَكْشِفَ اللهُ سِتْرًا مِنْ مَسَاوِيكَا وَاذْكُرْ مَحَاسِنَ مَا فِيهِمْ إِذَا ذُكِرُوا
وَلاَ تَعِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِمَا فِيكَا وَاسْتَغْنِ بِاللهِ عَنْ كُلٍّ فَإِنَّ بِهِ
غِنًى لِكُلٍّ وَثِقْ بِاللهِ يَكْفِيكَا[15]



قال الله - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا ﴾ [الحجرات: 12].



قال ابن الجوزي - رحمه الله -: "قال المفسِّرون: التجسُّس: البحث عن عيب المسلمين وعوراتهم، فالمعنى: لا يبحث أحدُكم عن عيبِ أخيه ليطَّلِع عليه إذا ستَرَه"[16].



قال الألوسي: والنهيُ في هذه الآية متَّجِه إلى آحادِ المسلمين وجماعاتهم؛ بمعنى: ولا تبحثوا عن عَوْرات المسلِمين ومَعايِبهم، وتستَكشِفوا عمَّا ستَر الله - تعالى - كما قُرِئ أيضًا بالحاء المهملة: ﴿ ولا تحسَّسوا ﴾ من الحسِّ الذي هو أثَر الجس وغايَته، والمراد كما يقول الألوسي على القراءتين: النهي عن تتبُّع العوْرات مطلقًا، وعدُّوه من الكبائر[17].



فالتجسُّس المنهيُّ عنه في الآية الكريمة هو: تتبُّع عَوْرات المسلمين وغيرهم، ومُحاوَلَة الوُصُول إلى معرفتها لإشباع دافِعٍ نفسي، أو غرضٍ مُعيَّن.



إنَّ التجسُّس المؤدِّي إلى فضْح العَوْرات لا تسْمَح به الشريعة الإسلاميَّة بحالٍ من الأحوال؛ ولذا حذَّر النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - من هذا الخُلُق المشين؛ فعن ابن عباسٍ - رضِي الله عنْهما - قال: خطَب رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - خطبةً حتى أسمع العَواتِق في خُدُورهن، فقال: ((يا معشرَ مَن آمن بلسانه ولم يؤمن قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتَّبِعُوا عوْراتهم؛ فإنَّه مَن يتبع عورة أخيه المسلم يتبع اللهُ عورَتَه، ومَن يتبع الله عورَتَه يفضَحُه ولو في جوْف بيته))[18].



عن ابن عباسٍ - رضِي الله عنْهما - عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن ستَرَ عورةَ أخِيه المسلم ستَرَ الله عورَتَه يومَ القِيامة، ومَن كشَفَ عورة أخيه المسلم كشَفَ الله عورته حتى يفضحه بها في بيته))[19].



وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن ستَر مسلمًا ستَرَه الله يوم القيامة))[20].



قال الإمام النووي - رحمه الله -: وفي هذا سترُ زلَّة المسلم والمراد به هنا الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممَّن ليس هو معروفًا بالأَذَى والفَساد، فأمَّا المعروف بذلك فيستحب ألا يستر عليه، بل ترفع قضيَّته إلى ولي الأمر إن لم يخف مِن ذلك مفسدةً؛ لأنَّ الستر على هذا يطمعه في الإيذاء والفساد، وانتِهاك الحرمات، وجسارة غيره على مثل فعله، هذا كلُّه في ستر معصية وقعت وانقضَتْ، أمَّا معصية رآه عليها وهو بعدُ متلبِّس بها، فتَجِبُ المبادَرَة بإنكارها عليه، ومنعه منها على مَن قدر على ذلك ولا يحلُّ تأخيرها، فإنْ عجز لزمه رفعها إلى وليِّ الأمر إذا لم تترتَّب على ذلك مفسدة[21].



3 - وفي روايةٍ عند مسلم زادَ فيها: ((ومَن ستَر مسلمًا، ستَرَه الله في الدنيا والآخِرَة))[22].

وقال الحافظ ابن حجر: ((ومَن ستَر مسلمًا))؛ أي: رآه على قبيحٍ فلم يُظهِرْه (أي: للناس)، وليس في هذا ما يقتَضِي ترك الإنكار عليه فيما بينه وبينه، ويحمل الأمر في جواز الشهادة عليه بذلك على ما إذا أنكر عليه ونصَحَه، فلم يفت عن قبيح فعله ثم جاهَر به، كما أنَّه مأمورٌ بأنْ يستَتِر إذا وقَع منه شيء، فلو توجَّه إلى الحاكم وأقرَّ لَم يمتنع ذلك، والذي يظهَر أنَّ الستر محله في معصية قد انقضَتْ، والإنكار في معصيةٍ قد حصل التلبُّس بها، فيجب الإنكار عليه وإلا رفَعَه إلى الحاكم، وليس من الغيبة المحرَّمة بل من النصيحة الواجبة، وفيه إشارة إلى ترك الغيبة؛ لأنَّ من أظهر مساوئ أخيه لم يستره[23].



قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن ستَر على مؤمنٍ عورةً، فكأنما أحيَا موْءُودة))[24].



وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّك إن اتَّبعت عَوْرات الناس أفسدتهم أو كدتَ أن تُفسِدهم))، وقال أبو الدَّرداء كلمةً سمعها معاوية من رسول الله نفعه الله بها[25].



بل انظر إلى موقفه - صلَّى الله عليه وسلَّم - من صحابي لم يستر على أخٍ له؛ حيث أخرج أحمد في "المسند" وغيرُه عن نُعَيم بن هزَّال: أنَّ هزَّالاً كان قد استأجَر ماعِزَ بن مالك وكانت له جارية يُقال لها: فاطمة، قد أملكت، وكانت ترعى غنَمًا لهم، وأنَّ ماعزًا وقَع عليها، فأخبر هزَّالاً فخدَعَه، فقال: انطَلِق إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأخبره، عسى أن يَنزِل فيك قرآن، فأمَر به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فرُجِم، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ويلك يا هزَّال، لو كنتَ سترتَه بثَوبِك كان خيرًا لك))[26]، ولم يقل: "خيرًا له"؛ لأنَّ الأجر العظيم سيكون للساتر على أخيه المسلم.



وفي روايةٍ: ((يا هزَّال، أمَا لو كنت سترته بثوبك، لكان خيرًا ممَّا صنعتَ به))[27].

وعن ابن هزَّال عن أبيه، أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال له: ((ويحك يا هزال، لو سترته - يعني ماعزًا - بثوبك، كان خيرًا لك))[28].

وفي روايةٍ عند البغوي: ((يا هزَّال، لو سترتَه بردائك لكانَ خيرًا لك))[29].



فانظر إلى هذا الحديث العظيم، وكيف قال له الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو سترتَه لكان خيرًا لك))، ولم يقل له.



فالأجر العظيم لِمَن ستَر على مسلم، فينبَغِي لِمَن عرفه ألا يفرِّط فيه.



ولقد طبَّق الصحابة هذا المنهج بالبُعْدِ عن البحث عن مواطن عورات الناس، طالما أنهم ليسوا أهل سلطة ورجال حسبة.



نعم، هذا كان منهج صحْب محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - مراعاة أصحاب الذنوب، وعدم سبِّهم والشماتة بهم، وسؤال الله السلامةَ والسترَ عليهم، وانظر إلى هذا الأمر وتأمَّل ذلك، وهو أنَّ أبا الدرداء - رضِي الله عنْه - مرَّ على رجلٍ قد أصاب ذنبًا فكانوا يسبُّونه، فقال: أرأيتُم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مُستَخرِجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبُّوا أخاكم، واحمَدُوا الله الذي عافاكُم، قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي[30].



وهذا ابن مسعود يُؤكِّد هذا المعنى العظيم فقال: "إذا رأيتم أخاكم قارَف ذنبًا فلا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه تقولون: اللهم أخزِه، اللهم العَنْه، ولكن سَلُوا الله العافية، فإنَّا أصحاب محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - كُنَّا لا نقول في أحدٍ شيئًا حتى نعلَم علامَ يموت؟ فإنْ خُتِمَ له بخيرٍ علمنا أنَّه قد أصاب خيرًا، وإنْ خُتِم له بشرٍّ خفنا عليه عمله"[31].



قال أبو بكرٍ - رضِي الله عنْه - لو أخذت سارقًا لأحببت أنْ يستره الله، ولو أخذت شاربًا لأحببت أنْ يستره الله - عزَّ وجلَّ[32].

عن أبي هريرة - رضِي الله عنْه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا يستر عبدٌ عبدًا في الدنيا إلا ستَرَه الله يوم القيامة))[33].

وقال الحسن البصري: "مَن كان بينه وبين أخيه سترٌ فلا يكشفه"[34].

وقال العلاء: "لا يعذب الله قومًا يسترون الذنوب"[35].

قال عوف الأحمسي: "مَن سمع بفاحشةٍ فأفشاها كان فيها كمَن بدأها"[36].



قيل لابن مسعود - رضِي الله عنْه -: "هذا فلان تقطر لحيَته خمرًا، فقال: إنَّا قد نُهِينا عن التجسُّس، ولكن إنْ يظهر لنا شيء نأخذ به"[37].



وانظر إلى هذا الخبر الذي جسد به عمر معنى الستر؛ إذ جاءت امرأةٌ إلى عمر فقالت: يا أمير المؤمنين، إنِّي وجدتُ صبيًّا ووجدت معه قبطيَّة فيها مائة دينار فأخذته واستأجرت له ظئرًا[38]، وإنَّ أربع نسوة يأتينه ويُقبِّلنه لا أدري أيتهن أمه، فقال لها: إذا هنَّ أتينَكِ فأعلِمِيني، ففعلت، فقال لامرأةٍ منهن: أيَّتكن أم هذا الصبي؟ فقالت: والله ما أحسنت ولا أجملت يا عمر؛ تعمد إلى امرأة ستَر الله عليها فتريد أن تهتك سترها؟! قال: صدقتِ، ثم قال للمرأة: إذا أتينَكِ فلا تسأليهنَّ عن شيء، وأحسِني إلى صبيهنَّ، ثم انصَرَف[39].



فانظر إلى عمر كيف أخَذ برأي المرأة التي ابتَغَت الستر على مَن أخطأت وأقرَّها على ذلك، وما فعل ذلك عمر إلا لما ثبَت عنه عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عندما قال لهزَّال بن ذئاب بن زيد - رضِي الله عنْه - الذي أشار على ماعز أن يقرَّ بذنبه؛ فقال له النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو سترتَه كان خيرًا لك))، وفي رواية: ((ويلك يا هزَّال، لو كنتَ سترتَه بثوبك كان خيرًا لك))، وفي رواية: ((يا هزَّال، أمَا لو كنت سترتَه بثوبك لكان خيرًا ممَّا صنعتَ به))[40].



والذي أُرِيدُ أن أخلُص إليه: أنَّ على المسلم أن يحرص على ستْر أخيه عندَما يذهب لمناصحته، لا أنْ يكون غرضُه التجسُّس واستِقصاء الأخبار لينشرَها بين الناس، ورَحِمَ الله أبا العباس المرهبي حيث أنشد قائلاً:

لاَ تَهْتِكَنْ مِنْ مَسَاوِي النَّاسِ مَا سُتِرَا
فَيَهْتِكَ اللهُ سَتْرًا عَنْ مَسَاوِيكَا وَاذْكُرْ مَحَاسِنَ مَا فِيهِمْ إِذَا ذُكِرُوا
وَلاَ تَعِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِمَا فِيكَا[41]



فعليك عندما تَذهَب أن تُخلِص النيَّة لله، وأن يكون همُّك إصلاحه وهدايته ما استَطعتَ إلى ذلك سبيلاً، حتى لو وجدتَه بأسوأ ممَّا تصوَّرت فاستر عليه، ولا تظهر الشماتة أو التشهير به.



ثالثًا: عدم الشماتة به:
أخي الحبيب، عليك أن تحمَد الله على أنْ مَنَّ عليك بالثَّبات على الهداية، وحماك وحفظك، فلا تشمت به؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن رأى مُبتلًى فقال: الحمد لله الذي عافاني ممَّا ابتلاك به، وفضَّلني على كثيرٍ ممَّن خلَق تفضيلاً - لم يصبه ذلك البلاء))[42].



قال النووي - رحمه الله -: "يقول بعض أهل العلم: إنَّه ينبغي أنْ يقول هنا الذكر سِرًّا، بحيث يُسمِع نفسه ولا يَسمَعه المبتلى؛ لئلاَّ يتألَّم قلبه بذلك، إلاَّ أنْ تكون بليَّته معصية فلا بأس أن يسمعه ذلك إنْ لم يخف من ذلك مفسدة"[43].



فهناك مع الأسَف مَن يقوم بالشماتة والسخرِيَة بأخيه المنتَكِس، ويقوم بتتبُّع عورته ونشر زلَّته بين الناس.



كتب سعيد بن جبير إلى أبي السوار العدوي: "أمَّا بعد، يا أخي فاحذَر الناس واكفِهم نفسك، والزَمْ بيتَك، وابكِ على خطيئتك، وإذا رأيت عاثرًا فاحمد الله الذي عافاك، ولا تَأمَن الشيطان أنْ يفتنك ما بقيت"[44].



بل انظر إلى منهج الصحابة في مثْل هذا التعامُل؛ فهذا ابن مسعودٍ - رضِي الله عنْه - يقول: "إذا رأيتُم أخاكم قارَف ذنبًا فلا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه، تقولوا: اللهم أخزِه، اللهم العَنْه، ولكن سَلُوا الله العافية، فإنَّا أصحاب محمد كُنَّا لا نقول في أحدٍ شيئًا حتى نعلم على ما يموت؛ فإنْ خُتِم له بخيرٍ علمنا أنَّه قد أصاب خيرًا، وإن خُتِم له بشرٍّ خِفنا عليه عملَه"[45].



وهذا أبو الدرداء - رضِي الله عنْه - يُؤكِّد لنا هذا المنهج بما أخرجه عبدالرزاق في "المصنف": "أنَّ أبا الدرداء مَرَّ على رجل قد أصاب ذنبًا فكانوا يسبُّونه، فقال: أرأيتُم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مُستخرِجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبُّوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم، قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغَض عملَه، فإذا ترَكَه فهو أخي، وقال أبو الدرداء: ادعُ الله في يوم سرَّائك؛ لعلَّه أنْ يستجيب في يوم ضرَّائك"[46].



قال حمدون القصَّار: "إذا زَلَّ أخٌ من إخوانكم فاطلُبوا له سبعين عذرًا، فإنْ لم تقبله قلوبكم، فاعلَمُوا أنَّ المعيب أنفسكم؛ حيث ظهَر لمسلمٍ سبعون عذرًا فلم يقبله"[47].
المشاهدات 3866 | التعليقات 2

رابعًا: المبادرة بالعِلاج:

عندما نقول: على الشباب ألاَّ يسارعوا بالاتِّصال بالمنتَكِس، لا يعني هذا بعد فترةٍ زمنيَّة طويلة، من أسبوعٍ إلى عشرة أيام على سبيل المثال كحدٍّ أقصى، فالمبادرة بالعلاج قد تَحمِي الشابَّ من الانخِراط في بيئةٍ أخرى قد تكون سيِّئة، والتأخُّر الزائد بحجَّة: دعه يرجع بنفسه من خِلال إعطائه فرصةً للتفكير - أمرٌ في غاية الخطورة؛ لما يُخشَى من ترتُّب آثار عليه كشرب الدخان وتأخُّره عن أداء الصلاة، بل قد يَقُوده التأخُّر إلى مراحل أخرى؛ كتعاطي المخدرات وترك الصلاة بالكليَّة.

لذا فالمبادرة بالمناصَحة أمرٌ في غاية الأهميَّة.



خامسًا: الدعاء له بظهْر الغيْب، وألا يكون عونًا للشيطان عليه:

إنَّ على الأخ الذي سيذهب لِمُناصَحة أخيه المنتَكِس أنْ يدعو له بظهْر الغيب من قلبٍ صادِق ونيَّة خالِصَة بأنْ يهديه الله إلى الحق؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما من عبدٍ مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب، إلا قال الملك: ولك بمثل))[48].



لقد كان منهج الصحابة - رِضوان الله عليهم - التعامُل مع أحداث الانتِكاس بطرق طيِّبة؛ فهذا عمر - رضِي الله عنْه - "الذي اشتَهَر بالقوَّة، يستَخدِم الرقَّة في مَوطِنها؛ وذلك بأنَّ رجلاً كان ذا بأسٍ وكان يَفِدُ إلى عمر، وكان من أهل الشام، وإنَّ عمر فقَدَه، فسأل عنه، فقيل له: تَتابع في هذا الشراب، فدعا كاتِبَه فقال: اكتب: من عمر بن الخطاب إلى فلان، سلامٌ عليك، فإنِّي أحمَدُ الله الذي لا إله إلا هو غافر الذنب وقابِل التوب، شديد العقاب ذا الطَّوْلِ لا إله إلا هو إليه المصير، ثم دعا وأمَّن مَن عنده، ودعا له أنْ يُقبِل على الله بقلبه وأنْ يتوب عليه، فلمَّا أَتَتْ صحيفة الرجل جعَل يقرؤها ويقول: غافر الذنب قد وعدني الله أنْ يغفر لي، وقابِل التوب شديد العقاب قد حَذَّرني الله عقابَه، ذي الطول - والطولُ الخيرُ الكثير - لا إله إلا هو إليه المصير.



فلم يزل يردِّدها على نفسه ثم بكى، ثم نزَع فأحسَن النزع، فلمَّا بلَغ عمر أمرَه فقال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخًا لكم زلَّ زلَّة، فسدِّدوه ووفِّقوه، وادعوا الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه"[49].



فانظر إلى منهج أمير المؤمنين عمر - رضِي الله عنْه - كيف كان حليمًا رقيقًا مع ما عُرِفَ عنه من قوَّة وشدَّة، ولكنْ لكلِّ مقام عنده مقال؛ فهلاَّ لزمتَ هذه السنن واقتديتَ بهؤلاء القِمَم.



سادسًا: استِقصاء أسباب انتكاسِه:

قبلَ زيارتك لصاحِبك الذي طرَأ عليه التغيُّر حاوِل أن تتعرَّف على الأسباب التي قادَتْه إلى هذا الطريق، وستظهَر فائدة هذا من خِلال ما يلي:

أ - إنْ كانت عنده مشاكل فستطرح له حلولاً لها، فقد يطرح لك مشكلة عائليَّة أو دراسيَّة أو ماديَّة أعاقَتْه عن هذا الطريق.

ب - الإجابة عن أسئلته، إنْ كانت هناك أسئلة والتهيُّؤ لإجابات مقنعة لأسئلة متصوَّرة ومفترضة.

جـ - الإجابة عن شبهاته والاستِعداد لها استِعدادًا جيدًا، فغالِب المنتَكِسين لا يخلو من هذه الأمور حتى ولو لم يكن مُقتَنِعًا بها، لكن من باب إغلاق الطريق على المناقش، فالاستِعداد مهمٌّ.



فلا بُدَّ بعد تكرار الزيارة له أنْ تطرح عليه سؤالاً: ما الذي دفعك لترْك هذه البيئة؟




فقد يقول مثلاً: فلان يُسِيء إليَّ، أو شيخي لا يحبُّني، أو أخشَى على دراستي، وما أشبه ذلك، وكما ذكرتُ سابقًا أنَّ الاستِعداد لأسئلته المتوقَّعة أمرٌ لا بُدَّ منه.



سابعًا: عدم الوقوع في عرضِه:

هناك من الشباب مَن لا يتردَّد في الوقوع في عرْض أخيه المسلم المنتَكِس، بل ويُجاهِر في هذا السبِّ والولوغ في عرضه، ثم يفكِّر بعد ذلك بزيارته ومناصحته، وقد تكون الأخبار قد وصَلتْ إلى هذا المنتَكِس؛ ممَّا يجعله عند زيارتك له يفاجئك بهجومٍ فقد من خلاله السيطرةَ على أعصابه وتصرُّفاته، إنَّ وقوع الشباب بعرْض أخيهم بمجرَّد حدوث تغيُّر عنده أمرٌ في غايَة الخطورة، إنَّ من أكبر المَشاكِل التي تُواجِه الشباب التسرُّع في الحكم على زميلهم بالانتِكاس مع التَّشهِير به، ثم يحرجون بعد ذلك عن مواجَهتِه، بل قد يمتَنِعون عن مناصحته؛ حياءً ممَّا بدر منهم أو خوفًا من ردَّة فعله؛ ولذا أنصح نفسي وأحبَّائي بالبُعْدِ عن الوُقوع في الأعراض، مع عدَم التسرُّع في الحكْم، إنَّ مجرَّد سبِّ الأخ المسلم يُعَدُّ فسوقًا؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((سِبابُ المسلم فسوقٌ وقتالُه كفرٌ))[50].



إنَّني أنصح ألاَّ يبادر بنصيحة المنتَكِس شابٌّ وقَع في عرضه إلاَّ بعد الاعتِذار إليه، إذا تأكَّد لديه وصولُ الخبر إليه، حتى لا تتحوَّل المناصحة إلى عراك ومشاجرة.



ثامنًا: اختيار وسيلة الاتِّصال بالمنتَكِس لدعوته:

بعد أنْ تبيَّن وتأكَّد لديك أنَّ صاحبك قد ابتَلاه الله، وابتَعَد عن طريق الالتِزام - عليك البحث عن الطُّرُق المناسبة للتواصُل معه، وعدم الاقتِصار على وسيلةٍ واحِدة، بل عليك أنْ تبحث عن أكثر الطرقِ تأثيرًا عليه حتى تمارِسها معه، ومن تلك الطُّرق:

1 - الزيارة له في بيته.

2 - الزيارة له في عمله أو مدرسته.

3 - الزيارة له في المسجد الذي يُصلِّي فيه إذا لم يصل إلى مرحلة الانقِطاع عن صلاة الجماعة.

4 - الرسائل ولها أساليب:

أ - الشفهيَّة مع قريبٍ له؛ كأنْ تقول: بلِّغ فلانًا السلام مِنِّي.

ب - الرسائل المكتوبة، والتي تحمِل في طيَّاتها النُّصح من مناهج السَّلَف؛ كما سيَمُرُّ معنا خبرُ عمر - رضِي الله عنْه - عندما أرسَلَ لصاحبه الذي وقَع في الخمر.



إنَّ لهذه الرسائل وَقْعًا طيِّبًا على نفوس الإخوة، وهذه الرسائل قد تكون عبرَ البريد أو الإيميلات أو الجوَّال.



الرسائل مجديَة ونافعة في الجملة، وأنصَحُ الشباب أن يَتواصَلوا مع زملائهم ما بين الفينة والأخرى بالرسائل، مع الحرْص أن تكون كالملح بالطعام غير مكثَّفة ولا مكرَّرة حتى لا تكون مملَّة، ويا حبَّذا التجديد في الطَّرْحِ مع الحرْص على الاختِصار والخط الجميل العبارة الراقِيَة وأبيات الشِّعر العذبة.



5 - الاتِّصال الهاتفي أو عبر البلوتوث أو الماسنجر.



تاسعًا: تخيُّل الموقف والاستِعداد له قبل مواجَهته:

عليك أنْ تتأكَّد قبلَ الذهاب إلى صاحبك القديم أنَّك ستُشاهِد إنسانًا غير الذي تَعرِفه، قد تلحَظ تغيُّر وجهه بإزالة لحيته وإسبال ثوبه أو وجود الدخان بيده، وإنْ كانت امرأة فقد تجدها أختها الداعية متنمِّصة أو لابِسة ملابس غير محتَشِمة، أو غير ذلك من الأمور، فعليك أنْ تحطاط لمثْل هذا الأمر، وألاَّ تصدم، فضع في حسابك أسوأ الاحتِمالات، فقد لا يفتح لك الباب، أو لا يُحسِن استقبالَك، بل قد يُغلِق الباب في وجهك عندما يَعلَم أنَّك أنت الطارق، فكن مُستَعِدًّا لمثْل هذه التصرُّفات بالحكمة والهدوء ورباطة الجأش والحلم والتأنِّي، فكن حكيمًا عند تصرُّفك، فتعامل على أنَّه مسكين أصابَه الحياء من مواجهتك، وليس المقصود شخصك، بل لو جاءه أيُّ شخص لنفس الغرض الذي جئتَ من أجله لَجُوبِه بمثل مجابهتك، فتقبَّل الأمرَ برحابة الصدر، فلا تيأس ولا تقنط، واحذَر ردَّة الفعل المفاجئة؛ فقد تعود من حيث أتيت، ثم تتحيَّن فرصًا أخرى حتى تظفَر بالجلوس معه.



وضعُ التصوُّرات قبلَ المواجهة أمرٌ في غاية الأهميَّة؛ لأنَّ هناك مَن لا يجعَل هذه الأمور في حساباته، ثم يُفاجَأ بعد ذلك بمثْل هذه الأمور، فيُصاب بصدمة، أو تحدث منه ردَّة فعل قد تضرُّ به وبزميله.



عاشرًا: التهيُّؤ لمقابلته:

عندما تقوم بزيارة صاحبك المتغيِّر فتهيَّأ لمقابلته بما يلي:

1 - إحضار هديَّة مناسبة له - إذا كنت تملك القدرة على ذلك - واحرِص على ألاَّ تكون أشرطة ولا كتبًا؛ لأنَّه الآن بها زاهد؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تهادُوا تحابُّوا))[51].

2 - اختيار الكلام المناسب والعبارات بدقَّة.

3 - احرِص على ألاَّ تُناقِش انتكاسَه في مقابلتك الأولى معه، بل قد يكون حضورك وتجاذبك معه أطرافَ الحديث بعيدًا عن هذا الموضوع دافعًا له وسببًا لعودته، بل حاوِل إن لم تلحظ عليه تغيُّرًا في هيئته أو في مظهره ألا تُظهِر له أنَّك تعرف شيئًا، بل تعامَل معه تعامُلاً طبيعيًّا بحيث لا يشعر أنَّ به تكلُّفًا وتصنعًا، وأذكر حادثةً لأحد الإخوة حيث قال: بلغني أنَّ قريبًا لي انقطع عن صلاة الجماعة بالكليَّة يقول: فذهبت لزيارته، ووصلت إلى بيته قبيل أذان المغرب، وعند مقابلته والجلوس معه، بدأتُ بالحديث معه ولم أبيِّن له سبب زيارتي، وعندما أذَّن المغرب سألته: ما هو أقرب مسجد إلى بيتك؟ مبالغةً في إظهار أنَّني لا أعرف عن انقِطاعه عن الصلاة بالكليَّة، فاختار لي مسجدًا فألقيت فيه كلمة لم أتعرَّض فيها إلى الصلاة مطلقًا حتى لا أُشعِره بالحرج، بل اخترتُ موضوعًا عن الرقائق، وبعد ذلك عدنا إلى بيته، ومكثت معه قليلاً، ثم ودَّعته.



يقول: فوالله الذي لا إله إلا هو ما هي إلا أيَّام قلائل إلا وقد أخبرني أحدُ جماعة مسجده بأنَّه أصبح مُواظِبًا على الصلاة، يقول: وبعد مُدَّة أخبرني هذا الرجلُ بأنَّه قد أعفى لحيته وأصبح يحضر مع الأذان، يقول: بعد فترةٍ لا تُجاوِز شهرَيْن تعلَّق قلب قريبي بالمسجد، ثم أصبح مُؤذِّنًا له عند غِياب المؤذِّن، فزُرتُه حيث أخبرني أحدُ جيرانه بأنَّه أصبح مُرابِطًا في المسجد من بعد المغرب إلى العشاء.



يقول: فذهبت لزيارته في المسجد، وعندما دخَلتُ إلى المسجد فإذا برجل يتلو القرآن بصوت ندي، قلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فالتَفت إليَّ لمَّا عرفني فنهض ليُعانِقني، وقال: لقد أثَّرت فيَّ زيارتُك الماضيَة، وكان أكثر ما أثَّر بي أنَّك لم تفتَح معي الموضوعَ، فلو كنتَ فتحته معي لكنتَ أحرجتني، ولا أظنُّ أنَّني كنت سأعود.



فهذا الموقف الذكي من الداعية والنصيحة غير المباشرة كان لها - بفضل الله - أثرٌ عظيم، وهنا أؤكِّد على الداعِيَة عند المقابلة الأولى عدم طرح الموضوع بالكليَّة.



الحادي عشر: إشعاره بأنك محبٌّ له وحريص على هدايته:

عندما تقوم بزيارة أخيك، فأظهِر حبَّك الشديد له وحرصَك عليه، وبأنَّ الهداية لو تُباع لاشتريتها له، وكن به شفيقًا متأسِّيًا بنبيِّك - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيث قال - تعالى - عنه: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].



بل بلَغ من تصوير حرصِه على أمَّتِه أنْ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنما مثلي ومثل أمَّتي كمثل رجل استَوقَد نارًا؛ فجعلت الدواب والفراش يقعنَ فيها، فأنا آخُذ بحجزكم وأنتم تقتَحِمون فيه))[52].



فإظهار حبِّك له وحرصك عليه لا شكَّ أنَّ أثرَه سيكون قويًّا.



الثاني عشر: لا تتوقَّع أنْ يستجيب لك فورًا:

من الأمور المهمَّة ألاَّ يعتَقِد زائر المنتَكِس أنَّه سيجد ذلك الشخص الذي يعرفه بصفاء نفسه وسلامة قلبه، وألاَّ يعتقد بأنه لن يعود إلا والأوضاع جميعها طبيعية، بل عليه أن يحسب ألف حساب لصعوبة المهمة؛ لأن المنتَكِس قد عاش أجواء أثَّرت عليه، وجعلت الرَّان يتمكَّن من قلبه؛ لذا لا تتوقَّع الاستجابة الفوريَّة، أو أن يعود إلى الحق ويَتراجَع عن وضعه بمجرَّد زيارتك له، نعم، قد يُظهِر لك نوعٌ من الاستِجابة فاقنع بها؛ لأنَّ القليل مع التواصُل والدُّعاء والصِّدق سيَزِيد - بإذن الله - وعليك قبول عودته ولو ظهرت عليه آثار ضعْف الاستقامة؛ كتخفيفه من لحيته أو غير ذلك من المعاصي؛ لأنَّه سيَتلاشَى - بإذن الله - مع مرور الوقت وتأثُّره بالصُّحبة الطيِّبة.



الثالث عشر: عدم التشديد عليه:

إنَّ من الحكمة أن يُعلَم المنتَكِس أنَّ المطلوب منه هو ما افترض الله عليه، وأن يُوضِّح له أنَّه متى فعل ذلك فإنَّه يُعَدُّ من أهل الهدى والاستِقامة، ويُخبِره بالحديث الذي رواه البخاري وغيره أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الله قال: مَن عادَى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إلي ممَّا افترضته عليه، وما يَزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه))[53].



كما على مَن يَقُوم بدعوته أنْ يُخفِّف الضغط عليه، ويبشِّره بأنَّه على خيرٍ عظيم ما التَزَم بهذه الفرائض، ويخفِّف عنه مُصابه، ويُؤَكِّد له أنَّه يعيش وضعًا طبيعيًّا، وسرعان ما يعود - بإذن الله - إلى الهدى إذا أخلَص نيَّته وصدَق مع ربِّه، ويُذَكِّر بقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ لكل عابد شرَّة، ولكلِّ شرَّة فترة، فإمَّا إلى سنة وإمَّا إلى بدعة، فمَن كانت فترته إلى سنَّة فقد اهتَدَى، ومَن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك))[54].



و"الشرَّة"؛ معناها: الحرصُ على الشيء والنَّشاط له، و"الفترة"، ضده؛ أي: العابد يُبالِغ في عبادته أوَّل الأمر، ويجد في نفسه قوَّةً على ذلك وشوقًا ورغبةً فيه، وكل مبالغ فلا بُدَّ أن تنكَسِر همَّته، وتفتر قوَّته عن ذلك الجد عادةً، فمنهم مَن يرجع حين الفتور إلى الاعتدال في الأمر، وترك الإفراط فيه، فهذا مُهتَدٍ، ومنهم مَن يرجع حين الفتور إلى ترك العبادة بالكليَّة، والاشتغال بضدِّها، فهذا هالك - والله تعالى أعلم[55].



ثم يخبر بأنَّ المطلوب أنْ يَرجِع بعد هذا الفتور إلى الاعتدال حتى يكون مهتديًا، ولا يكون حالُه كحال مَن قاده الفتور إلى ترْك العِبادة بالكليَّة، بل والأخطر منه أنْ ينشغل بغيرها، فهذا قد وقَع في الضَّلال، ويُبيِّن له ما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضِي الله عنْه -: "إنَّ لهذه القلوب إقبالاً وإدبارًا، فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإنْ أدبرت فألزموها الفرائض"[56].



الرابع عشر: استمرار التواصُل:

وهذا قد يكون سبَق ذكرُه، ولكن هنا من باب المزيد من الإيضاح، فلا بُدَّ للمربِّي أنْ يتواصل مع تلمِيذه المنقطع، وألاَّ يكتفي بزيارة أو زيارتين أو رسول أو رسولين، بل لا بُدَّ من استِمرار التواصُل وعدم الانقِطاع، فإنَّ نفسَه التي لم تتقبَّل اليوم قد تتقبَّل في الغد، فعدم اليأس أو القنوط مطلبٌ مُلِحٌّ، ومنهجٌ سارَ عليه الأنبياء والرُّسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.



الخامس عشر: عليك بالعِتاب الهادئ والنَّصِيحة الصادقة والبُعد عن العنف والتجريح واللَّوم والعِتاب:

فأنت طبيبٌ سيُعالِج قلبَ هذا المريض، وتحمِل بيدك مشرطًا وهو لسانك، فاجعله هادئًا ليِّنًا، فالطبيب عندما يُعالِج مرضاه فإنَّه يستخدم مشرَطَه الجراحي بهدوءٍ وحذَر ورفْق حتى تنجَح عمليَّته، فلو استَخدَم القوَّة والعنف لمات المريض من مشرطه، والناس - وربِّي - أحوجُ إلى هذا المنهج في أمراضهم المعنويَّة.



وتأمَّل أمرَ الله لموسى وهارون بأنْ يستَخدِما مع أكبر طاغِيَةٍ على وجه الأرض أسلوبَ الرفق؛ قال - تعالى -: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا ﴾ [طه: 44]، فإذا كان فرعون مع طغيانه وجبروته يَأمُر الله نبيَّيْه موسى وهارون بأنْ يَتَعامَلا معه باللين فكيف بأخٍ لك ابتَلاه الله؟ أليس هو أَوْلَى باللين وأجدر؟



إنَّ الرِّفق عند مخاطبة المنتَكِس مطلبٌ شرعي؛ ولذا قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا عائشة، عليك بتقوى الله - عزَّ وجلَّ – والرِّفق؛ فإنَّ الرِّفق لم يكن في شيءٍ قطُّ إلا زانَه، ولم يُنزَع من شيءٍ قطُّ إلا شانَه))[57].



وأذكر هنا قصَّة حدثت معي: حيث كنت أقوم بإلقاء درس أسبوعي في السجن المثالي "سجن الملز" بالرياض منذ عشر سنوات، ولاحَظتُ عند أحد السُّجَناء حرصًا شديدًا على الدرس يَفُوق غيرَه، فضلاً عن اجتِهاده في الحفظ للمتن الذي كنت أقوم بشرحه، وعندما لاحَظتُ ذلك انفَردت به أحد الأسابيع وسألته عن سبب سجنه لعلَّ الله أن ييسِّر الإفراج عنه، فأخبرني بأنَّه كان مع مجموعةٍ من الشباب لاحَظُوا انتِكاس أحد رفقائهم، قال: فذهبت لمناصحته فأثار غضبي فقمتُ بضربه، وكانت نتيجة هذه المضاربة أن كسرتُ يده، وهذا هو الذي قادني إلى السجن.



فهذا الأخ سلَك أسلوب العنف فأضرَّ به وأضرَّ بالمدعوِّ، مع يقيني التام أنَّ العنف باستِخدام اليدين أندر النوادر، بل لا يجوز شرعًا، وقد اتَّفق العلماء على أنَّه لا يجوز للإنسان أن يأخذ حقَّه بيده، فكيف بِمَن يستَخدِم يده في حَقِّ الله وهو ليس بمأمورٍ إلا بالإنكار باللسان أو القلب، ولكن العنف باستخدام اللسان شائع ومنتشر.



والخلاصة:

1 - إنَّ على الداعي عندما يُخاطِب زميله المنتَكِس أنْ يتعامل معه بهدوء.

2 - أن يُقابِله بابتسامةٍ وممازحة؛ لأنَّه عند مقابلته سيكون خائفًا وَجِلاً؛ فتبعث ابتسامتك مع إشراقة وجهك فيه الراحةَ والاطمِئنان، وستبعد عنه الخوف والوجل.



السادس عشر: تصحيح بعض المفاهيم عنده:

بعض الشباب ينقَطِع عن زملائه ويظنُّ أنَّ الدين والتديُّن محصورٌ بفئة معيَّنة من الشباب، فتُواجِهه مشكلةٌ مع الشيخ أو المشرف أو أحد زملائه، ثم يترك الالتِزام؛ لاعتقاده أنَّ الالتزام محصورٌ بهذه المجموعة، فعلى المربِّي أن يفتح لتلميذه الذي لم يُوفَّق معه آفاقًا واسعة، وألا يربطه بشَخصِه الكريم وكأنَّه أحد أفراد عائلته الذين يجب أن يظلُّوا معه لا يغادرونه أبدًا، فكم من شابٍّ ترك مجموعته ثم أبدع مع غيرها، فالأنفس قد تَتوافَق مع أنفس أخرى وتتلاءم مع بيئات غير بيئاتها التي عاشت معها، وكما قال الحكيم:

فَالْعَنْبَرُ الخَامُ رَوْثٌ فِي مَوَاطِنِهِ وَفِي التَّغَرُّبِ مَحْمُولٌ عَلَى العُنُقِ



فعلى المربي أن يقتَرِح عليه مجموعةً غير مجموعته إذا رأى بأنها هي الحل لمشكلته.



السابع عشر: إخباره بأنَّ الجميع معرَّض للوقوع في الذنب:

عليك أنْ تُؤكِّد لهذا الذي وقَع في الذنب أنَّه ليس أوَّل واقع ولا آخِر مَن وقع، وأنَّ الوقوع في الذُّنوب صفة بشريَّة؛ فقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لولا أنَّكم تُذنِبون لخلق الله خلقًا يذنبون فيغفر لهم))[58].



وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((والذي نفسي بيده لو لم تُذنِبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يُذنِبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم))[59].



فتحثه هنا على الاستغفار، وبأنَّ الله - سبحانه وتعالى - يحبُّ عبدَه الذي يتوب بعد الذنب، وليس المقصود هنا الحث على الذنب، بل الحث على الاستغفار بعد وقوع الذنب، ويستحسن تذكيره بأنَّه لا يسلم أحدٌ من الذنب، كما يستحسن أن تُساعِده ببيان فضل التوبة وفرح الربِّ بذلك؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لَلَّهُ أشد فرحًا بتوبة عبده...))[60].



فبهذا الأسلوب تُخفِّف عنه مُصابَه وتُشَجِّعه على التوبة، وحبَّذا أن تذكِّره بأخبار التائِبين من ذنوبهم؛ قال علي بن الفضل:

أَيَا مَنْ لاَ يَخِيبُ لَدَيْهِ رَاجِ
وَلَمْ يُبْرِمْهُ إِلْحَاحُ الْمُنَاجِي وَيَا ثِقَتِي عَلَى سَرَفِي وَجُرْمِي
وَإِيثَارِ التَّمَادِي فِي اللَّجَاجِ أَقِلْنِي عَثْرَتِي وَاغْفِرْ ذُنُوبِي
وَهَبْ لِي مِنْكَ عَفْوًا وَاقْضِ حَاجِي فَمَنْ لِي غَيْرُ إِقْرَارِي بِجُرْمِي
وَعَفْوُكَ حُجَّةٌ يَوْمَ احْتِجَاجِي[61]



وكما قال يحيى بن معاذ الرازي:

جَلاَلُكَ يَا مُهَيْمِنُ لاَ يَبِيدُ
وَمُلْكُكَ دَائِمٌ أَبَدًا جَدِيدُ وَحُكْمُكَ نَافِذٌ فِي كُلِّ أَمْرٍ
وَلَيْسَ يَكُونُ إِلاَّ مَا تُرِيدُ ذُنُوبِي لاَ تَضُرُّكَ يَا إِلَهِي
وَعَفْوُكَ نَافِعٌ وَبِهِ تَجُودُ فَهَبْهَا لِي وَإِنْ كَثُرَتْ وَجَلَّتْ
فَأَنْتَ اللهُ تَحْكُمُ مَا تُرِيدُ فَلَسْتُ عَلَى عَذَابِ اللهِ أَقْوَى
وَأَنْتَ بِغَيْرِهَا لاَ تَسْتَفِيدُ فَنِعْمَ الرَّبُّ مَوْلاَنَا وَإِنَّا
لَنَعْلَمُ أَنَّنَا بِئْسَ العَبِيدُ وَيَنْقُصُ عُمْرُنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ
وَمَا زَالَتْ خَطَايَانَا تَزِيدُ قَصَدْتُ إِلَى الْمُلُوكِ فَكُلُّ بَابٍ
عَلَيْهِ حَاجِبٌ فَظٌّ شَدِيدُ وَبَابُكَ مَعْدِنٌ لِلْجُودِ يَا مَنْ
إِلَيْهِ يَقْصِدُ العَبْدُ الطَّرِيدُ[62]

الثامن عشر: فتْح باب التوبة له:

عندما يُوفِّقك الربُّ - عزَّ وجلَّ - بسُلوكِ هذا الطريق العظيم فعليك أن تفتَح لهذا المُبتَلَى بابَ التوبة، وتُذَكِّره بأنَّ الكلَّ يخطئ ويُذنِب، وبأنَّه ليس أوَّل مَن أذنَبَ حتى يفعل بنفسه ما يفعل، بل الذنوب يجب أن تقوده إلى التوبة لا إلى ذنوبٍ أخرى، كما عليك أنْ تُذَكِّره بالآيات والأحاديث التي تَحُثُّ على التوبة، وتبيِّن حَقارة الذنب عند التوبة فمثلاً:

1 - قال - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135].

2 - ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201].

3 - قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أذنَب عبدٌ ذنبًا، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال - تبارك وتعالى -: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أنَّ له ربًّا يَغفِر الذنب، ويَأخُذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي، فقال - تبارك وتعالى -: عبدي أذنب ذنبًا فعلم أنَّ له ربًّا يَغفِر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي، فقال - تبارك وتعالى -: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أنَّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئتَ فقد غفرتُ لك))[63].



فأنت هاهنا تخفِّف عنه مُصابَه، وتُهوِّن عليه من الأمر، وتفتَح له الأبواب التي كانت بالنسبة له مغلقة، وهذا منهج الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعن أبي هريرة - رضِي الله عنْه - قال: "بينما نحن جلوسٌ عند رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذ جاء رجلٌ فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: ((ما لك؟))، قال: وقعتُ على امرأتي وأنا صائم - وفي رواية: أصبتُ أهلي - فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((هل تجد رقبةً تعتقها؟))، فقال: لا..." الحديث[64].



فأنت تلحَظ أنَّ هذا الرجل قد جاء وَجِلاً إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بل في روايةٍ عند مسلم أنَّه قال: "احترقت يا رسول الله"[65].



بل في روايةٍ مرسلة في "الموطأ": "جاء أعرابي يضرب فخذه وينتف شعره يقول: هلك الأبعد"[66].



فانظر إلى أسلوب تَعامُل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع هذا المذنب؛ لم يوبِّخه ولم يُعاقِبه ولم يُقنطه، بل سارَع لبحْث طرق علاج مشكلته للتخلُّص من آثار ذنبه، بطرْح أنواع الحلول حتى يختار منها المناسب، لقد فتَح له أبواب الأمل، بل جاءَه قانطًا خائفًا فحَوَّله النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - آمِنًا مبتسمًا غنيًّا، هكذا يجب أنْ يفعل الدُّعاة مع المذنِبين التائِبين، يفتحوا لهم أبوابَ الخير وبَوارِق الأمل، وألاَّ يكونوا مُنفِّرين ولا زاجِرين، فالناس تحتاج رقَّةً وعطفًا لا توبيخًا وعنفًا.



التاسع عشر: بذل الجهد لرفْع إيمانِه:

عندما تقوم بزِيارة صاحِبك المنتَكِس عليك أنْ تتذكَّر أنَّ الإيمان يَزِيد ويَنقُص، وأنَّ صاحِبَك قد نقَص إيمانُه بلا شكٍّ، وعليك أنْ تبذل جُهْدَك لرفْع مُستَوى الإيمان عندَه، وكُنْ واثِقًا من ذلك، وضَعْ لذلك برنامجًا يَتناسَب مع سِنِّه وفكرِه، وليكن بشكلٍ تدريجي غير مُتَكلَّف، وتلقائي غير متعمَّد، ونبدأ مثلاً بعرْض فكرة أداء العمرة والحج، ونقتَرِح عليه زيارة بعض الصالحين من العُلَماء والعُبَّاد والتجَّار، ولا مانع من زيارة المقابِر؛ فهذه من وسائل رفْع الإيمان التي تُؤثِّر بحوْل الله وقوَّته إذا نفِّذت بشكلٍ مُحكَم بالتعاون مع بعض المقرَّبِين إلى قلبه.



العشرون: تذكيرُه بمحاسن الدين والاستِقامة:

على مَن يُخاطِب المنتَكِس أنْ يبيِّن له فضلَ الدين والاستِقامة، قال القحطاني - رحمه الله -:

الدِّينُ رَأْسُ المَالِ فَاسْتَمْسِكْ بِهِ
فَضَيَاعُهُ مِنْ أَعْظَمِ الخُسْرَانِ

وقول عِياض - رحمه الله -:

وَمِمَّا زَادَنِي شَرَفًا وَتِيهًا
وَكِدْتُ بِأَخْمُصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ يَا عِبَادِي
وَأَنْ صَيَّرْتَ أَحْمَدَ لِي نَبِيَّا



على مَن يُخاطِب المنتَكِس أنْ يُذكِّره بفَضِيلَة الدِّين ومَحاسِن الإسلام وفضل الاستِقامة، ويُذَكِّره بأنَّ من أعظَمِ النِّعَم عليه أنَّه مسلم، ويُذَكِّره بالجنَّة ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 54 - 55]، ويقول - تعالى -: ﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ﴾ [النبأ: 31 - 32]، إلى نهاية الآيات من سورة النبأ وغيرها من الآيات.



الحادي والعشرون: تَذكِيرُه بالأيَّام السعيدة السابقة مع الصُّحبة الطيِّبة:

عندما تقوم بزيارة صاحبك المنتَكِس عليك أن تُحاوِل أنْ تسترجع المواقف السَّعيدة التي عاشَها مع زملائه، ثم قمْ بسردها عليه بأسلوبٍ خفيف وممتِع دون إشعاره بتعمُّدك ذلك، واحذَر أن تتكلَّف بذلك، بل حاوِل أن تجعَلَها جاءتْ بشكل تلقائي؛ فلها بإذن الله وقعٌ طيِّب على مَن ابتُلِي بنَقصِ إيمانه وضعْف تديُّنه، كما أحذِّرك من تذكيره بما كان يحدث له من مشكلات، أو ما كان يَنالُه من عقابٍ عند حدوث أخطاءٍ منه؛ لأنَّ هذا الأسلوب يَزِيد من نفوره، وسيَجعله أكثر إصرارًا على استِمرار انتِكاسته.



إنَّ هذا الأسلوب له وقعٌ عجيب ومفعولٌ سريع - بإذن الله - بإعادة الصاحب إلى أصحابه، وأُعيدُ وأؤكِّد أنَّ الأسلوب هو الذي يُحدِّد أثَر هذا الفعل ونتائج هذا اللِّقاء.


الثاني والعشرون: فتْح آفاقٍ جديدة له:

هناك من الشباب مَن يَربِط الاستِقامةَ بأشخاصٍ معيَّنين أو يظنُّ أنَّ لا استِقامة إلا معهم، وهنا تحدُث الإشكاليَّة؛ ولذا أقدِّم النصائح التالية:

أيُّها المربِّي الكريم، إذا كان لك تلميذٌ لم يرتح مع المجموعة التي رزَقَك الله الإشرافَ عليها، فلم يَتجانَس مع أفرادها ولم تلتقِ الأرواح مع روحه - فعليك إذا لم تَنجَح في إصلاح وَضعِه مع المجموعة أنْ تفتح له آفاقًا جديدة؛ كنُصحِه بالانضِمام إلى مجموعةٍ أخرى قد يُوفَّق معها، وعليك أنْ تكون الوَسِيط له بذلك متى وجدتَ عنده الرَّغبة.



إذا كان الشابُّ ليس مع مجموعةٍ طلابيَّة بل مع صحبةٍ لا قائد لها، فعلى زملائه نصحُه بالانضِمام لغيرهم عندما يجد عدم تجانُسه معهم بأسلوبٍ طيِّب، ولا يفهم منه ولا يشم الإبعاد والطرد، بل عن طريق الذهاب مع مجموعةٍ إلى رحلةٍ، فإذا ارتاحَ لهم سوف يُحاوِل الانضِمامَ إليهم بنفسه وهكذا.



إذا كان الانتِكاس من رجلٍ عادي ليستْ له مجموعةٌ، فعلى المقرَّبين له الاقتراحُ عليه بالانضِمام إلى رفقةٍ صالحة والسعي له بذلك.



كما أنَّ على المُنتَكِس أنْ يُعِيد النظرَ في النشاط الدعوي الذي يُمارِسه أو النافِلة التي يَحرِص عليها، فقد يكون يُمارِس نشاطًا دعويًّا يحتاج إلى نفقةٍ ماديَّة لا تُلائِم ظروفه الماديَّة؛ فمثلاً نشاطه توزيع كُتَيِّبات وأشرطة، فهذا انصَحْه بالتحوُّل إلى نشاطٍ آخَر لا يُكلِّفه ماديًّا شيئًا، وهناك مَن يُمارِس عِبادةً لا يستَطِيع المُواظَبة عليها، وعند تخلِّيه عنها تنعته نفسه بالنِّفاق ثم يترك الدين من جرَّاء ذلك؛ كمَن يقوم الليل أو يصوم النَّفل، وعليه أنْ يتنبَّه له دائمًا بأنها نَوافِل لا إثمَ بتركها، والله الموفِّق.



وفي الخِتام:

هذا هو المنهج الذي اخترتُه عند التعامُل مع المنتَكِس، مع التشديد على ألاَّ يُشهَّر به ولا يُسَبَّ ولا يُشتَم، ولا يُشمَت به، عسى الله أنْ يهديه، وأنْ يردَّنا إليه ردًّا جميلاً.



الثالث والعشرون: عدم المواجهة المباشرة مع المربي في أوَّل الأمر:

يحمل الشابُّ في قلبه هيبةً لشيخه في الغالب، ويُصابُ بالحرج عند مواجهته؛ ولذا فمن الأفضل عند انقِطاع الشابِّ ألاَّ يتَّجِه شيخُه وأستاذُه إليه مباشرةً لمناقشته ومُناصَحته؛ خشيةَ أن يتصرَّف الشابُّ معه تصرُّفًا شائنًا يَصعُب بعد ذلك عليه تصحيحُه؛ كتهرُّبه منه أو تلفُّظه عليه.



إنَّ التصرُّفات التي لا يُدرِك الشابُّ المنتَكِس آثارَها في بداية انتِكاسه وسوء تعامُلِه مع زُمَلائِه قد تَحُولُ بينه وبين العَودة إليهم مُستقبَلاً، وتَزداد الأمور صعوبةً عندما تكون هذه التصرُّفات مع الشيخ أو المربِّي أو الأستاذ، مع العلم بأنَّ هؤلاء الفُضَلاء لا تُؤثِّر فيهم مثل هذه التصرُّفات؛ لعلمهم بأنَّ لكلِّ مرحلةٍ حكمها، ولكنَّ الخوف ألاَّ يفهم الشابُّ المنتَكِس مَوقِف الشيخ من تصرُّفاته وقدرته على التحمُّل وعدم عتبه على تصرُّفات تلميذه في مثل هذه المواقف؛ لأنَّه مرَّ بتَجارِب سابقة أو سمع بتَجارِب لغيره من الدُّعاة، وهذا الذي يدفعني إلى القول بأنَّ على الشيخ ألاَّ يقوم بزيارة التلميذ؛ فأوَّل مرَّة يدعها إلى أقرب زملاء الشاب إلى نفسه حتى يُهيَّأ الشابُّ إلى مرحلةٍ أفضل، ثم يَزورُه بعدَها الشيخُ إمَّا بترتيبٍ مسبق أو بشكلٍ مُفاجِئ، على حسب الظُّروف والمُعطَيات.



الرابع والعشرون: عليك عندما تتعامَل مع مُنتَكِس، أن تنظر في أحواله من خِلال معرفة بيئته وعمره... إلخ:

أ - مسألة العمر:

بعض المربِّين - مع الأسَف الشديد - يُضخِّم الأمور ويُعطِيها أكبرَ من حجمها الطبيعي؛ فمثلاً تجده يُحَوقِل ويستَرجِع عند حدوث التغيُّر من شابٍّ صغير لم يُناهِز الحلم، ولم يَعرِف بعدُ معنى الاستِقامَة، فيُعطِي لتراجعه تَهوِيلاً أكبر من حَجمِه الحقيقي، بل يُصوِّر حالته بأكبر ممَّا تستحقُّ، ويُضخِّم الأمر مع أنَّ مَن حدَث عنده التغيُّر لم يبلغ حتى المرحلة المتوسِّطة، أو لم يزل بعدُ في بدايتها، وهذا الاهتِمام والنِّقاش الزائد مع هذا الغلام يُؤثِّر سلبيًّا على هذا الغُلاَم، خاصَّة عندما تُعقَد له الجلسات المُتَتابِعة لِمُناصَحته ومناقشته من قِبَل المربي أو بقيَّة أفراد المجموعة، إنَّني على يقينٍ بأنَّ المربِّي الذي يَفعَل مثلَ هذا منطلقه الحبُّ والحرص، ولكن قد يَغِيب عن تَفكِيره الجوانب السلبيَّة، ومنها مثلاً: قد يُغرِي هذا الاهتِمام الزائد بعضَ أقرانه ليفعلوا مثل ما فعل؛ لينالوا مثل ما نالَه من عِنايةٍ واهتِمامٍ وجلسات وزيارات؛ لعدم معرفتهم بنعمة الاستقامة... إلخ.



ب - مُراعاة البيئة:

إنَّ مُراعاة البيئات وخاصَّة البيئة الجاهلة، بفضْل التديُّن والاستِقامة، التي قد تكون ضغوطها على الشاب أكبرَ من طاقاته وقدراته على التحمُّل، فعلى المربِّي مُراعاة هذا الجانِب باستِخدام أساليب تحفَظ لهذا الشاب تَوازُنَه حتى يمكن أن يَتعايَش مع مجتمعه، فمثلاً عندما يكون الشابُّ في بيئةٍ ثريَّة، ومن عادات الأهل السفرُ إلى البِلاد الغربيَّة لقَضاء الإجازات الصيفيَّة هناك، مع بُعدِهم عن التمسُّك بتَعالِيم الدِّين؛ لأنَّ أفراد الأسرة يَعِيشون في حالة متردِّية من الناحِيَة الدينيَّة، فإنَّ التديُّن المتوقَّع من هذا الشابِّ لا بُدَّ أنْ يكون أقلَّ من زملائه؛ نظَرًا لتأثير البيئة؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنكم في زمانٍ مَن ترك منكم عُشرَ ما أُمِر به هلك، ثم يأتي زمانٌ مَن عمل منكم بعُشْرِ ما أُمِر به نجا))[67].



قال في "التحفة" في شرح هذا الحديث: "إنَّكم - أيُّها الصحابة - في زمانٍ متَّصف بالأمن وعزِّ الإسلام؛ فمَن ترك عُشرَ ما أُمِر به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد وقَع في الهلاك؛ لأنَّ الدين عزيزٌ وأنصاره كثر، فالتَّرك تقصيرٌ، فلا عذر، ثم يأتي زمانٌ يَضعُف فيه الإسلامُ، ويكثر الظُّلم، ويَعُمُّ الفسق، ويقلُّ أنصار الدين، وحينئذٍ مَن عمل منهم (أي: من أهل ذلك الزمن) بعُشرِ ما أُمِر به نجا؛ لأنَّه المقدور؛ ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]"[68].



فالتعامُل مع الشابِّ المنتَكِس من هذه البيئة حبَّذا أن يكون مختلفًا عن التعامُل مع منتَكِس في بيئةٍ أخرى، فلا يُطلَب منه ما يُطلَب من غيره، ويُقبَل منه اليسيرُ حتى يَفتَح الله عليه وعلى أهله، ولأنَّ وضعه بعد استقامته قد يُعادِل وضعَ بعض المنتَكِسين من بيئات أخرى.



الخامس والعشرون: استقباله عند العودة:

من المنتَظَر أنْ يكون للجُهود المبذولة دورٌ في إعادة الشاب إلى زملائه، كما عليك أنْ تتأكَّد أنَّ هناك من الشباب مَن يَحرِصون على العودة إلى زُمَلائِهم بعد انقِطاعِهم من جَرَّاء شعورهم بالمَلَلِ والفَرَاغ، ولكنَّ الخوفَ من المواجهة الأولى للشابِّ مع شيخِه أو زملائه يمثِّل هاجِسًا وقلَقًا عند الشاب؛ ولذا قسمتُ هذا المبحث إلى قسمين:

الأول: الزيارة المرتَّب لها بين المنتَكِس وشيخه أو أحد زملائه، وهذه الزيارة من المفتَرَض أن يتمَّ التعامل معها وفْق الأمور الآتية:

أ - يستقبل استقبالاً عاديًّا بلا تكلُّف، وكأنَّه موجود بالأمس، إذا كان هذا الشابُّ قد عُرِف بحيائه وخجله من مثل هذه المظاهر، إنَّ جعْل مثل هذه الشاب في مَوقِفٍ حرج بحيث يكون استقبالُه لافتًا للأنظار أمرٌ يَصعُب عليه تقبُّله، بل قد يجعَلُه يُفَكِّر ويَتردَّد قبلَ الزيارة؛ ولذا على مَن رتب لهذه الزيارة التعهُّد له بذلك، والترتيب المسبق مع الشباب؛ حتى يوفي بالعهد، وإنْ كان الشابُّ لا يُعرَف بالخجَل في مثْل هذه الأمور، فيكون الاستِقبال على حسب الظروف، وإنْ كنت أحبِّذ أنْ يكون التعامُل معه كالسابق إذا كانتْ هذه العودة وفْق اتِّفاقٍ مسبق؛ لأنَّ التكلُّف بالاستِقبال والتصنُّع أمرٌ غير مقبول.



ب - عدم إحراجه بطرْح أسئلةٍ من قِبَلِ زُمَلائِه موجَّهة له مثلاً: أين كنتَ في الفترة الماضية؟ هل صحيحٌ ما سمعنا عنك؟ لماذا انقطعتَ؟ هل بدا مِنَّا ما دفَعك لهذا؟ إلى غير ذلك من الأسئلة.



إنَّ المربي المحنَّك هو الذي يجتَمِع بالشَّباب قبل زِيارة زَمِيلهم لهم، ويَقُوم بتَحذِيرهم من مثْل هذه الأمور مع التَّأكِيد عليهم بأنهم عرضة للوُقوع في مثْل ما وقَع به، ويُؤكِّد عليهم الابتعاد عن:

1 - التكلُّف والتصنُّع عند الاستِقبال، وإعطاء الأمر أكبر من حجمه الطبيعي.

2 - طرْح الأسئلة الاستِفساريَّة عن غيابِه وعن أيَّامه الماضية ماذا صنَع بها.

3 - حبَّذا لو تَمَّ اختِيار البرنامج المُناسِب عند عودته لوضْعه كشابٍّ، وأضرب على ذلك أمثلة:

1 - إنْ كانت العودة قد ظهرتْ منه بدون إلحاحٍ ولا ضغطٍ، بل جاءتْ من رغبةٍ صادِقَة منه، وتوبةٍ ظاهرها الصدق، وهو قد عُرِف بالجد، فاقترح أن يعود وفق برنامج قوي؛ كحفظ القرآن، أو درس علمي، أو الذهاب لحضور محاضرة، أو لقاء مع أحد أهل العلم... إلخ.

2 - إنْ كانتْ عودته مُتزَعزِعة وضعيفة من المُناسِب أنْ تكون عودته في وقت استجمام عند الشباب وترويح عن النفس؛ حتى يشعر بلذَّة الجانِب الترويحي مع الرفقة الطيِّبة والصُّحبة الصالحة، وحتى يشعر بقيمة ما فقَدَه في فترة ابتِعادِه عنهم، ولا حرج على الشباب أن يمرَحُوا ويفرَحُوا أو يستَجِمُّوا بما أحلَّ الله، وكما قال أبو الدرداء - رضِي الله عنْه -: إنِّي أستجمُّ ببعض الباطل ليكون أنشط لي في الحق[69].



ولا يقصد هنا اللهو الباطل المحرَّم، فحاشاه أن يقصد ذلك، بل يقصد اللهو المباح، والذي يسمَّى باطلاً كما جاء في الحديث: ((كلُّ ما يلهو به الرجل المسلم باطلٌ، إلا رمية بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهنَّ من الحق))[70].



إذا كان هذا الصحابيُّ الجليل يُمارِس اللهوَ المباح من أجل إراحة نفسِه ودفعها للجدِّ من باب أَوْلَى من عداه.



إنَّ عودة الشابِّ ضعيف التديُّن في وقت رحلة ترفيهيَّة أمرٌ في غاية الفائدة له.



القسم الثاني: الموقف في التعامُل من الزيارة المفاجِئَة التي قام بها المنتَكِس لزملائه من غير ترتيبٍ مسبق، ولا توقُّع لمثْل هذه الزيارة.



إنَّ بعض المنتَكِسين قد يَعُودون من تِلقاء أنفسهم بدون إشعارٍ مسبق، أو دعوة وُجِّهت له، أو زيارة مُرتَقَبة، بل جاءتْ من مُبادَرة من تِلقاء نفس الشابِّ بالعودة إلى زملائه، وهنا من المناسب أن يكون الاستِقبال له استِقبالاً حارًّا، مع عدم مساءلته أو فتح أيِّ حوار عمَّا مضى، بل يكون تَرحِيبًا مع القِيام لاستِقباله ومُعانَقته حتى يظلَّ أثره على نفْس الشاب طيِّبًا، وحتى يعرف قيمة الوفاء عند الشباب.



إنَّ الفرح بتوبة الشابِّ وعودته إلى الرفقة الصالحة أمرٌ محمود وأثَره على العائد طيِّب، بل هذا كعب بن مالك - رضِي الله عنْه - يحدِّث بعد فترة عن أثَر قيام طلحة بن عبيدالله - رضِي الله عنْه - له عند توبة الله عليه بعد قبولها؛ فيقول: "انطلقت إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتلقَّاني الناس فوجًا فوجًا، يُهنِّئوني بالتوبة يقولون: هنيئًا لك توبة الله عليك، حتى دخلتُ أسجد، فإذا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - جالس حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيدالله يهرول حتى صافحني وهنَّأني، والله ما قام إليَّ رجلٌ من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة"[71].



فانظر إلى أثَر استِقبال طلحة على قلب كعب وتأثيرها على مشاعره، فالشباب من باب أَوْلَى.

• • •

الخاتمة
وفي الختام أدعو جميعَ الشباب أن يقرؤوا منهج الصحابة في التعامُل مع الشائعات من خِلال منهجهم في التعامُل مع حادِثَة الإفك التي انتَشَر خبرُها بين الآلاف من الصحابة ولم يصدقها أحدٌ منهم، وإنما رَوَّج لها ثلاثةُ نفرٍ نالوا عِقابَهم، في حين رفض بقيَّة الصحابة مجرَّد المناقشة في هذه القضيَّة، وذبُّوا عن عرض عائشة - رضِي الله عنْها - بما فيهم ضرَّتها زينب بنت جحش - رضِي الله عنْها - مع أنَّ وقوع الضرَّة في عرض ضرَّتها أمرٌ مُتوقَّع، ولكنَّ زوجةَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - زينب - رضِي الله عنْها - أثنتْ على عائشة - رضِي الله عنْها - ورفضتْ أن تصدق مثل هذا الخبر عنها، فكانت مدرسة على أبناء الأمة أن يستفيدوا منها، فكانت هذه الحادِثَة مَنهَجًا على المؤمِن أن يستَفِيد منها في كيفيَّة التعامُل مع الشائعات.



ـــــــــــــــ
[1] هذه المقدمة كتبها الإمام ابن حبان في مقدمة "صحيحه"، انظر ص 100 في النسخة المحقَّقة.
[2] "الاعتصام" ( 1/ 130) وهامشها رقم (4).

[3] انظر: "مجموع الفتاوى" ( 28/ 206، 207).

[4] أخرجه أحمد في "المسند" حديث رقم (1737)، والترمذي في "السنن" (2318)، وصحَّحه الألباني في "صحيح سنن الترمذي" (2/ 531)، وحسَّنَه شعيب لشواهده؛ انظر: "الموسوعة الحديثيَّة لمسند الإمام أحمد" ( 3/ 258).

[5] انظر: "في ظلال القرآن" عند تفسير الآية 15 من سورة النور.

[6] أخرجه أبو داود حديث رقم (5/ 254)، وصحَّحه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" رقم (3/ 4972)، وانظر: "الصحيحة" (2/ 548).

[7] رواه البخاري في "صحيحه"، كتاب الإيمان حديث رقم (10)، ومسلم حديث رقم (40).

[8] أخرجه البخاري، كتاب الرقاق باب حفظ اللسان رقم (6477)، وأخرجه مسلم (2988).

[9] "فتح الباري" (11/ 308).

[10] انظر: "التثبت والتبين في المنهج الإسلامي" ص: 102.

[11] "تفسير القرآن العظيم" 3/ 303.

[12] "تفسير السعدي" 5/400.

[13] "جامع العلوم والحكم" 2/ 292.

[14] "جامع العلوم الحكم" 2/ 292.

[15] "غذاء الألباب" 1/265.

[16] "زاد المسير" 7/471.

[17] "روح المعاني" 14/236.

[18] أخرجه أبو داود حديث رقم (4880)، وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" 3/ 237 رقم (1675)، والبيهقي في "الجامع لشعب الإيمان" 17/152 (9213)، واللفظ له، وقال محقِّق "الشعب": إسناده صحيح، كما صحَّحه الألباني في "صحيح الجامع الصغير" برقم (7861)، وفي "الصحيحة" حديث رقم (2064).

[19] أخرجه ابن ماجَهْ حديث رقم (2546)، وأخرجه المنذري في "الترغيب والترهيب" وقال: إسناده حسن، (3/ 239)، الجزء الأول من الحديث عند أبي داود (4893) من حديث ابن عمر، وبعض الحديث عند مسلم (2699) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنهم - وصحَّحه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه".

[20] أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلم مسلم حديث رقم (2442)، وأخرجه مسلم في كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم حديث رقم (2580).

[21] "المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج" (شرح النووي) 1543 في كتاب البرِّ والصلة، باب تحريم الظلم عند شرح الحديث رقم 2580.

[22] انظر: "صحيح مسلم" حديث رقم 2699 في كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر.

[23] انظر: "فتح الباري" 6/ 262.

[24] رواه الطبراني في "الأوسط" (2337)، وقال الألباني: صحيح لغيره، في "صحيح الترغيب والترهيب" (2337).

[25] انظر: "سنن أبي داود" في كتاب الأدب حديث رقم (4888 )، وصحَّحه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" 3 /199.

[26] أخرجه أحمد في "المسند" 36/ 218 حديث رقم (21891)، وأخرجه أبو داود حديث رقم (4377)، وقال شعيب في "الموسوعة": صحيح لغيره 36/ 218، وقوله: "فخدَعَه هزَّال" لأن هزالاً كان يعلَم حدَّ الزنا، ويدري أنَّه إذا ذهب إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - سيُقِيم عليه الحد.

[27] أخرجه أحمد في "مسنده" 36/ 220 حديث رقم 21893 وقال شعيب: صحيح لغيره؛ انظر: "الموسوعة" 36/ 220.

[28] أخرجه أحمد في "المسند" حديث رقم (21895)، والحاكم في "المسند" رقم (8080)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافَقَه الذهبي، انظر: "المستدرك" 4/ 403، وقال شعيب في "الموسوعة": صحيح لغيره 36/ 221، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع" 799.

[29] أخرجه البغوي في "شرح السنة" 10/ 283.

[30] أخرجه عبدالرزاق في "مصنفه" برقم 20267، والبيهقي في "شعب الإيمان" برقم 6264، وقال محقِّق "الشعب": إسناده حسن 12/ 80.

[31] أخرجه البغوي في "شرح السنة" 13/ 137 برقم 3559، وعبدالرزاق في "المصنف" برقم 20266، والبيهقي في "شعب الإيمان" رقم 6265، وقال المحقق: إسناده منقطع، 12/ 80، 81.

[32] أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" 10/ 227.

[33] أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب بشارة مَن ستر الله - تعالى - عليه في الدنيا بأنْ يستر عليه في الآخِرَة، حديث رقم (2590).

[34] "مكارم الأخلاق"؛ للحزنقي ص 495.

[35] المرجع السابق: ص 502.

[36] "الزهد"؛ لوكيع 3/ 768.

[37] انظر: "سنن أبي داود" حديث رقم (4890)، و"المصنف"؛ لعبدالرزاق (18945)، و"سنن البيهقي" 8/ 224، وصحَّحه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" 3/ 199.

[38] أي: المرضعة غير ولدها.

[39] رواه البيهقي في "شعب الإيمان" 17/ 154 (9215)، وقال المحقِّق: إسناده حسن.

[40] وجميع هذه الروايات ثابتة كما مَرَّ معنا، انظر: المسنَد الأحاديث الآتية: رقم (21891)، (21892)، (21893)، وأخرجه النسائي في "الكبرى" مختصرًا (7279)، والطبراني في "الكبير" 12/ 531، والبيهقي في "الجامع" 17/ 144 برقم (9206)، والحاكم في "المستدرك" وصحَّحه، ووافقه الذهبي، انظر: 4/ 361، وصحَّحه شعيب، انظر: "الموسوعة الحديثية" 36/ 215 - 221، وصحَّحه محقِّق "الشعب" 17/ 47.

[41] انظر: "الجامع لشعب الإيمان" 17/ 155.

[42] أخرجه الترمذي في حديث رقم (3657) وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع الصغير" 1/ 157 حديث 555.

[43] انظر: "الأذكار"؛ للنووي ص 258، و"تحفة الأحوذي" 9/276، و"فيض القدير" 1/ 451.

[44] انظر: "الجامع لشعب الإيمان" 12/ 87 برقم 6272.

[45] أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" 11/179 برقم (20266)، والطبراني في "المعجم الكبير" 9/ 110 برقم (8574)، وابن المبارك في "الزهد" 1/ 313، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" 4/ 205، وقد سبَق أنْ مَرَّ معنا.

[46] أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" 11/ 180 برقم (20267)، وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 227، والبيهقي في "شعب الإيمان" برقم 6264، وقال المحقِّق لـ"جامع شعب الإيمان": إسناده: رجاله ثقات 12/80.

[47] انظر: "الجامع لشعب الإيمان" 20/362 رقم (10684).

[48] أخرجه مسلم كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب حديث رقم (6864).

[49] أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" 12/80 برقم (6263)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" 4/98، والسيوطي في "الدر المنثور" 7/ 270 - 271، وأورده ابن كثير في بداية تفسير سورة غافر، تفسير الآية الثانية 7/ 3064.

وقال محقِّق "الشعب": إسناده حسن، انظر: "الشعب" 12/80.

[50] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب خوف المؤمن أن يحبط عمله حديث رقم 18.

[51] أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" حديث رقم 594.

[52] رواه مسلم كتاب الفضائل: باب شفاعته - صلَّى الله عليه وسلَّم - على أمَّته، حديث رقم (2284).

[53] أخرجه البخاري كتاب الرقاق باب التواضع حديث رقم (6502).

[54] أخرجه أحمد في "المسند" حديث رقم (6477)، (6908)، وللحديث ألفاظٌ وروايات متعدِّدة وردت في كثيرٍ من دواوين الإسلام، وهو حديثٌ صحيح على شرط الشيخين، كما قال شعيب، "الموسوعة" 11/10.

[55] انظر : حاشية "الموسوعة الحديثيَّة" 11/11.

[56] وجدته في "مدارج السالكين"؛ لابن القيِّم 3/122، ولم أجده عند غيرِه بعد بحث وتَقَصٍّ.

[57] أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" حديث رقم 580، وأخرجه أبو داود حديث رقم 2478، وأخرجه أحمد في "المسند" حديث رقم (24307)، وقال شعيب في "الموسوعة": حديث صحيح 40/ 353.

[58] أخرجه مسلم برقم (2748).

[59] أخرجه مسلم (2749).

[60] الحديث رواه البخاري رقم (6308)، ومسلم (2747).

[61] انظر: "الجامع لشعب الإيمان" (12/555).

[62] انظر: "الجامع لشعب الإيمان" ( 12/ 555 - 556).

[63] أخرجه البخاري، كتاب التوحيد باب قول الله - تعالى -: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} [الفتح: 15] حديث رقم 7507، وأخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب حديث رقم (2758) واللفظ له.

[64] البخاري أطرافه في "الفتح" (1936)، ومسلم (1111).

[65] مسلم حديث رقم (1112).

[66] انظر: "الموطأ" 1/ 217، والبيهقي 4/ 225، مع أنَّ العمدة على الأحاديث الموصولة أَوْلَى وأَوْجَب.

[67] أخرجه الترمذي، وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث نعيم بن حمَّاد، عن سفيان بن عُيَينَة قال: وفي الباب عن أبي ذر وأبي سعيد حديث رقم (2267)، وصحَّحه الألباني في "صحيح الترمذي" 2/508.

[68] "تحفة الأحوذي" 6/450.

[69] أخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" 3/ 249، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 46/ 501.

[70] أخرجه الترمذي في "سننه" حديث رقم 1637، وقال عنه: حسن صحيح، وضعَّفه الألباني في "ضعيف سنن الترمذي" حديث 163.

[71] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب حديث كعب بن مالك رقم 4418.


المصدر: الألوكة