المنكرات السياسية بقلم أ.د/عبد الكريم بن يوسف الخضر
منيرة بنت عبدالله
1432/02/13 - 2011/01/17 10:20AM
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :-
إن الناظر لمسمى المنكرات في الإسلام يجد أنها دائرة تتسع كثيراً لتتجاوز ما يحاول بعض فقهاء السلاطين حصرها فيه من منكرات الأفراد فقط كالاختلاط وترك صلاة الجماعة وكشف المرأة لوجهها أو إظهار بعض مفاتنها في الأسواق ونحوها لتشمل جميع المنكرات الصادرة من الحكام وأعوانهم في حق الأمة وحرياتها ومقدراتها وهذه المنكرات مما يعدها الناس داخلةً في السياسة التي يزعم البعض انه لا يجوز لكل أحد الحديث عنها أو الخوض في تفصيلاتها وهذا الزعم الذي وضع سياجاً شرعياً مكذوباً يحول دون إنكار الناس لمنكرات الحكام وأعوانهم كان قد حصل بسبب التحريف الذي أصاب الخطاب الديني-من قبل علماء السلاطين - والذي سلط ليخدم سياسة الاستبداد القائمة على أحادية الرأي أو رأي النخب المنضوية تحت راية المستبد أو المصنوعة تحت عينه،لتحرم شيئاً قد أوجبه الله كإنكار المنكرات السياسية وتحل شيئاً قد حرمه الله ثم يضلون عموم الناس بذلك فيدخلون تحت من قال الله تعالى عنهم ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً......الآية )التوبة (31) وهذه هي الوثنية السياسية(وثنية الحكام) التي أوجدت في هذا العصر الذي اندثرت فيه وثنية الأصنام
والدليل على اتساع دائرة المنكرات وتجاوزها لمنكرات الأفراد (وهي الأقل خطورة من المنكرات السياسية ) أن كلمة (منكر) الواردة في النصوص الشرعية كلمة عامة يدخل فيها جميع أنواع المنكرات التي تقع في المجتمع الإسلامي، دون تخصيص لإحداهما عن الأخرى, ولقد جاءت الآيات القرآنية الصريحة والأحاديث النبوية الصحيحة في النهي عن عموم المنكرات وفي الترهيب من السكوت عليها
والمتتبع لنصوص القرآن والسنة المحذرة من السكوت على المنكر ومن ترك الإنكار على فاعليه والمتلبسين به ,والوقوف موقفاً سلبياً من مقترفيه سواء كانوا حكامًا أو محكومين يجدها قد ذكرت مايزلزل فواد كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان من الوعيد الشديد والتحذير من العقوبات العاجلة والآجلة له.
ومن ذلك قول الله عز وجل في القرآن الكريم :( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون@ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون). (المائدة 78: 79).
انه اللعن من الله عز وجل لكل من رأى المنكر فلم ينكره ولم ينه عنه سواء في ذلك الناس جميعا إذا كانوا يعلمون بأنه منكر ولاشك أن العلماء الذين يعلمون بوقوع المنكرات ويعلمون بأنه منكر فان الواجب عليهم أكثر والعقوبة عليهم في ترك الإنكار أعظم
ويتوعد الله عز وجل علماء الحكام الساكتين عن الحق في إنكار المنكرات سواء كانت منكرات سياسية أو غيرها وهم الذين يكتمون الحق الذي جاء من عند الله بقوله تعالى(إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) سورة البقرة (159)
وقول الله تعالى (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ) البقرة (174)
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند مسلم وغيره: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان).
ويحاول بعض الناس وخاصة بعض علماء السلاطين الذين يسوغون أفعاله ويشرعنونها بحجة انه (ظل الله في الأرض) وبحجة( درء الفتن) وبحجة (جمع الأمة) وبحجة (عدم جواز الاعتراض عليه) وبحجة(وجوب طاعته المطلقة) بكل هذه الحجج يحاولون صرف الناس عن النظر في المنكرات السياسية وإنكارها وحصر المنكرات بمنكرات العوام الفردية كالزنا واللواط , وشرب الخمر, والاختلاط , وتعاطي الدخان وإسبال الثياب وما في معناها.
إن فقهاء الحكام يغفلون عن أن موالاة أعداء الله وأعداء الأمة من دون المؤمنين منكر كبير لكنه وبسبب تعلقه بالأمير أصبح عند هؤلاء غير منكر أو أصبح عندهم منكر صغير.
ويغفلون أيضاً عن استهانة الحاكم بكرامة الشعب و استباحته لاعتقالاتهم وتقييد حريتهم , فلا ينكرون عليه الاعتقالات التعسفية غير المبررة واعتقال الناس بغير جريمة سنوات طويلة لا يعرضون فيها على قضاء شرعي عادل يحفظ حقوقهم وكراماتهم ,و يغفلون عن تعذيب الناس داخل السجون والمعتقلات, ولم نجد أحداً من علماء السلاطين كهيئات كبار العلماء والمفتين من أنكر هذه الأشياء المنكرة والمحرمة , وهذا يدل دلالة ظاهرة على أنهم يرون أن الحاكم ومؤسساته القمعية معصومين لا يمكن أن يخطئون,كما أنهم ممن لايسألون عما يفعلون, ويغفلون عن أن هذه من صفات فرعون في بني إسرائيل (يقتل أبنائهم ويستحيي نسائهم ) ويغفلون وجوب الانتخابات(الشورى) وأخذ رأي الشعوب في أمورهم المصيرية , والذي أوجبه الله تعالى في قوله ( وشاورهم في الأمر) , ويغفلون اسندا الأمر إلى غير أهله والذي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه(إذا أوسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) ويغفلون أيضاً عن جعل الحاكم جميع المناصب القيادية في أيد فئة معينة أو أسرة محددة أو حزب بذاته مخالفين أمر الله عز وجل باختيار القوي الأمين - دون اعتبار لعائلته وقرابته من الحاكم أو بعده عنه - في قوله تعالى (إن خبر من استأجرت القوي الأمين ), ويغفلون عن إنكار سرقة المال العام والعبث بمقدرات الأمة , بل يعتبرون –جهلاً منهم أو خوفاً من قول الحق - المال العام مملوكاً ملكية خاصة للحاكم وأقاربه وأعوانه بخلاف ما دلت عليه نصوص الشريعة ومنها حديث ابن اللتبية حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه (هلا جلس في بيت أبيه أو أمه فلينظر هل يهدى إليه شي )ونسوا أن جميع ما يستأثر به الحاكم من أموال الأمة إنما هو غلول محرم ويعتبرون أن ما يبذله الحاكم من هذا المال العام في مصالح البلد إنما هو منحة أو مكرمة يتفضل بها على هذه الشعوب , وهذا الأمر بخصوصه لم أسمع أن أي عالم من علماء السلاطين من قال - ولو على سبيل الخطأ او في مجالسه الخاصة - أن هذا المال مال الله لعموم الأمة يجب على الحاكم العدل فيه وعدم الإسراف فيه وقصر منافعه على نفسه وأسرته وأنسابه وحزبه كما يعطي بقية الشعب بل تجد علماء السلاطين يبذلون جهدهم في إقناع الشعوب أن هذا المال(المال العام ) خاص بالحاكم لا يجوز لأحد منازعته عليه , وان ما يبذله إنما هي أعطيات يتكرم بها على شعبه. وقد نسي أو تناسى النصوص الشرعية من القرآن والسنة التي بينت وجوب تحرز الحاكم فيه و أن الحاكم كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعامل مع هذا المال تعامل ولي اليتيم مع مال اليتيم إن احتاج أكل منه بالمعروف وإلا فإنه يجب عليه التعفف عنه ويحرم عليه أن يأكل منه أو يتعدى عليه.
كما يغفلون أيضاً عن منكر احتكار السلع التي يحتاج إليها الناس أو منح الامتيازات لصالح فئة أو فرد من أسرة الحاكم أو من أنسابه لان هذا منكر يجب إنكاره ,و غفلوا عن أن دفع الرشوة وقبولها والتوسط فيها أو إقرارها منكر عظيم لقول الله تعالى (و لاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وانتم تعلمون ) البقرة(188), كما تغافلوا عن أن تملقهم للحكام بالسكوت عن الباطل وإقرارهم به هو بذاته منكر عظيم خطره على الأمة أعظم من خطر جميع منكرات الإفراد لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (الساكت عن الحق شيطان أخرس ),وذلك لأنهم لا يكتفون بالسكوت عن الحق وعدم الجهر به , بل يسوغون الباطل ويفتون الناس بوجوب القبول به وهكذا نجد مسمى المنكرات يتسع ليشمل كثيرًا مما يعده الناس داخلاً في السياسة وهي ما يحرم -بعض موظفي السلاطين من علماء- على الناس الحديث فيها.
ولو كانت المنكرات التي يجب على الناس إنكارها وبيان حرمتها ستقتصر على منكرات الأفراد فقط فإن الحاكم سيسارع إلى ذلك لأنه لن يضيره إيجاد جهات معينة أو مؤسسات خاصة بإنكار منكرات الإفراد تهتم بإقفال المحلات عند الأذان وتنكر الاختلاط بالأسواق وتتابع مصانع الخمور الصغار حتى لا تنافس الموردين الكبار, بل وسيدعمها بالمال والسيارات والأدوات وغيرها مما تحتاج إليه ,ولكنه ليس لديه أي استعداد للإذن-فضلاً عن الدعم - بإيجاد مؤسسات تعنى بمراقبة أدائه وأداء حكومته أو إنكار المنكرات الصادرة منه كالنقابات المهنية و الجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني وغيرها.
فهل يسع المسلم الشحيح بدينه الحريص على مرضاة ربه وإتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم إذا كان من العامة فضلاً عن العلماء والمتعلمين أن يقف صامتًا عن إنكار هذه المنكرات فضلاً عن تسويغها وتدجين الناس للقبول بها ؟ وهل تبرأ ذمته عند الله إذا أنسحب من الميدان هاربًا من أمام هذه المنكرات وغيرها خوفا من بطش السلطان أو طمعًا فيما عنده من أ موال أو إيثارًا للسلامة على إبراء الذمة وإقامة الحجة ؟.
إن مثل هذه الروح الانهزامية, في ترك إنكار المنكرات السياسية الصادرة من الحكام وأعوانهم, وأقاربهم وأصهارهم , والهمة المتخورة الدنية , والذلة المستكينة إن شاعت في الأمة فقد انتهت رسالتها وحكم عليها بالفناء لأنها أصبحت أمة أخرى غير الأمة التي ارتضاها الله لحمل خاتم رسالاته والتي وصفها الله تعالى بقوله:.
(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). (آل عمران 110).
ولذلك فإنه لا يمكن لأحد بعد ذلك أن يتعجب حينما يسمع إنذار النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في مثل هذا الموقف في قوله في حديث عبد الله بن عمرو كما جاء عند الإمام أحمد بن حنبل في مسنده : (إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم فقد تودع منهم) وهذا إثبات لان من كان كذلك فقد تودع منه حيث أصبح غير مؤهل للحياة الحقيقية .
إن المؤمن - بمقتضى إيمانه - مطالب ألا يقف موقف المتفرج على المنكر أيا كان نوعه: سواء كان منكراً سياسيًا أو اقتصاديًا أو ثقافيًا أو اجتماعيًا أو بيئياً أو غيرها . بل يجب عليه أن يقاومه بإنكاره والعمل على تغييره بالطرق الشرعية الثابتة بالحديث الصحيح وهي اليد إن استطاع , وإلا فباللسان والبيان الواضح الصريح في بيان إنكاره ,فإن عجز عن التغيير باللسان انتقل إلى أخر المراتب وأضعفها وهي التغيير بالقلب وهي التي ورد فيها نص الحديث أنها : (أضعف الإيمان).
وقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم الرفض القلبي لهذا المنكر تغييرًا بالقلب لأن فيه معنى التعبئة النفسية والشعورية ضد المنكر وأهله والعاملين به وحماته ,وهذه التعبئة النفسية والشعورية ليست أمرًا سلبيًا(عدمياً) محضًا كما قد يتوهم البعض لأنها لو كانت كذلك ما عدها الحديث على أنها" "تغييرًا" للمنكر.
بل إن هذه التعبئة النفسية والشعورية المستمرة للأنفس والمشاعر والضمائر تعتبر عملاً ايجابياً لأنه لا بد لها أن تتنفس يومًا ما في عمل إيجابي يساعد على إنكار المنكر بإحدى الوسيلتين السابقتين(اليد أو اللسان) وذلك حتى لا يقع الانفجارً الذي لا يبقي ولا يذر , لان توالي الضغط بدون طرق شرعية لتصريفه لا بد أن يولد الانفجار وتلك سنة الله في خلقه, ولا يجوز أن يحصل من هذه المرتبة من مراتب الإنكار خلاف ما شرع من أجله من استمراء المنكرات واعتيادها ومن ثم الرضا بها وعدم الإحساس بجرم مرتكبها
و يجب على هؤلاء العلماء المتقاعسين عن إنكار المنكرات السلطانية أن يعلموا إن إنكار المنكرات يعتبر جهادا يثاب الإنسان عليه وبالتالي فإنه يأخذ حكم الجهاد في كل شي فإذا كثرت المنكرات وكان من انبرى لإنكارها لا يكفون لذلك فإن إنكارها يكون واجباً على الجميع . وان قام به من يكفي لذلك كان الإنكار في حقه مسنون وذلك لما روى مسلم في صححيه عن ابن مسعود رضي الله عنه - مرفوعًا - : (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل). فهنا سمى النبي صلى الله عليه وسلم إنكار المنكر جهاداً مما يدل على أهميته ووجوب بذل الجهد والاستطاعة في ذلك.
]
وإذا علم الإنسان من نفسه عدم القدرة على الإنكار بمفرده فإنه ينبغي له أن يلجأ إلى ما يمكن أن نسميه بجماعية الإنكار وهي ما يمكن أحياناً العمل به حينما يعجز الفرد وحده عن مقاومة المنكر ولا يستطيعه بمفرده وخصوصًا إذا زاد شراره واشتد أواره وقوي فاعلوه وتمكن مقترفوه, أو كان المنكر من قبل السلاطين والأمراء الذين يفترض فيهم أن يكونوا هم أول الناهين عنه والمحاربين له , لا ممارسيه وحراس مقترفيه كما قال الشاعر:.
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا كان الرعاة لها ذئاب؟
وهنا يكون تعاون الجميع على إنكار المنكر وتغييره واجبًا على جميع القادرين عليه لأنه تعاون على البر والتقوى وقد أمر الله بذلك في قول الله تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) ويكون هذا الإنكار الجماعي - عملاً عن طريق الجمعيات المتخصصة في ذلك أو عن طريق النقابات المهنية أو عن طريق الأحزاب السياسية وغيرها من القنوات الشرعية المتاحة - فريضة أوجبها الدين كما أنه ضرورة يحتمها الواقع. وقد ذكرت ذلك في مقال آخر بعنوان جمعيات إنكار المنكر هي الحل
إن الناظر لمسمى المنكرات في الإسلام يجد أنها دائرة تتسع كثيراً لتتجاوز ما يحاول بعض فقهاء السلاطين حصرها فيه من منكرات الأفراد فقط كالاختلاط وترك صلاة الجماعة وكشف المرأة لوجهها أو إظهار بعض مفاتنها في الأسواق ونحوها لتشمل جميع المنكرات الصادرة من الحكام وأعوانهم في حق الأمة وحرياتها ومقدراتها وهذه المنكرات مما يعدها الناس داخلةً في السياسة التي يزعم البعض انه لا يجوز لكل أحد الحديث عنها أو الخوض في تفصيلاتها وهذا الزعم الذي وضع سياجاً شرعياً مكذوباً يحول دون إنكار الناس لمنكرات الحكام وأعوانهم كان قد حصل بسبب التحريف الذي أصاب الخطاب الديني-من قبل علماء السلاطين - والذي سلط ليخدم سياسة الاستبداد القائمة على أحادية الرأي أو رأي النخب المنضوية تحت راية المستبد أو المصنوعة تحت عينه،لتحرم شيئاً قد أوجبه الله كإنكار المنكرات السياسية وتحل شيئاً قد حرمه الله ثم يضلون عموم الناس بذلك فيدخلون تحت من قال الله تعالى عنهم ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً......الآية )التوبة (31) وهذه هي الوثنية السياسية(وثنية الحكام) التي أوجدت في هذا العصر الذي اندثرت فيه وثنية الأصنام
والدليل على اتساع دائرة المنكرات وتجاوزها لمنكرات الأفراد (وهي الأقل خطورة من المنكرات السياسية ) أن كلمة (منكر) الواردة في النصوص الشرعية كلمة عامة يدخل فيها جميع أنواع المنكرات التي تقع في المجتمع الإسلامي، دون تخصيص لإحداهما عن الأخرى, ولقد جاءت الآيات القرآنية الصريحة والأحاديث النبوية الصحيحة في النهي عن عموم المنكرات وفي الترهيب من السكوت عليها
والمتتبع لنصوص القرآن والسنة المحذرة من السكوت على المنكر ومن ترك الإنكار على فاعليه والمتلبسين به ,والوقوف موقفاً سلبياً من مقترفيه سواء كانوا حكامًا أو محكومين يجدها قد ذكرت مايزلزل فواد كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان من الوعيد الشديد والتحذير من العقوبات العاجلة والآجلة له.
ومن ذلك قول الله عز وجل في القرآن الكريم :( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون@ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون). (المائدة 78: 79).
انه اللعن من الله عز وجل لكل من رأى المنكر فلم ينكره ولم ينه عنه سواء في ذلك الناس جميعا إذا كانوا يعلمون بأنه منكر ولاشك أن العلماء الذين يعلمون بوقوع المنكرات ويعلمون بأنه منكر فان الواجب عليهم أكثر والعقوبة عليهم في ترك الإنكار أعظم
ويتوعد الله عز وجل علماء الحكام الساكتين عن الحق في إنكار المنكرات سواء كانت منكرات سياسية أو غيرها وهم الذين يكتمون الحق الذي جاء من عند الله بقوله تعالى(إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) سورة البقرة (159)
وقول الله تعالى (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ) البقرة (174)
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند مسلم وغيره: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان).
ويحاول بعض الناس وخاصة بعض علماء السلاطين الذين يسوغون أفعاله ويشرعنونها بحجة انه (ظل الله في الأرض) وبحجة( درء الفتن) وبحجة (جمع الأمة) وبحجة (عدم جواز الاعتراض عليه) وبحجة(وجوب طاعته المطلقة) بكل هذه الحجج يحاولون صرف الناس عن النظر في المنكرات السياسية وإنكارها وحصر المنكرات بمنكرات العوام الفردية كالزنا واللواط , وشرب الخمر, والاختلاط , وتعاطي الدخان وإسبال الثياب وما في معناها.
إن فقهاء الحكام يغفلون عن أن موالاة أعداء الله وأعداء الأمة من دون المؤمنين منكر كبير لكنه وبسبب تعلقه بالأمير أصبح عند هؤلاء غير منكر أو أصبح عندهم منكر صغير.
ويغفلون أيضاً عن استهانة الحاكم بكرامة الشعب و استباحته لاعتقالاتهم وتقييد حريتهم , فلا ينكرون عليه الاعتقالات التعسفية غير المبررة واعتقال الناس بغير جريمة سنوات طويلة لا يعرضون فيها على قضاء شرعي عادل يحفظ حقوقهم وكراماتهم ,و يغفلون عن تعذيب الناس داخل السجون والمعتقلات, ولم نجد أحداً من علماء السلاطين كهيئات كبار العلماء والمفتين من أنكر هذه الأشياء المنكرة والمحرمة , وهذا يدل دلالة ظاهرة على أنهم يرون أن الحاكم ومؤسساته القمعية معصومين لا يمكن أن يخطئون,كما أنهم ممن لايسألون عما يفعلون, ويغفلون عن أن هذه من صفات فرعون في بني إسرائيل (يقتل أبنائهم ويستحيي نسائهم ) ويغفلون وجوب الانتخابات(الشورى) وأخذ رأي الشعوب في أمورهم المصيرية , والذي أوجبه الله تعالى في قوله ( وشاورهم في الأمر) , ويغفلون اسندا الأمر إلى غير أهله والذي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه(إذا أوسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) ويغفلون أيضاً عن جعل الحاكم جميع المناصب القيادية في أيد فئة معينة أو أسرة محددة أو حزب بذاته مخالفين أمر الله عز وجل باختيار القوي الأمين - دون اعتبار لعائلته وقرابته من الحاكم أو بعده عنه - في قوله تعالى (إن خبر من استأجرت القوي الأمين ), ويغفلون عن إنكار سرقة المال العام والعبث بمقدرات الأمة , بل يعتبرون –جهلاً منهم أو خوفاً من قول الحق - المال العام مملوكاً ملكية خاصة للحاكم وأقاربه وأعوانه بخلاف ما دلت عليه نصوص الشريعة ومنها حديث ابن اللتبية حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه (هلا جلس في بيت أبيه أو أمه فلينظر هل يهدى إليه شي )ونسوا أن جميع ما يستأثر به الحاكم من أموال الأمة إنما هو غلول محرم ويعتبرون أن ما يبذله الحاكم من هذا المال العام في مصالح البلد إنما هو منحة أو مكرمة يتفضل بها على هذه الشعوب , وهذا الأمر بخصوصه لم أسمع أن أي عالم من علماء السلاطين من قال - ولو على سبيل الخطأ او في مجالسه الخاصة - أن هذا المال مال الله لعموم الأمة يجب على الحاكم العدل فيه وعدم الإسراف فيه وقصر منافعه على نفسه وأسرته وأنسابه وحزبه كما يعطي بقية الشعب بل تجد علماء السلاطين يبذلون جهدهم في إقناع الشعوب أن هذا المال(المال العام ) خاص بالحاكم لا يجوز لأحد منازعته عليه , وان ما يبذله إنما هي أعطيات يتكرم بها على شعبه. وقد نسي أو تناسى النصوص الشرعية من القرآن والسنة التي بينت وجوب تحرز الحاكم فيه و أن الحاكم كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعامل مع هذا المال تعامل ولي اليتيم مع مال اليتيم إن احتاج أكل منه بالمعروف وإلا فإنه يجب عليه التعفف عنه ويحرم عليه أن يأكل منه أو يتعدى عليه.
كما يغفلون أيضاً عن منكر احتكار السلع التي يحتاج إليها الناس أو منح الامتيازات لصالح فئة أو فرد من أسرة الحاكم أو من أنسابه لان هذا منكر يجب إنكاره ,و غفلوا عن أن دفع الرشوة وقبولها والتوسط فيها أو إقرارها منكر عظيم لقول الله تعالى (و لاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وانتم تعلمون ) البقرة(188), كما تغافلوا عن أن تملقهم للحكام بالسكوت عن الباطل وإقرارهم به هو بذاته منكر عظيم خطره على الأمة أعظم من خطر جميع منكرات الإفراد لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (الساكت عن الحق شيطان أخرس ),وذلك لأنهم لا يكتفون بالسكوت عن الحق وعدم الجهر به , بل يسوغون الباطل ويفتون الناس بوجوب القبول به وهكذا نجد مسمى المنكرات يتسع ليشمل كثيرًا مما يعده الناس داخلاً في السياسة وهي ما يحرم -بعض موظفي السلاطين من علماء- على الناس الحديث فيها.
ولو كانت المنكرات التي يجب على الناس إنكارها وبيان حرمتها ستقتصر على منكرات الأفراد فقط فإن الحاكم سيسارع إلى ذلك لأنه لن يضيره إيجاد جهات معينة أو مؤسسات خاصة بإنكار منكرات الإفراد تهتم بإقفال المحلات عند الأذان وتنكر الاختلاط بالأسواق وتتابع مصانع الخمور الصغار حتى لا تنافس الموردين الكبار, بل وسيدعمها بالمال والسيارات والأدوات وغيرها مما تحتاج إليه ,ولكنه ليس لديه أي استعداد للإذن-فضلاً عن الدعم - بإيجاد مؤسسات تعنى بمراقبة أدائه وأداء حكومته أو إنكار المنكرات الصادرة منه كالنقابات المهنية و الجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني وغيرها.
فهل يسع المسلم الشحيح بدينه الحريص على مرضاة ربه وإتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم إذا كان من العامة فضلاً عن العلماء والمتعلمين أن يقف صامتًا عن إنكار هذه المنكرات فضلاً عن تسويغها وتدجين الناس للقبول بها ؟ وهل تبرأ ذمته عند الله إذا أنسحب من الميدان هاربًا من أمام هذه المنكرات وغيرها خوفا من بطش السلطان أو طمعًا فيما عنده من أ موال أو إيثارًا للسلامة على إبراء الذمة وإقامة الحجة ؟.
إن مثل هذه الروح الانهزامية, في ترك إنكار المنكرات السياسية الصادرة من الحكام وأعوانهم, وأقاربهم وأصهارهم , والهمة المتخورة الدنية , والذلة المستكينة إن شاعت في الأمة فقد انتهت رسالتها وحكم عليها بالفناء لأنها أصبحت أمة أخرى غير الأمة التي ارتضاها الله لحمل خاتم رسالاته والتي وصفها الله تعالى بقوله:.
(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). (آل عمران 110).
ولذلك فإنه لا يمكن لأحد بعد ذلك أن يتعجب حينما يسمع إنذار النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في مثل هذا الموقف في قوله في حديث عبد الله بن عمرو كما جاء عند الإمام أحمد بن حنبل في مسنده : (إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم فقد تودع منهم) وهذا إثبات لان من كان كذلك فقد تودع منه حيث أصبح غير مؤهل للحياة الحقيقية .
إن المؤمن - بمقتضى إيمانه - مطالب ألا يقف موقف المتفرج على المنكر أيا كان نوعه: سواء كان منكراً سياسيًا أو اقتصاديًا أو ثقافيًا أو اجتماعيًا أو بيئياً أو غيرها . بل يجب عليه أن يقاومه بإنكاره والعمل على تغييره بالطرق الشرعية الثابتة بالحديث الصحيح وهي اليد إن استطاع , وإلا فباللسان والبيان الواضح الصريح في بيان إنكاره ,فإن عجز عن التغيير باللسان انتقل إلى أخر المراتب وأضعفها وهي التغيير بالقلب وهي التي ورد فيها نص الحديث أنها : (أضعف الإيمان).
وقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم الرفض القلبي لهذا المنكر تغييرًا بالقلب لأن فيه معنى التعبئة النفسية والشعورية ضد المنكر وأهله والعاملين به وحماته ,وهذه التعبئة النفسية والشعورية ليست أمرًا سلبيًا(عدمياً) محضًا كما قد يتوهم البعض لأنها لو كانت كذلك ما عدها الحديث على أنها" "تغييرًا" للمنكر.
بل إن هذه التعبئة النفسية والشعورية المستمرة للأنفس والمشاعر والضمائر تعتبر عملاً ايجابياً لأنه لا بد لها أن تتنفس يومًا ما في عمل إيجابي يساعد على إنكار المنكر بإحدى الوسيلتين السابقتين(اليد أو اللسان) وذلك حتى لا يقع الانفجارً الذي لا يبقي ولا يذر , لان توالي الضغط بدون طرق شرعية لتصريفه لا بد أن يولد الانفجار وتلك سنة الله في خلقه, ولا يجوز أن يحصل من هذه المرتبة من مراتب الإنكار خلاف ما شرع من أجله من استمراء المنكرات واعتيادها ومن ثم الرضا بها وعدم الإحساس بجرم مرتكبها
و يجب على هؤلاء العلماء المتقاعسين عن إنكار المنكرات السلطانية أن يعلموا إن إنكار المنكرات يعتبر جهادا يثاب الإنسان عليه وبالتالي فإنه يأخذ حكم الجهاد في كل شي فإذا كثرت المنكرات وكان من انبرى لإنكارها لا يكفون لذلك فإن إنكارها يكون واجباً على الجميع . وان قام به من يكفي لذلك كان الإنكار في حقه مسنون وذلك لما روى مسلم في صححيه عن ابن مسعود رضي الله عنه - مرفوعًا - : (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل). فهنا سمى النبي صلى الله عليه وسلم إنكار المنكر جهاداً مما يدل على أهميته ووجوب بذل الجهد والاستطاعة في ذلك.
]
وإذا علم الإنسان من نفسه عدم القدرة على الإنكار بمفرده فإنه ينبغي له أن يلجأ إلى ما يمكن أن نسميه بجماعية الإنكار وهي ما يمكن أحياناً العمل به حينما يعجز الفرد وحده عن مقاومة المنكر ولا يستطيعه بمفرده وخصوصًا إذا زاد شراره واشتد أواره وقوي فاعلوه وتمكن مقترفوه, أو كان المنكر من قبل السلاطين والأمراء الذين يفترض فيهم أن يكونوا هم أول الناهين عنه والمحاربين له , لا ممارسيه وحراس مقترفيه كما قال الشاعر:.
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا كان الرعاة لها ذئاب؟
وهنا يكون تعاون الجميع على إنكار المنكر وتغييره واجبًا على جميع القادرين عليه لأنه تعاون على البر والتقوى وقد أمر الله بذلك في قول الله تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) ويكون هذا الإنكار الجماعي - عملاً عن طريق الجمعيات المتخصصة في ذلك أو عن طريق النقابات المهنية أو عن طريق الأحزاب السياسية وغيرها من القنوات الشرعية المتاحة - فريضة أوجبها الدين كما أنه ضرورة يحتمها الواقع. وقد ذكرت ذلك في مقال آخر بعنوان جمعيات إنكار المنكر هي الحل
أخت الخطباء
تعديل التعليق