المنعرج الخطير في الثورات العربية

أبو عبد الرحمن
1432/04/21 - 2011/03/26 19:55PM
المنعرج الخطير في الثورات العربية




لا يختلف اثنان على أن الثورات الشعبية العربية التي انطلقت من تونس جاءت لتلبي رغبة كامنة في نفوس وقلوب الكثيرين من محبي الحرية المتعطشين لتنفس نسيمها المغيب على طول البلاد العربية على اختلاف أسماء وصفات حكام دولها.

لذلك لم يكن مبرراً أن يتخلف أي منصف عن ركب دعم هذه الثورات؛ فهب الجميع هبة رجل واحد انتصاراً لحق الشعوب في اختيار من يحكمها، وهذا ما جعلنا نقف منذ البداية مع الثورات العربية في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، تماماً كما سوف نساند الثورات القادمة في بقية الأقطار العربية التي ترزح تحت وطأة الديكتاتورية والاستبداد بمسميات كثيرة ويافطات شتى.

انحراف المسار..
غير أن تلك الثورات التي ولدت من رحم الظلم والبؤس مسلحة بإرادة شعبية صادقة، وخرجت إلى الوجود لتجسد على الأرض هذه الإرادة الراسخة في عقول وقلوب المؤمنين بانبلاج فجر الحرية مبشراً بنهاية عهد الصمت المذل إلى الأبد، باتت اليوم (أي تلك الثورات) عرضة لتهديد خارجي داهم لا يقل خطراً عن ما تحيكه ـ داخلياً ـ الأنظمة الديكتاتورية نفسها من خطط لوأد الثورة في مهدها قبل أن تجتاح بقية الدول العربية واحدة تلو الأخرى.

هذا الخطر الداهم الجديد يتمثل في محاولة دول غربية ـ بتواطؤ وتعاون مباشر مع أنظمة عربية ذات باع ٍ طويل في الاستبداد والديكتاتورية ـ أن تستبق الثورات الشعبية المنتظرة في الدول العربية ذات الموقع الاستراتيجي الكبير في الخريطة السياسية الدولية، بإشعال فتيل ثورات بديلة "كاذبة خاطئة" لا تؤدي في النهاية إلى الوصول إلى ما تبتغيه الشعوب العربية من ديمقراطية وحرية وتحكم في مصيرها واختيار من يحكمها مثلما تسعى إلى ذلك الثورات العربية الصحيحة، بل تؤول ـ بحكم سياقها المنحرف وطريقها المنعرج خطأ عن جادة الصواب ـ إلى مآلٍ أليمٍ كفيلٍ بتحويل أحلام وطموح طلاب الديمقراطية إلى كوابيس حقيقية؛ حين ينتهي الأمر بدخول الشعوب العربية في حروب أهلية وطائفية لا ينجلي غبارها، تجعل تلك الشعوب تنشغل بويلاتها وتتآكل قواها بينياً في حرب استنزاف دامية كفيلة بشغل العرب والمسلمين ردحاً زمنياً طويلاً عن أبرز قضاياهم المصيرية، في وقت سيجد أعداؤهم حيزاً زمنياً كافياً لوضع ما يلزم من مخططات وبرامج للإجهاز على ما بقي من مدخرات الأمة قوة وصموداً.

وتم تسخير آلة إعلامية قوية، استخدمت خلالها ـ طوعاً أو كرهاً ـ وسائل إعلام ذات مصداقية عربياً، لينظر إلى هذه الثورات البديلة التي تدعمها وتحركها وتديرها أطراف غربية وأخرى عربية رسمية على أنها ثورات شعبية تنادي بالحرية على الطريقة المصرية التونسية، في حين أنها ليست سوى بذرة خبيثة لإطلاق شرارة عنف مستمر لا يمكن التحكم في زمامه ولا السيطرة على سريان دمه، ليحتم بعد حين تدخلاً أجنبياً تحت مظلة دولية، يُـنادَى به ويُـطلب بذريعة حماية المدنيين وجلب الديمقراطية للشعوب "الثائرة".

ولعل الناظر إلى الثورات التي أعقبت ثورتي تونس ومصر في الدول العربية ـ باستثناء اليمن ربما ـ يرى أن كلاً منها بدت مسلحة من البداية مفضلاً أصحابها "صدفة" استخدام القوة في "الثورة" بدل الاحتجاج السلمي بحجة أن القمع الذي يتعرض له "الثوار" هو الذي يفرض هذا التسلح المتسرع، وهذا ما حدث في ليبيا ويحدث منذ يومين في سوريا مثالاً لا حصراً.

ومن البديهي أن هذه الحجة التي يتم الترويج لها لتبرير تسلح الثورات حجة واهية لا تنطلي على أحد؛ إذ ْ أن القمع الشديد ليس مبرراً كافياً للجوء "الثوار" إلى استخدام قوة يعتبر ميزانها محسوماً مسبقاً لصالح الأنظمة، بل إن مجرد تسلح الثوار يمنح تلك الأجهزة القمعية أفضل هدية تتمناها لتبرير الإفراط والمبالغة في استخدام القوة قمعاً للمتظاهرين.

وهنا يجدر بنا أن نتساءل: ألم تكن الثورة في تونس ومصر عرضة لأشد وأقوى أنواع القمع والتنكيل والبطش؟ ومع ذلك لم يقع ثوار تونس ومصر في فخ التسلح والعنف والإفساد في الأرض، بل صبر الثوار وصمدوا وأظهروا بطولات نادرة في الشجاعة مواجهين بصدور عارية وقلوب مؤمنة آلة القمع رصاصاً حياً وبلطجية ً ساقطة ً وقتلاً عشوائياً واعتقالاً انتقائياً، دون أن ينال ذلك القمع من عزيمتهم أو تدفعهم ناره المستعرة لهيباً وتسلطاً إلى أن يبدلوا من طريقتهم السلمية في الثورة والتي كانت بحق السر الحقيقي في تحقيق النصر وهزيمة القمعيين أخيراً، ذلك أن ميزان القوة لا يمكن أن ترجح كفته للثوار إلا حين تكون قوتهم الأولى تكمن في "سلمية ثورتهم"، أما حين يخالفون إلى ما ينهون عنه من استخدام السلاح نفسه الذي يستخدمه النظام، فميزان القوة سيرجح بالضرورة عندها لصالح كفة النظام ما دام أنه صاحب اليد الطولى في استخدام القوة والتنكيل بالبشر والعبث بأرواحهم.

الاحتلال بدل التحرير..
يقوم المخطط الجديد على فكرة استباق اندلاع ثورات شعبية سلمية حقيقية في الدول العربية مخافة أن تؤدي تلك الثورات إلى تغيير النظام العربي بأكمله واستبداله بنظام يعبر عن نبض الشارع العربي المناهض بعمومه للاستعمار الأجنبي بنوعيه؛ السافر المباشر كما في فلسطين والجولان والعراق مثلاً، والمبطن غير المباشر كما في دول الخليج العربي وبعض البلدان العربية الأخرى.

ويتضح من الطريقة التي عمد إليها أصحاب هذا المخطط الذين هم رجال الغرب وبعض رجال العرب أن الخطة تقوم على أساس دعم ومساندة تسليح الثورات ودفعها رغماً عنها إلى الظهور بطابع استخدام العنف بدل الظهور بالطابع السلمي الذي يعد أحد أقوى أسباب نجاح الثورة وانتصارها.

وقد لا تكون لداعمي هذا الانحراف بالثورة أيادٍ مباشرة على الأرض منذ البدء لإطلاق شرارة مثل هذه الثورات المسلحة، لكن ما إن تنطلق هذه الثورات أو توجد مؤشرات على انطلاقها بوجهها الأصلي السلمي حتى تتواجد بسرعة بالغة تلك الأيادي الممتدة إلى جميع الدول المرشحة للثورة، لكي تصرفها عن طابعها السلمي الضامن لنصرها منعرجة بها نحو الطريق الخطأ لتحقيق مآرب مختلفة قد تعني أي شيء باستثناء أن تعني مصلحة الشعوب الثائرة.

ومع اندلاع العنف وصعوبة التحكم في مساره، ووسط جذوة حب الانتقام من الأنظمة لما سوف تظهره من قمع وبطش وتنكيل بشعوبها ستظهر بالضرورة وتتزايد مع الوقت أصوات منطلقة من البلاد العربية تطالب بتدخل "دولي" لحماية "الثورة" ونصرة للقائمين بها في وجه الحكام الذين لا يتورعون عن استخدام العنف في قمع وقتل شعوبهم، وهنا سوف يهون على الكثيرين أن يسموا الاحتلال بغير اسمه ليصبح إنقاذاً وإنصافاً ودعماً لحق الشعوب في تحديد وتقرير مصيرها، وهنا تكون الخطة قد نجحت لأن العرب أنفسهم هذه المرة من يطلب "الاحتلال" لبلدانهم !

هذا ما تعلمه الغرب..
لقد خرجت الولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها الدول الغربية الاستعمارية جميعا باستخلاص دروسٍ بليغة من حربها على العراق وأفغانستان واحتلالها لهما، وخلصت إلى أن غياب أي دعم شعبي لتلك الحروب عربياً ربما كان من نتائجه تفاقم الخسائر الكبيرة التي تكبدها الاحتلال وتجرعت مرارتها قواته في كل من العراق وأفغانستان بسبب المقاومة الباسلة التي شارك فيها الكثير من أبناء الأمة من كل بلد عربي وإسلامي دون استثناء، فتعلمت الدول الغربية بعد ذلك أن عليها قبل أن تحتل بلداً عربياً آخر أن تهيئ الأرضية لذلك لتحظى بأقل قدر ممكن من الدعم الشعبي للمشروع الاستعماري المغلف بما يطيب ويلذ من صفات رنانة مثل "حماية المدنيين" و"عدم صبر المجتمع الدولي على قتل النظام لشعبه" وهي صفات يعلم العارفون جيدا بأهداف الغرب الكامنة وراء سياساته أنها ليست أكثر من مجرد ذر للرماد في العيون من أجل النفاذ إلى تحقيق مصالح امبريالية راسخة في عقول حكام الدول الغربية التي جبل قادتها المهووسون فطرياً بالنفط ومشتقاته على بذل الغالي والنفيس في سبيل الوصول إلى تلك "المصالح".

ولا تحتاج تلك المبررات والعبارات الرنانة لتسقط واهية ً سوى نظرة خاطفة إلى ما يجري في قطاع غزة من قتل لمدنيين عزل لا يبدو أن في قاموس مجلس "الأمن" و"المجتمع الدولي" من صفات يستحقونها عليهم سوى "الإرهابيين" وهم بالتالي غير جديرين بالحماية ولا يستحقون حتى استصدار قرار دولي يدين القتل الذي يوزع عليهم يمنة ويسرة بطائرات "إسرائيل" أمريكية الصنع!

والمفارقة المبكية المضحكة معاً أن وزراء الخارجية العرب الذين طالبوا مؤخرا بفرض حظر دولي على ليبيا، كانوا يدركون جيدا ما سيقود إليه من احتلال لهذا البلد العربي، لم يسجل لهم تاريخهم ـ المليء بالانبطاح والتلكؤ عن نصرة المستضعفين ـ أن ملكوا الجرأة والشجاعة يوما لحظة واحدة ليطالبوا بفرض حظر جوي على "إسرائيل" لحماية المدنيين في فلسطين ولبنان وسوريا من بطش طائراتها الحربية المعتدية!

أما والحالة هذه من ذوي القربى الذين يعد ظلمهم أشد مرارة من غيره، فلم يكن منتظراً من دول مثل فرنسا وبريطانيا وأمريكا سوى أن ترمي بكل ثقلها لاستصدار قرار من مجلس الأمن "يشرع" حربها غير البريئة على ليبيا بغطاء عربي رسمي غير مسبوق، تم بموازاته تسخير آلة إعلامية قوية لتلميعه عربياً حتى تجعله تدخلاً مقبولاً بل مطلوباً.

والمدهش أن الإعلام العربي بكافة فئاته يبدو كما لو كان جزءاً من المخطط؛ حيث يصرف النظر كلياً عن ضحايا القصف الأجنبي لليبيا وكأن أرواح الذين يستشهدون بفعل هذا القصف رخيصة لا تستحق الاعتناء.

وبينما تبطش الطائرات الحربية بالليبيين محولة أجسادهم إلى أشلاء متناثرة أو رماد تذروه الرياح، تركز معظم القنوات العربية على بث تصريحات ومؤتمرات صحفية سخيفة أبطالها ليسوا سوى المسؤولين الذين يدافعون على الدوام عن جرائم "إسرائيل" ويرتكبون جرائم مماثلة لها في ليبيا "حماية للمدنيين".

وهكذا يستمر القتل في ليبيا بفعل الحرب الأهلية على الأرض تارة، وبفعل نيران الاحتلال القادمة من الجو طوراً، بينما يحاول الإعلام العربي جاهداً تغييب الصورة الحقيقية عن المشاهد بتجنب بث صور الضحايا المدنيين، مركزاً على تصفية حسابات قديمة ـ حديثة مع النظام الليبي مبرزاً سوءاته ومتستراً في الوقت ذاته على سوءات الاحتلال الذي يلتمس له أحسن المخارج بكونه "يشن حرباً ضد قوات القذافي الظالمة وحدها"، في حين لا يظهر في الواقع سوى ما يدفعه المدنيون من ثمن باهظ في أرواحهم وممتلكاتهم، وسط تعتيم كامل على الجريمة من قبل وسائل الإعلام العربية والدولية !

ولعلها المرة الأولى في تاريخ العرب التي يتم فيها اعتداء سافر على شعب عربي من طرف دول غربية دون أن تخرج الجماهير منددة ومستنكرة من أمة عرفت على الدوام بانتصارها للمظلوم وتعاطفها معه، وهذا إنما يدل للأسف على نجاح هذه الحملة الإعلامية الشرسة للترويج لهذه الحرب التي لن يكون مآلها سوى إلى قتل مزيد من المدنيين واحتلال بلد عربي آخر بشكل مباشر، أو تنصيب نظام مطيع ينفذ على الأرض سياسات الغرب؛ مؤتمِراً بأوامره، ومنتهياً عند نواهيه.

.. وذا ما تعلمه العرب !
رغم أن مآل الحربيْن اللتيْن شنتهما الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها ظلما وعدواناً على العراق وأفغانستان لم يكن سوى حصد أرواح ملايين البشر في البلدين وتيتيم ملايين الأطفال، دون أن ينعم الشعبان بالأمن ولا بالديمقراطية، لا يبدو أن الحكام العرب أحسنوا استخلاص الدروس من تجربة احتلال الغرب لدولهم، ولعل الدرس الوحيد الذي تعلمه الحكام العرب هو قدرة الغرب على احتلال بلدانهم متى ما أرادوا ذلك، فطفقوا يتسابقون إلى الولاء للغرب خوفاً وطمعاً مهما كلفهم ذلك من تخلٍ عن مزيد من واجباتهم تجاه أمتهم، غير آبهين بالمصير الأليم الذي يقودون إليه أوطانهم.

ويدل تورط دول الخليج العربي تحديداً على دعم التدخل الأجنبي في ليبيا ودعمه المنتظر في سوريا وربما السودان لاحقا، على بعد الثورات "الموجهة" بطابعها المسلح عن تحقيق الأهداف التي تسعى إليها الشعوب العربية في هذه الدول، فالأمر البديهي أن دولا مثل دول الخليج التي ما فتئت تبحث عن سبل دعم كل من نظام مبارك وبن علي في آخر أيامهما من أجل الإبقاء عليهما في الحكم ولا تتوانى حالياً عن دعم النظام في البحرين ضد الثائرين سلمياً عليه، لا يمكن أن يتأتى منها أن تدعم بهذا السخاء والحماس ثورة شعبية صادقة تقود إلى تحقيق ديمقراطية حقيقية، لذلك يبقى تحالف دول الخليج بأنظمتها المستبدة مع الدول الغربية، ودعمها مشروع التدخل الأجنبي في ليبيا وسوريا أمراً مريباً ومحيراً ومنذراً ربما بوجود أهداف متفق عليها مع دول غربية بعينها لوأد مشروع الثورات العربية السلمية التي كانت ستعصف بمعظم الأنظمة العربية الديكتاتورية بما فيها الأنظمة الخليجية نفسها التي تعتقد خطأ ً أنها في منأى عن خطر الثورات كلما قدمت "قرباناً" جديداً إلى الدول الغربية.

ولئن كانت الفطرة السلمية تدعو إلى الإقرار بفساد جميع الأنظمة العربية دون استثناء، وتقتضي بالتالي الوقوف المعلن في صف أي حراك يساعد على إسقاط هذه الأنظمة المحنطة، فإن واجب الحرص على هذه الأمة يفرض كذلك ضرورة الانتباه لما يحاك لها من مؤامرات داخلياً وخارجياً وما يدس داخل ثوراتها من دسائس تهدف إلى إجهاض أي مشروع وطني صادق للتغيير، وبالتالي فلا يجب أن تعمينا رغباتنا المشروعة في الإصلاح والديمقراطية إلى الوقوع في منزلقات خطيرة تؤول بنا إلى العودة سنوات إلى الخلف حين نجد أنفسنا فجأة نرزح مجددا تحت وطأة الاحتلال في ثوبه الجديد.

وعلى الغيورين من أبناء هذه الأمة على صالحها أن يعوا هذا الخطر ويصححوا المسار ويعيدوه إلى طريقه القويم قبل أن تفوت الفرصة ويتباكوا على ضياعها حين "لات ساعة ندم"!


[URL="http://http://www.alakhbar.info/16407-0--F-FCC-F0--FBC.html"]المصدر[/URL]
المشاهدات 1728 | التعليقات 1

حاولت الاقتناع ولم أستطع