المنح في المحن .. عن التفاؤل في ظل الأزمات
عبدالله اليابس
1437/07/21 - 2016/04/28 16:50PM
المنح في المحن الجمعة 22/7/1437هـ
الحمد لله شهدت بوجوده آياته الباهرة, ودلت على كرم جوده نعمه الباطنة والظاهرة، وسبحت بحمده الأفلاك الدائرة، والرياح السائرة، والسحب الماطرة، هو الأول فله الخلق والأمر، والآخر فإليه الرجوع يوم الحشر، هو الظاهر فله الحكم والقهر، وهو الباطن فله السر والجهر.
وأشهد أن لا اله إلا الله, وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد, وهو على كل شيء قدير.
يا فَاطِرَ الخَلْقِ البَدِيْعِ وكَافِلاً ... رِزْقَ الجَمِيْعِ سَحَابُ جُوْدِكَ هَاطِلُ
يا مُسْبغَ البرِّ الجَزِيْلِ ومُسَبِلَ الـ ... سِّتْرِ الجَمِيْلِ عَمِيْمُ طَوْلِكَ طَائِلُ
يا عَالِمَ السِّرِ الخَفِيّ ومُنْجِزَ الْـ ... وَعْدِ الوَفِيّ قَضَاءُ حُكْمِكَ عَادِلُ
عَظُمَتْ صِفَاتُكِ يَا عَظِيْمُ فَجَلَّ أَنْ... يُحْصِي الثَّنَاءَ عَلَيْكَ فِيْهَا قَائِلُ
وأشهد أن محمدً عبده ورسوله, وصفيه من خلقه وخليله:
بأبي وأمي أنت يا خير الورى *** وصلاةُ ربي والسلامُ معطرا
يا خاتمَ الرُّسْلِ الكرامِ محمدٌ *** بالوحي والقرآن كنتَ مطهرا
لك يا رسول الله صدقُ محبةٍ *** وبفيضها شهِد اللسانُ وعبّرا
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. الإنسان يتكون من جسد وروح, من لحم ودم ومشاعر, يتأثر بما حوله, يفرح ويحزن, ويضيق صدره, وتنفرج أساريره, تأثرًا بما حوله من أحداث خاصة أو عامة.
تصيب المشاكلُ الناسَ.. كل الناس, وتعترض طريقهم الوقائعُ والحوادث, ويُكدِّرُ صفو حياتهم ما يسمعونه من أخبار سيئة .. خاصة كانت تلك الأخبارُ أو عامةً لعموم الأمة, فلا يوجد أحد سليم الحال دومًا, وإنما أسهم الحياة في صعود وهبوط, فالمشاكل والمعوقات والأحداث والأخبار السيئة تأتي لا محالة, يتساوى الناس فيها, لكن الاختلاف بينهم يكمن في كيفية التعامل معها.
فهناك من ينظر إليها نظرة سوداوية سلبية, ينظر للجوانب السيئة فيها, يندب حظه, وينشغل في الشكوى والحزن والألم, وإذا كانت المصيبة عامة لعموم الأمة أشغل نفسه بمتابعة أخبارها, وقراءة التحليلات حيال هذه المشكلة, وأسبابها, والدوافع التي أدت إليها, ثم يستغرقُ أكثر بقراءة النظرة المستقبلية المخيفة لهذه الأحداث, فيستغرقه الحزن والأسى حتى ييأسَ ويقنطَ من رحمة الله تعالى.
ومن الناس من يأسى لهذه المصائب أو الأحداث, لكن هذا الأسى يدفعه دفعًا للخروج بحل للمصيبة, أو المشاركة في حلها, فلا يقفُ مكتوف اليد, وإنما يبادر ويسابق ويتفاءل, فينظر للجوانب الإيجابية من المشكلة, ويبحث في ثناياها عن الحلول التي يمكنه فعلها, يحدوه الأمل والفأل.
لا تيأسنّ من انفراجِ شديدةٍ *** قد تنجلي الغمراتُ وهي شدائد
تمتلئ قلوب كثير من الناس اليوم حسرة على واقع المسلمين, فالأمم كلها قد تكالبت على حربهم, وتداعت عليهم كما جاء في الحديث: (يُوشِكُ أنَّ الأممَ تداعَى عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها, قال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ ومن قِلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم كثيرٌ, ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ, ولينزعِنَّ اللهُ من صدورِهم المهابةَ منكم, وليقذفنَّ في قلوبِكم الوهَنَ, قال قائل: يا رسولَ اللهِ وما الوهَنُ؟ قال: حبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ).
أصيب الكثير بالإحباط واليأس, واستسلموا لهذا اليأس وتملَّكَهم, لكن اليأس والأسى ينبغي أن لا يعرف لقلوب المسلمين طريقًا.
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم, سيد المتفاءلين, لما كان في مكة يؤذى ويضيق عليه: كان ينشر الفأل بين صحابته رضوان الله تعالى عليهم, في قمة دواعي الأسى والإحباط, يبشرهم ويحذرهم من الحُزن واليأس.
روى البخاري في صحيحه عن خباب بن الأرتِّ رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة قلنا له: ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا ؟ قال: (كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فُيجعل فيها, فيُجاءُ بالمنشار فيوضعُ على رأسه, فيُشق باثنتين, وما يَصُدُّه ذلك عن دينه, ويُمشَطُ بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصدُّه ذلك عن دينه، والله لَيُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون).
وفي غزوة الخندق, وقد تحزب الأحزاب وتنادوا للانقضاض على المدينة, يريدون أن يستأصلوا شأفة المسلمين عن بكرة أبيهم, ويستعد لذلك المسلمون بحفر الخندق, حالهم خوف وجوع, وتحصل هذه القصة العجيبة .. التي يمتزج فيها إيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفأل والتفاؤل:
عن البراءِ بنِ عازبٍ الأنصاريِّ رضي الله عنه قال: لما كان حين أَمَرَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بحفرِ الخندقِ عَرض لنا في بعضِ الخندقِ صخرةٌ عظيمةٌ شديدةٌ لا تأخذ فيها المَعاوِلُ, فشكوا ذلك إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ, فلما رآها أخذ المِعولَ وقال: بسم اللهِ, وضرب ضربة ًفكَسَر ثُلُثَها وقال: اللهُ أكبرُ أُعطيتُ مفاتيح الشامِ, واللهِ إني لَأبصرُ قصورَها الحُمْرَ إن شاء اللهُ, ثم ضرب الثانيةَ فقطع ثُلثًا آخرَ, فقال: الله أكبرُ أُعطِيتُ مفاتيحَ فارسٍ, واللهِ إني لَأُبصِرُ قصرَ المدائنِ الأبيضَ, ثم ضرب الثالثةَ فقال: بسم اللهِ, فقطع بقيَّةَ الحَجَرِ فقال: الله أكبرُ أُعطيتُ مفاتيحَ اليمنِ, واللهِ إني لَأُبصِرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني الساعةَ.
ولذلك قال أبو هريرة وعائشة رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل.
قال الحَليمي رحمه الله تعالى: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل, لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق, والتفاؤل حسن ظن به, والمؤمن مأمور بحسن الظم بالله تعالى على كل حال".
أيها الإخوة.. إذا ضاقت الأرض, واشتدت المصيبة, فهي إيذان بالفرج بإذن الله.
{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} ويقول تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا}, ولما أوصى يعقوب عليه السلام أبناءه قال:{وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} فأملوا خيراً و{لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}.
إذا اشتملت على اليأس القلوبُ *** وضاقَ بما به الصدرُ الرحيبُ
وأوطئت المكاره واطمأنت *** وأرستْ في مكامنها الخطوب ُ
ولم يَر لانكشاف الضر وجهاً *** ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوطٍ منك غوثٌ *** يمنُّ به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت *** فمقرونٌ بها فرج قريب
الآلام محاضن الآمال, والمِحَنُ في طياتها المِنَح.{ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}
إذا استولى عليك هم وحزن, وحزنت لانتفاش الباطل, وغربة الحق, فتذكر أنك على الحق المبين, وتذكر أن الله تعالى غالب على أمره {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
لقد بشر الله تعالى خلقه بالنصر والتمكين والفرج, {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}.
ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}.
فأملوا وأبشروا وتفاءلوا واستغفروا ربكم لعلكم ترحمون.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ وراقبوه في السر والنجوى, واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى .
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. إذا كان الفأل من الدِّين كما تقدم, فإن هذا الفأل لا ينصر به الإسلام.. إذا لم يقترن به العمل لذلك.
ينبغي أن يكون التفاؤل دافعًا للعمل لدين الله تبارك وتعالى, والسعي لنشر رسالة الإسلام, ومجابهة الباطل وانتفاشه, لينقلب خاسئًا وهو حسير.
في كل مصيبة تصيب المسلمين, وكل نازلة تنزل, اطرح على نفسك السؤال التالي: كيف يمكن استغلال هذه النازلة لنصرة الإسلام.
قبل أن تنزل النوازل احرص على البناء, فكر واطرح المبادرات, وأحيي هذا الفكر في المجالس, فإن معالجة الأخطاء بعد تمام البناء أصعب من إيجاد حل ووقاية لها قبل البناء.
إذا رأيت تنافس أهل الباطل للعمل لباطلهم, فلا تبتئس بما كانوا يفعلون, ولا تشكِ غربة الإسلام وتقعد, بل اقصد ميدان العمل لهذا الدين, وزاحم أهل الباطل, وسابقهم إلى المجالات التي قصدوها بتحويلها إلى مجالات تخدم شرع الله.. فهذا الذي ينفع.
( بشِّروا ولا تُنفِّروا . ويَسِّروا ولا تُعسِّروا ) .
إن هذا الدين منصور بإذن الله, روى تميم الداري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ اللَّيلُ والنَّهارُ، ولا يتركُ اللهُ بيتَ مدَرٍ ولا وبَرٍ إلَّا أدخلَهُ اللهُ هذا الدِّينَ، بعِزِّ عزيزٍ، أو بذلِّ ذليلٍ، عزًّا يعزُّ اللهُ به الإسلامَ ، وذلًّا يذِلُّ اللهُ به الكفرَ).
إن لسؤال الذي ينبغي أن نطرحه على أنفسنا عند كل نازلة تمس الدين أو الأخلاق أو غير ذلك: كيف بإمكاني أن أستثمر هذه الفرصة وأقتنصها لخدمة الدين؟
ما هي الجوانب الإيجابية في هذه النازلة التي بإمكاني توظيفها لتنقلب إلى أمر إيجابي؟
إن سنة المدافعة بين الحق والباطل باقية إلى قيام الساعة, والحق في نهاية المطاف منصور ولا شك, لكن السؤال الأكبر: هل نحن ممن ساهم في هذا النصر؟
إن أول أمر ينبغي أن يفعله الإنسان لنصرة هذا الدين أن يبدأ بإصلاح نفسه, فيقلع عن المعاصي, ويقترب من الله, عبادة وتذللاً والتجاءاً وخضوعًا.
كيف يرجو إصلاح المجتمع وصلاح الأمة من هو عاجز عن إصلاح نفسه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
فابدأ من هذه اللحظة بإصلاح نفسك, واعقد العزم على ذلك, وتب إلى الله والتحق بركب الحق, {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
رغم الجراح ورغم أنّات الألمْ *** متفائلون.. وإن تجبّر من ظَلَمْ
رغم الدجى يكسو جوانبَ أفْقنا ***متفائلون.. بما يُزيح دُجى الظُلَم
رغم المصائب والكروب فإننا ***متفائلون.. بفجر يُسرٍ في القمم
لا نستكين ولا نلين لجرحنا *** أبداً ففينا روحُ دهرٍ من هِمَم
متفائلون بتوبةٍ مقبولةٍ *** تُنجي مطيّتنا لروضٍ من نِعَم
متفائلون بربِّنا .. متفائلو ***ن بصبرنا .. متفائلون بلا سأم
والله ما هلك الأنامُ إذا اتقوا *** قسمًا برب العرش يتبعه قسم
لنعمل أيها الأحبة جميعًا لنصرة هذا الدين, ولنزاحم أهل الفساد والمفسدين, ولنتذكر إذا تولينا عن نُصرة دين الله تعالى, {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
الحمد لله شهدت بوجوده آياته الباهرة, ودلت على كرم جوده نعمه الباطنة والظاهرة، وسبحت بحمده الأفلاك الدائرة، والرياح السائرة، والسحب الماطرة، هو الأول فله الخلق والأمر، والآخر فإليه الرجوع يوم الحشر، هو الظاهر فله الحكم والقهر، وهو الباطن فله السر والجهر.
وأشهد أن لا اله إلا الله, وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد, وهو على كل شيء قدير.
يا فَاطِرَ الخَلْقِ البَدِيْعِ وكَافِلاً ... رِزْقَ الجَمِيْعِ سَحَابُ جُوْدِكَ هَاطِلُ
يا مُسْبغَ البرِّ الجَزِيْلِ ومُسَبِلَ الـ ... سِّتْرِ الجَمِيْلِ عَمِيْمُ طَوْلِكَ طَائِلُ
يا عَالِمَ السِّرِ الخَفِيّ ومُنْجِزَ الْـ ... وَعْدِ الوَفِيّ قَضَاءُ حُكْمِكَ عَادِلُ
عَظُمَتْ صِفَاتُكِ يَا عَظِيْمُ فَجَلَّ أَنْ... يُحْصِي الثَّنَاءَ عَلَيْكَ فِيْهَا قَائِلُ
وأشهد أن محمدً عبده ورسوله, وصفيه من خلقه وخليله:
بأبي وأمي أنت يا خير الورى *** وصلاةُ ربي والسلامُ معطرا
يا خاتمَ الرُّسْلِ الكرامِ محمدٌ *** بالوحي والقرآن كنتَ مطهرا
لك يا رسول الله صدقُ محبةٍ *** وبفيضها شهِد اللسانُ وعبّرا
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. الإنسان يتكون من جسد وروح, من لحم ودم ومشاعر, يتأثر بما حوله, يفرح ويحزن, ويضيق صدره, وتنفرج أساريره, تأثرًا بما حوله من أحداث خاصة أو عامة.
تصيب المشاكلُ الناسَ.. كل الناس, وتعترض طريقهم الوقائعُ والحوادث, ويُكدِّرُ صفو حياتهم ما يسمعونه من أخبار سيئة .. خاصة كانت تلك الأخبارُ أو عامةً لعموم الأمة, فلا يوجد أحد سليم الحال دومًا, وإنما أسهم الحياة في صعود وهبوط, فالمشاكل والمعوقات والأحداث والأخبار السيئة تأتي لا محالة, يتساوى الناس فيها, لكن الاختلاف بينهم يكمن في كيفية التعامل معها.
فهناك من ينظر إليها نظرة سوداوية سلبية, ينظر للجوانب السيئة فيها, يندب حظه, وينشغل في الشكوى والحزن والألم, وإذا كانت المصيبة عامة لعموم الأمة أشغل نفسه بمتابعة أخبارها, وقراءة التحليلات حيال هذه المشكلة, وأسبابها, والدوافع التي أدت إليها, ثم يستغرقُ أكثر بقراءة النظرة المستقبلية المخيفة لهذه الأحداث, فيستغرقه الحزن والأسى حتى ييأسَ ويقنطَ من رحمة الله تعالى.
ومن الناس من يأسى لهذه المصائب أو الأحداث, لكن هذا الأسى يدفعه دفعًا للخروج بحل للمصيبة, أو المشاركة في حلها, فلا يقفُ مكتوف اليد, وإنما يبادر ويسابق ويتفاءل, فينظر للجوانب الإيجابية من المشكلة, ويبحث في ثناياها عن الحلول التي يمكنه فعلها, يحدوه الأمل والفأل.
لا تيأسنّ من انفراجِ شديدةٍ *** قد تنجلي الغمراتُ وهي شدائد
تمتلئ قلوب كثير من الناس اليوم حسرة على واقع المسلمين, فالأمم كلها قد تكالبت على حربهم, وتداعت عليهم كما جاء في الحديث: (يُوشِكُ أنَّ الأممَ تداعَى عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها, قال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ ومن قِلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم كثيرٌ, ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ, ولينزعِنَّ اللهُ من صدورِهم المهابةَ منكم, وليقذفنَّ في قلوبِكم الوهَنَ, قال قائل: يا رسولَ اللهِ وما الوهَنُ؟ قال: حبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ).
أصيب الكثير بالإحباط واليأس, واستسلموا لهذا اليأس وتملَّكَهم, لكن اليأس والأسى ينبغي أن لا يعرف لقلوب المسلمين طريقًا.
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم, سيد المتفاءلين, لما كان في مكة يؤذى ويضيق عليه: كان ينشر الفأل بين صحابته رضوان الله تعالى عليهم, في قمة دواعي الأسى والإحباط, يبشرهم ويحذرهم من الحُزن واليأس.
روى البخاري في صحيحه عن خباب بن الأرتِّ رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة قلنا له: ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا ؟ قال: (كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فُيجعل فيها, فيُجاءُ بالمنشار فيوضعُ على رأسه, فيُشق باثنتين, وما يَصُدُّه ذلك عن دينه, ويُمشَطُ بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصدُّه ذلك عن دينه، والله لَيُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون).
وفي غزوة الخندق, وقد تحزب الأحزاب وتنادوا للانقضاض على المدينة, يريدون أن يستأصلوا شأفة المسلمين عن بكرة أبيهم, ويستعد لذلك المسلمون بحفر الخندق, حالهم خوف وجوع, وتحصل هذه القصة العجيبة .. التي يمتزج فيها إيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفأل والتفاؤل:
عن البراءِ بنِ عازبٍ الأنصاريِّ رضي الله عنه قال: لما كان حين أَمَرَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بحفرِ الخندقِ عَرض لنا في بعضِ الخندقِ صخرةٌ عظيمةٌ شديدةٌ لا تأخذ فيها المَعاوِلُ, فشكوا ذلك إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ, فلما رآها أخذ المِعولَ وقال: بسم اللهِ, وضرب ضربة ًفكَسَر ثُلُثَها وقال: اللهُ أكبرُ أُعطيتُ مفاتيح الشامِ, واللهِ إني لَأبصرُ قصورَها الحُمْرَ إن شاء اللهُ, ثم ضرب الثانيةَ فقطع ثُلثًا آخرَ, فقال: الله أكبرُ أُعطِيتُ مفاتيحَ فارسٍ, واللهِ إني لَأُبصِرُ قصرَ المدائنِ الأبيضَ, ثم ضرب الثالثةَ فقال: بسم اللهِ, فقطع بقيَّةَ الحَجَرِ فقال: الله أكبرُ أُعطيتُ مفاتيحَ اليمنِ, واللهِ إني لَأُبصِرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني الساعةَ.
ولذلك قال أبو هريرة وعائشة رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل.
قال الحَليمي رحمه الله تعالى: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل, لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق, والتفاؤل حسن ظن به, والمؤمن مأمور بحسن الظم بالله تعالى على كل حال".
أيها الإخوة.. إذا ضاقت الأرض, واشتدت المصيبة, فهي إيذان بالفرج بإذن الله.
{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} ويقول تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا}, ولما أوصى يعقوب عليه السلام أبناءه قال:{وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} فأملوا خيراً و{لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}.
إذا اشتملت على اليأس القلوبُ *** وضاقَ بما به الصدرُ الرحيبُ
وأوطئت المكاره واطمأنت *** وأرستْ في مكامنها الخطوب ُ
ولم يَر لانكشاف الضر وجهاً *** ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوطٍ منك غوثٌ *** يمنُّ به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت *** فمقرونٌ بها فرج قريب
الآلام محاضن الآمال, والمِحَنُ في طياتها المِنَح.{ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}
إذا استولى عليك هم وحزن, وحزنت لانتفاش الباطل, وغربة الحق, فتذكر أنك على الحق المبين, وتذكر أن الله تعالى غالب على أمره {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
لقد بشر الله تعالى خلقه بالنصر والتمكين والفرج, {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}.
ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}.
فأملوا وأبشروا وتفاءلوا واستغفروا ربكم لعلكم ترحمون.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ وراقبوه في السر والنجوى, واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى .
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. إذا كان الفأل من الدِّين كما تقدم, فإن هذا الفأل لا ينصر به الإسلام.. إذا لم يقترن به العمل لذلك.
ينبغي أن يكون التفاؤل دافعًا للعمل لدين الله تبارك وتعالى, والسعي لنشر رسالة الإسلام, ومجابهة الباطل وانتفاشه, لينقلب خاسئًا وهو حسير.
في كل مصيبة تصيب المسلمين, وكل نازلة تنزل, اطرح على نفسك السؤال التالي: كيف يمكن استغلال هذه النازلة لنصرة الإسلام.
قبل أن تنزل النوازل احرص على البناء, فكر واطرح المبادرات, وأحيي هذا الفكر في المجالس, فإن معالجة الأخطاء بعد تمام البناء أصعب من إيجاد حل ووقاية لها قبل البناء.
إذا رأيت تنافس أهل الباطل للعمل لباطلهم, فلا تبتئس بما كانوا يفعلون, ولا تشكِ غربة الإسلام وتقعد, بل اقصد ميدان العمل لهذا الدين, وزاحم أهل الباطل, وسابقهم إلى المجالات التي قصدوها بتحويلها إلى مجالات تخدم شرع الله.. فهذا الذي ينفع.
( بشِّروا ولا تُنفِّروا . ويَسِّروا ولا تُعسِّروا ) .
إن هذا الدين منصور بإذن الله, روى تميم الداري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ اللَّيلُ والنَّهارُ، ولا يتركُ اللهُ بيتَ مدَرٍ ولا وبَرٍ إلَّا أدخلَهُ اللهُ هذا الدِّينَ، بعِزِّ عزيزٍ، أو بذلِّ ذليلٍ، عزًّا يعزُّ اللهُ به الإسلامَ ، وذلًّا يذِلُّ اللهُ به الكفرَ).
إن لسؤال الذي ينبغي أن نطرحه على أنفسنا عند كل نازلة تمس الدين أو الأخلاق أو غير ذلك: كيف بإمكاني أن أستثمر هذه الفرصة وأقتنصها لخدمة الدين؟
ما هي الجوانب الإيجابية في هذه النازلة التي بإمكاني توظيفها لتنقلب إلى أمر إيجابي؟
إن سنة المدافعة بين الحق والباطل باقية إلى قيام الساعة, والحق في نهاية المطاف منصور ولا شك, لكن السؤال الأكبر: هل نحن ممن ساهم في هذا النصر؟
إن أول أمر ينبغي أن يفعله الإنسان لنصرة هذا الدين أن يبدأ بإصلاح نفسه, فيقلع عن المعاصي, ويقترب من الله, عبادة وتذللاً والتجاءاً وخضوعًا.
كيف يرجو إصلاح المجتمع وصلاح الأمة من هو عاجز عن إصلاح نفسه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
فابدأ من هذه اللحظة بإصلاح نفسك, واعقد العزم على ذلك, وتب إلى الله والتحق بركب الحق, {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
رغم الجراح ورغم أنّات الألمْ *** متفائلون.. وإن تجبّر من ظَلَمْ
رغم الدجى يكسو جوانبَ أفْقنا ***متفائلون.. بما يُزيح دُجى الظُلَم
رغم المصائب والكروب فإننا ***متفائلون.. بفجر يُسرٍ في القمم
لا نستكين ولا نلين لجرحنا *** أبداً ففينا روحُ دهرٍ من هِمَم
متفائلون بتوبةٍ مقبولةٍ *** تُنجي مطيّتنا لروضٍ من نِعَم
متفائلون بربِّنا .. متفائلو ***ن بصبرنا .. متفائلون بلا سأم
والله ما هلك الأنامُ إذا اتقوا *** قسمًا برب العرش يتبعه قسم
لنعمل أيها الأحبة جميعًا لنصرة هذا الدين, ولنزاحم أهل الفساد والمفسدين, ولنتذكر إذا تولينا عن نُصرة دين الله تعالى, {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
التفاؤل بنصرة الإسلام 22-7-1437.docx
التفاؤل بنصرة الإسلام 22-7-1437.docx