المقامُ المحمودُ 1444/4/17ه
يوسف العوض
الخطبة الأولى
عبادَ اللهِ : يَومُ القِيامةِ يَومٌ عَظيمٌ مشهودٌ، يَجمَعُ اللهُ فيه الأوَّلينَ والآخِرينَ، ويُصيبُ النَّاسَ فيه مِنَ الأهوالِ والكُروبِ، وتَشتَدُّ حاجتُهم إلى مَن يَشفَعُ لهُم عندَ اللهِ تَعالَى، ويَتقدَّمُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ النَّاسَ ليَشفَعَ لهُم عندَ ربِّهم سُبحانَه وتَعالَى، وهي الشَّفاعةُ العُظمى التي اختَصَّه اللهُ تَعالَى بها، كما أنَّ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شَفاعاتٍ أُخرى.
عبادَ اللهِ : في حَديثِ الشفاعةِ حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضي اللهُ عنه المروي في البخاري يَروي التَّابعيُّ مَعبدُ بنُ هِلالٍ العَنزيُّ أنَّه اجتَمَعَ مع جَماعةٍ من أهلِ البَصرةِ -وهي مدينةٌ بالعراقِ- فذَهَبوا إلى أنسٍ في قَصرِه، والمُرادُ به بَيتُه الذي يَبعُدُ عنِ البَصرةِ نحوَ ستة كيلومتراتٍ تَقريبًا، وكانَ من عادةِ التَّابِعينَ أنَّهم يَتردَّدون على أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ ليَتعلَّموا منهمُ العِلمَ وسُنَّةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقد أخَذوا معهم ثابِتًا البُنانيَّ، وكانَ من أخصِّ تلاميذِ أنسٍ رَضيَ اللهُ عنه وأقرِبِهم له، وطلَبوا منه أن يَسألَه عن حَديثِ الشَّفاعةِ، وكانَ أنسٌ رَضيَ اللهُ عنه في هذا الوقتِ قد كَبِرَ سِنُّه، فلمَّا وَصَلوا إليه وَجَدوه يُصلِّي الضُّحى -ووقتُها يَبدأُ بعدَ خَمسَ عَشرةَ دَقيقةً من شُروقِ الشَّمسِ، ويَنتهي وقتُها قُبَيلَ الظُّهر بعشرِ دقائق-، فاستَأذَنوا للدُّخولِ، فأذِنَ لهُم، وكانَ رَضيَ اللهُ عنه جالسًا على فِراشِه، وعندَ مُسلمٍ: «وأجلَسَ ثابِتًا معه على سَريرِه»، وقد ذكَروا لِثابِتٍ أن يُسارِعَ ويُقدِّمَ السُّؤالَ عن حَديثِ الشَّفاعةِ، فاستجابَ لهُم ثابتٌ، وقالَ: يا أبا حَمزةَ -وهي كُنيةُ أنسٍ رَضيَ اللهُ عنه- هؤلاءِ إخوانُك من أهلِ البَصرةِ، جاؤوكَ يَسألونك عن حَديثِ الشَّفاعةِ التي تَكونُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ القِيامةِ، فحَدَّثَهم أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: «إذا كانَ يَومُ القيامةِ» والنَّاسُ في المَوقِفِ العَظيمِ قيامٌ لربِّ العالَمين، «ماجَ النَّاسُ»، أيِ: اضطَربوا من هَولِ ذلك اليَومِ، وفي الصَّحيحَينِ: أنَّ النَّاسَ يَقولون: «لوِ استَشفَعْنا إلى ربِّنا فيُرِيحَنا من مكانِنا هذا»، فأخَذوا يَلتمِسون الشَّفاعةَ عِندَ عَددٍ منَ الأنبياءِ؛ ليَقضِيَ اللهُ تَعالَى بين أهلِ المَوقِفِ، فالأنبياءُ هُم أقرَبُ البَشَرِ مَنزِلةً إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وجَعَلَ كلُّ نَبيٍّ يَعتذِرُ عنِ الشَّفاعةِ، ويَدُلُّ على غيرِه من إخوانِه الأنبياءِ، حتَّى انتَهى الأمرُ إلى صاحِبِها، ويَحتمِلُ أنَّهم عَلِموا أنَّ صاحِبَها مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُعَيَّنًا، وتَكونُ إحالةُ كلِّ واحدٍ منهم على الآخَرِ على تَدريجِ الشَّفاعةِ في ذلك إلى نَبيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
عبادَ اللهِ : فيَأتي النَّاسُ آدَمَ عليه السَّلامُ، فيَعتَذِرُ عن هذا المَقامِ، ويقولُ: لستُ أهلًا له؛ فهو يَذكُرُ مَعصيتَه الأُولى في الجَنَّةِ، ويَخافُ من غَضَبِ الجبَّارِ جلَّ في عُلاه، ويُحيلُهم إلى إبراهيمَ عليه السَّلامُ، ووَقَعَ في رِوايةِ مُسلمٍ: أنَّ آدَمَ يُحيلُهم إلى نُوحٍ عليه السَّلامُ، وأنَّ نُوحًا عليه السَّلامُ هو مَن يُحيلُهم إلى إبراهيمَ خليلِ الرَّحمنِ، والخَليلُ هو ذو المَحبَّةِ الخالِصةِ، وهذا وصفُ كَمالٍ في إبراهيمَ عليه السَّلامُ يَحمِلُه على أن يَقبَلَ الشَّفاعةَ في هذا المَوقفِ العَظيمِ، لكنَّه يَعتذِرُ، ويُحيلُهم إلى مُوسى عليه السَّلامُ؛ فقدِ اصطفاه اللهُ، واختَصَّه بكلامِه، فهو كَليمُ اللهِ، فيَأتون مُوسى عليه السَّلامُ، فيَعتَذِرُ، ويُحيلُهم إلى عيسى عليه السَّلامُ؛ فهو رُوحُ اللهِ وكَلِمتُه، ومَعنى رُوحِ اللهِ: رُوحٌ مَخلوقةٌ بأمرِ اللهِ؛ فالإضافةُ إضافةُ تَشريفٍ. وقيلَ: مَعناه: ليس من أبٍ، وإنَّما نُفِخَ في أُمِّه الرُّوحُ، ومَعنى «وكَلِمتُه»: أنَّه خُلِقَ بكَلِمةِ «كُنْ» فسُمِّيَ بها، فيَأتي النَّاسُ عيسى عليه السَّلامُ، فيَعتَذِرُ ويُحيلُهم إلى نَبيِّنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكانَ كُلُّ واحِد منهم يَعتذِرُ عنِ الشَّفاعةِ، قائلًا: لَستُ لَها، ويَذكُرُ شَيئًا يَراه ذنبًا، ويَقولُ -كما في الصَّحيحَينِ-: «إنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ» ، فلمَّا وصَلوا إلى مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أجابَهُم إلى طَلَبِهم، وقالَ: «أنا لَها»، ولعلَّ الحِكمةَ في أنَّ اللهَ تَعالَى ألهمَهم سؤالَ آدَمَ ومَن بَعدَه صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم في الابتداءِ، ولم يُلهَموا سُؤالَ نبيِّنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ هي -واللهُ أعلَمُ-: إظهارُ فَضيلةِ نبيِّنا مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فإنَّهم لو سألُوه ابتِداءً لَكانَ يَحتمِلُ أنَّ غَيرَه يَقدِرُ على هذا ويُحَصِّلُه، وأمَّا إذا سألُوا غَيرَه من رُسُلِ اللهِ تَعالَى وأصْفيائِه فامتَنَعوا، ثُمَّ سألُوه فأجابَ وحَصَلَ غَرَضُهم؛ فهو النِّهايةُ في ارتفاعِ المَنزِلةِ، وكمالِ القُربِ، وعَظيمِ الإدلالِ والأُنسِ، وفيه تَفضيلُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على جَميعِ المخلوقينَ مِنَ الرُّسُلِ والآدميِّينَ والملائكةِ؛ فإنَّ هذا الأمرَ العظيمَ -وهو الشَّفاعةُ العُظمى- لا يَقدِرُ على الإقدامِ عليه غَيرُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعليهم أجمَعين.
عبادَ اللهِ : ويُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه يَتقدَّمُ ويَطلُبُ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ الإذنَ في الشَّفاعةِ المَوعودِ بها، والمَقامِ المَحمودِ الذي ادَّخَرَه اللهُ عزَّ وجلَّ له، فيُؤذَنُ له، وقد وجَّهَ الإذنَ هنا بالشَّفاعةِ التي تَتعلَّقُ بأهلِ المَوقِفِ جميعًا لا ما يَخُصُّ أُمَّتَه فَقطْ؛ لأنَّ هذه هي الشَّفاعةُ التي لجأ النَّاسِ إليه فيها، وهي الإراحةُ منَ المَوقِفِ، والفصلُ بينَ العِبادِ، ثُمَّ بعدَ ذلك حلَّتِ الشَّفاعةُ في أمَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وفي المُذنِبينَ، فيَسجُدُ تحتَ عَرشِ الرَّحمنِ، ويُجري اللهُ عزَّ وجلَّ على لِسانِه مَحامِدَ يَحمَدُه بها، لم تَحضُر رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الدُّنيا، فيَأذَنُ اللهُ عزَّ وجلَّ له بالشَّفاعةِ، وأن يَسألَ فيُعطى ما سألَ، فيَسألُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الشَّفاعةَ لأُمَّتِه، قائلًا: «أُمَّتي أُمَّتي»، وهُنا تَتجلَّى رَحمةُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ بأن يَقولَ للحَبيبِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: انطَلِق فأخرِج منَ النَّارِ مَن كانَ في قَلبِه مِثقالُ -أي: وَزنُ- شَعيرةٍ، وهي حَبَّةُ نباتِ الشَّعيرِ، «مِن إيمانٍ» وهو قدرٌ يَسيرٌ منَ الإيمانِ، وهذا بعدَ أن يَدخُلَ أهلُ النَّارِ النَّارَ، ومعهم عُصاةُ أهلِ التَّوحيدِ. وهذا الصِّنفُ الأوَّلُ مِنَ الخارِجين منها هم مَن كانَ في قلبِه مِقدارُ وَزنِ الشَّعيرةِ مِنَ الإيمانِ، وما كانَ فَوقَ هذا أولى أن يَخرُجَ؛ فهذا هو الحدُّ الأدنى.
عبادَ اللهِ : ثُمَّ يَفعَلُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَرَّةً ثانيةً مِثلَما فَعَلَ سابقًا، فتَتَجلَّى رَحمةُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ -ورَحمتُه لا تَنقطِعُ- وَيَقولُ للحَبيبِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: انطَلِق، فأَخرِجْ مَن كانَ في قَلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ أو قالَ: خَردلةٍ، والذَّرَّةُ تُطلَقُ على أصغَرِ النَّملِ، وعلى الغُبارِ الدَّقيقِ الَّذى يَتطايَرُ مِنَ التُّرابِ عِندَ النَّفخِ فيه، والخَردلُ: حُبوبٌ في غايةِ الصِّغَرِ والدِّقَّةِ، يُضرَبُ بها المَثَلُ في الصِّغَرِ، وَزِنةُ الخَردلةِ رُبُعُ سِمسِمةٍ ،ثُمَّ يَفعَلُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَرَّةً ثالثةً مِثلَما فَعَلَ سابقًا، ويَزيدُ الرَّحمنُ في رَحمتِه بِعِبادِه، ويَقولُ لِلحَبيبِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: انطَلِق، فأَخرِجْ مَن كانَ في قَلبِه أدنى أدنى أدنى مِثقالِ حَبَّةِ خَردَلٍ من إيمانٍ، «فَأَخْرِجْه مِنَ النَّارِ»، فيَنطلِقُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيُخرِجُهم منَ النَّارِ، وقولُه: «أدْنى أدْنى أدْنى» يُستعمَلُ ذلك فيما لا يَوجَدُ له اسمٌ في القِلَّةِ.
اللهمَّ قنا عذابك يومَ تبعثُ عبادَك
الخطبة الثانية
عبادَ اللهِ : جاءَ من حديثِ جابرِ بنِ عبدِاللهِ رضي اللهُ عنه في الصحيحِ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "مَن قالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هذِه الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، والصَّلَاةِ القَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ والفَضِيلَةَ، وابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الذي "وعَدْتَهُ، حَلَّتْ له شَفَاعَتي يَومَ القِيَامَةِ.
اللهمَّ اجعلنا من أهلِ الشفاعةِ برحمتِك وكرمِك ياربَّ العالمينِ
المرفقات
1667886613_الشفاعة.pdf
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق