المنة الكبرى

د. محمود بن أحمد الدوسري
1439/01/25 - 2017/10/15 13:00PM

المِنَّة الكبرى

د. محمود بن أحمد الدوسري

17/3/1438

     الحمد لله ... بِعثةُ النبي صلى الله عليه وسلم منةٌ كبرى ونعمةٌ عظمى امتنَّ بها وأنعم - ليس على المؤمنين فحسب - وإنما على البشرية بأسرها؛ إذ أرسل إليهم هذا النبيَّ الكريم صلى الله عليه وسلم؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور, وينقلهم من الضلال إلى الهدى, ويحوِّلهم من الكفر والشرك إلى الإيمان, وينقذهم من النار, ويدخلهم إلى الجنة, فاستحقَّ هذا الفضلُ وتلك النعمةُ أن يذكرها الله في كتابه ممتنًّا على المؤمنين بها, يتلونها إلى يوم القيامة في كتابه تبارك وتعالى بقوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [آل عمران: ١٦٤], ففي هذه الآية الكريمة تظهر المِنَّةُ الكبرى ببعثته صلى الله عليه وسلم, وهي شاهدة أيضاً على أنه رسول الله حقًّا.

      أيها الإخوة الكرام .. إنَّ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إحسانٌ إلى كلِّ العالَمين, قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: ٢٨], إلاَّ أنه لم ينتفع بهذا الإنعام إلاَّ أهل الإسلام، لذلك خصَّ الله تعالى بهذه المنة المؤمنين، ونظيره قوله تعالى – عن القرآن: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2], مع أنه هدًى للكل، كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ} [البقرة: ١٨٥](1).

      والآية الكريمة تضمنت عدة مِنَنٍ من الله تعالى ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم:

      فالمِنَّة الأُولى: أنَّ بِعثة النبيِّ صلى الله عليه وسلم مزيةٌ للعرب:

قال الله تعالى: {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (يعني: من أصلهم, ونَسَبِهم من العرب, يعرفون نَسَبَه, وقُرِئَ في الشَّاذ: {مِنْ أَنْفَسِهِمْ} بنصب الفاء, يعني: من أشرفِهم نسباً, ويقال: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} يعني: من جنسهم من بني آدم, ولم يجعلْه من الملائكة, وإنما خاطَبَ بذلك المؤمنين خاصة؛ لأنَّ المؤمنين هم الذين صدَّقوه, فكأنه منهم)(2).

       وهذا شرفٌ للعرب خاصَّة لا يُقاربهم فيه جِنسٌ آخَر من البشر, ورغم هذا, فقد امتنَّ الله على البشر أنْ جعله صلى الله عليه وسلم من جنسهم, فلم يجعلْه مَلَكاً, كما أنه لم يجعلْه جِنًّا, بل بشراً رسولاً إلى الثَّقلين الإنس والجن, ممَّا يُسهِّل لهم سُبلَ التواصل والتلقِّي, ويُعلي من شأن البشر جميعاً.

       (فكونه - صلى الله عليه وسلم - من أهلِ نَسَبِهم, أي: كونه عربياً يوجب أُنسهم به, والركون إليه, وعدم الاستيحاش منه، وكونه يتكلَّم بلسانهم يجعلهم سريعين إلى فهم ما يجيء به، وكونه جاراً لهم وربيباً فيهم يعجِّل لهم التصديق برسالته، إذ يكونون قد خبَروا أمرَه، وعلِموا فضلَه، وشاهدوا استقامتَه ومعجزاتِه)(3).

       معشر الفضلاء .. وخلاصة المِنَّة على العرب ببعثته صلى الله عليه وسلم عدَّة أمور:

       1- كونه معروفَ النَّسب فيهم.

       2- كونهم قد خَبَروا أمرَه, وعلِموا صِدقَه, وأمانته, وعِفَّته, وطهارته.

       3- ليسهل عليهم التَّعلُّم منه؛ لموافقة لسانه للسانهم.

       4- لأنَّ شَرَفَهم يتمُّ بظهور نبيٍّ منهم(4).

     5- كونه سببَ رُقيِّهم وانتقالِهم من درجةٍ وضِيعَةٍ في العالمين إلى درجة الرِّيادة والقيادة؛ ليكونوا خيرَ أُمَّة أُخرجت للناس, ويستمر هذا الوصف ملازماً لهم ولا ينفك عنهم, ولا ينتقل إلى غيرهم إلى قيام الساعة.

           أمَّا المِنَّة الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم يُعلِّمهم القرآن الكريم:

       وفي ذلك يقول الله تعالى: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} أي: يعرض عليهم القرآن الكريم, ويعلمهم ألفاظه ومعانيه بعد أن كانوا أهلَ جاهليةٍ لا يعرفون شيئاً من الشرائع, ولا عهد لهم بكتابة ولا قراءة.

(وسُمِّيت جُمَلُ القرآن آياتٍ؛ لأنَّ كلَّ واحدةٍ منها دليلٌ على صِدْقِ الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث بلاغةِ اللفظ, وكمال المعنى، فكانوا صالِحين لفَهْمِ ما يُتلى عليهم من غير حاجةٍ لترجمان)(5).

         والمِنَّة الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم يُزكِّهم:

       قال الله تعالى في هذه المِنَّة: {وَيُزَكِّيهِمْ} والتَّزكية: هي التطهير, أي: يدعوهم إلى ما يكونون به أزكياء, فيُطَهِّر نفوسَهم بهدي الإسلام, ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر؛ لتزكو نفوسهم, وتطهر من الدنس والخَبَث الذي كانوا مُتَلَبِّسين به في حال شركهم وجاهليتهم(6).

          المِنَّة الرابعة: يُعلِّمهم الكتاب والحكمة:

       قال الله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} أي: القرآنَ والسُّنَّة, بعدما كانوا أجهلَ الناس وأبعدَهم من دراسة العلوم(7).

       وقيل: المراد بالكتاب: الكتابة, فيكون قد امتن عليهم بتعليم الكتاب, والكتابة التي بها تدرك العلوم وتحفظ, والحكمة: هي: السنة التي هي شقيقة القرآن, ووضع الأشياء مواضعها, ومعرفة أسرار الشريعة, فجَمَعَ لهم بين تعليم الأحكام, وما به تنفيذ الأحكام, وما به تُدْرَك فوائدها وثمراتها, ففاقوا بهذه الأمور العظيمة جميعَ المخلوقين, وكانوا من العلماء الربانيين(8).

       وهنا نلحظ أن الله تعالى جعل الله سبحانه وتعالى لنبيِّه الكريم صلى الله عليه وسلم مزيَّة خاصة, وفضيلة لم يُشاركه فيها نبيٌّ أو رسول من قبل, وهي استقلاله بالتشريع عن الكتاب؛ من خلال السُّنة التي أجراها الله على لسانه, وأوحى إليه بها, تشريفاً وتكريماً له صلى الله عليه وسلم.

 الخطبة الثانية

       الحمد لله ... كانت البشرية - قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم - تعيش في مرحلة من أحطِّ مراحل التاريخ البشري, ولا سيما العرب منهم؛ ولذا خَتَم اللهُ تعالى الآية الكريمة بقوله: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} أي: كانوا قبل مجيء محمدٍ صلى الله عليه وسلم لفي خطأ بيِّن, لا شبهة فيه, والمقصود: أنهم كانوا في غيٍّ, وجهلٍ ظاهرٍ جلي, بيِّن لكلِّ أحد.

     والمراد به: ضلال الشرك, والجهالة, والتَّقاتل, وأحكام الجاهلية؛ لأنهم كانوا لا يعرفون الطريقَ المُوصِل إلى ربهم, ولا ما يُزكِّي النفوس ويُطهِّرها, بل ما يُزَيِّن لهم جهلُهم فعلوه, ولو ناقضَ ذلك عقولَ العالَمين(9).

       عباد الله .. ومن نماذج من الضَّلال المبين:

       ما جاء عن جعفر بن أبي طالبٍ رضي الله عنه – وهو بين يدي النجاشي ملك الحبشة - يصف شيئاً من هذا الضلال المبين؛ فقد ذَكَرَ سبعةَ نماذج من هذا الضلال المبين, فقال: (أَيُّهَا الْمَلِكُ! كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ, نَعْبُدُ الأَصْنَامَ, وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ, وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ, وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ, ونُسِيءُ الْجِوَارَ, يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ, فَكُنَّا على ذلك, حتى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا, نَعْرِفُ نَسَبَهُ, وَصِدْقَهُ, وَأَمَانَتَهُ, وَعَفَافَهُ, فَدَعَانَا إلى اللَّهِ؛ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ, وَنَخْلَعَ ما كُنَّا نَحْنُ نعبدُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ...) (10).

       وقريباً من ذلك الوصف ما خَطَبَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأنصار, فعن عبدِ اللَّهِ بنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قال: لَمَّا أَفَاءَ اللهُ على رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم يومَ حُنَيْنٍ, قَسَمَ في النَّاسِ في الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ, ولم يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيئًا, فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا, إِذْ لم يُصِبْهُمْ ما أَصَابَ الناسَ, فَخَطَبَهُمْ, فقال - وهو هذا الشاهد: (يا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ! أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً, فَهَدَاكُمْ اللهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ, فَأَلَّفَكُمْ اللهُ بِي؟ وكنتم عَالَةً, فَأَغْنَاكُمْ اللهُ بِي؟ كُلَّمَا قَالَ: شَيئًا, قالوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ...)(11).

       فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بنعمةِ الإيمان التي لا يوازيها شيءٌ من أمر الدنيا (أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً, فَهَدَاكُمْ اللهُ بِي؟), وثنَّى بنعمةِ الأُلفة, وهي أعظم من نعمةِ المال؛ لأنَّ الأموال تُبذل في تحصيلها, وقد لا َتحصل (وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ, فَأَلَّفَكُمْ اللهُ بِي؟)؛ كما في قوله تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63], وقد كانت الأنصارُ قبل الهجرة في غايةِ التَّنافر والتَّقاطع؛ لِمَا وقع بينهم من حَرْبِ بُعاثٍ وغيرها, فزال ذلك كلُّه بالإسلام, ثم ذَكَّرَهم بنعمة المال: (وكنتم عَالَةً, فَأَغْنَاكُمْ اللهُ بِي؟) والمقصود: أن الله تعالى أزال كلَّ ذلك الضلال المبين ببعثته صلى الله عليه وسلم, بأبي هو وأمي(12), وتبقى الآية الكريمة على ظاهرها وعمومها؛ فكلُّ مَنْ لم يتبع الرسولَ صلى الله عليه وسلم – في عصرنا هذا – فهو في ضلال مبين, وربما يفوق ضلالَ أهلِ الجاهلية الأُولى.

       الدعاء ...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر: التفسير الكبير, للرازي (9/494).

(2) تفسير السمرقندي, (1/287).

(3) التحرير والتنوير, (4/158).

(4) انظر: تفسير الماوردي, (1/287)؛ زاد المسير, (1/494).

(5) التحرير والتنوير, (4/158).

(6) انظر: الكشاف, (1/463)؛ ابن كثير, (1/425)؛ تفسير الماوردي, (1/287).

(7) انظر: الكشاف, (1/463).

(8) انظر: تفسير السعدي, (1/155).

(9) انظر: التحرير والتنوير, (4/159)؛ تفسير السعدي, (1/155).

(10) رواه أحمد في (المسند), (1/202), (ح1740)؛ وابن خزيمة في (صحيحه), (4/13), (ح2260). وصححه الألباني في (فقه السيرة), (ص115)؛                وحسنه محققو المسند, (3/268), (ح1740).

(11) رواه البخاري, (4/1574), (ح4075).

(12) انظر: فتح الباري, (8/50).

 

 

 

 

المرفقات

الكبرى-2

الكبرى-2

المشاهدات 791 | التعليقات 0