المفلسون في رمضان
إبراهيم بن سلطان العريفان
بسم الله الرحمن الرحيم
إخوة الإيمان والعقيدة ... قد بين الله تعالى الحكمة من فرض الصيام؛ فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي: فرضنا عليكم أيها المؤمنون الصيام كما فرضناه على الأمم قبلكم، لعلكم بأدائكم هذه الفريضة تنالون درجة التقوى، التي هي أسمى الدرجات وأعلاها، وأرفع المنازل وأفخمها، وبذلك تكونون ممن رضي الله عنهم وأكرمهم، كمم قال (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) والتقوى باختصار هو فعل المأمورات، وترك المنهيات.
والصيام الذي لا يثمر التقوى حابط فاقد القيمة؛ كالزرع الذي لا محصول له آخر الموسم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم (مَنْ لَم يَدَع قَوْلَ الْزُّوْر وَالْجَهْلَ وَالْعَمَلَ بِه؛ فَلَيْس لِلَّه حَاجَة فِي أَن يَدَع طَعَامَه وَشَرَابَه) وقال عليه الصلاة وإسلام (رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوْعُ والعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا الْسَّهَرُ).
فالعبادة الحقيقية هي التي تدفع صاحبها إلي فعل الخيرات، والتحلي بمكارم الأخلاق، والإحسان إلى الناس، والانكفاف عن الأذى والشر، وكل عبادة لا تثمر ذلك؛ فهي عبادة لا خير فيها، ومن ثم لا خير فيها لصاحبها.
قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن فلانة تقوم الليل، وتصوم، النهار وتفعل، وتصدق، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لَا خَيْرَ فِيْهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ الْنَّارِ) قالوا: وفلانة تصلي المكتوبة، وتصدق بأثوار-جمع ثور، وهي القطعة من الجبن المجفف– ولا تؤذي أحدا؟ قال صلى الله عليه وسلم (هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ).
شتان بين العبادتين: بين عبادة تدفع إلي الخير، وعبادة لم توقف صاحبها عن الإيغال في الشر.
عباد الله ... ما أتعس الصائم المفلس! قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم (أَتَدْرُوْنَ مَا الْمُفْلِسُ؟) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال (إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِيْ، يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكْلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَىَ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عليه؛ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ فِيْ الْنَّارِ)
فانظروا إلى هذا .. أتى بصلاة وصيام وزكاة؛ ولكنه في الوقت نفسه أتى بما أذهب ما أتى به من خير؛ حتى محقه ونسفه.
إن الصيام الحقيقي، والصلاة التامة، والزكاة المقبولة هي العبادات التي تمنع صاحبها من الوقوع في هذه الجرائم والمعاصي والذنوب.
ولقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث إلى الإفلاس الحقيقي، وهو الإفلاس الخلقي في الدنيا، المؤدي إلى الإفلاس الأخروي من الحسنات حتى تفنى، ثم يطرح من سيئات ضحاياه على سيئاته، ثم يطرح في النار.
جاء في حديث ثوبان رضي الله عنه، أن النبي-صلى الله عليه وسلم قال (لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِيْ يَأْتُوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بَيْضَاءَ، فَيَجْعَلُهَا هَبَاءً مَنْثُوْرًا) قوم مجتهدون، يأتون يوم القيامة بأعمال كأمثال جبال تهامة - سلسلة جبال تمتد امتدادا طويلا، ثقيلة جدا عظيمة هي (فَيَجْعَلُهَا الله هَبَاءً مَنْثُوْرًا) قال ثوبان رضي الله عنه: يا رسول الله؛ صفهم لنا، حلهم لنا، ألا نكون منهم ونحن لا نعلم،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُوْنَ مِنْ الْلَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُوْنَ؛ وَلَكِنَّهُمْ أقَواْمٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ الْلهِ انْتَهَكُوهَا) هذه هي العلة! هذا هو الداء الدوي الذي أفسد الأعمال كأمثال جبال تهامة (إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ الْلَّهِ انْتَهَكُوهَا) لهم ظاهر يسر، وباطن من دونه يضر.
انتهاك محارم الله دليل على فساد العبادة وحبوط العمل (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وهذا دليل على ضعف الرقابة لله؛ بل على عدمها.
قال بلال بن سعد: لا تكن وليا لله في العلانية، عدوا لله في السر.
عباد الله .. إن الصيام يورث التقوى، ومراقبة الله تعالى، وصلاح القلوب، قال عبد العزيز بن أبي رواد: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه؛ وقع عليهم الهم؛ أيقبل منهم أم لا؟!. فليست العبرة بكثرة العمل؛ وإنما العبرة كل العبرة في تصفية العمل من شوائبه، يقول علي رضي الله عنه: كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ولما سمعت عائشة قول الله -جل وعلا (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) فقالت: يا رسول الله؛ أولئك العصاة السرقة الزناة! يفعلون ويفعلون؟ فقال (لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيق؛ بل هو الرَّجُل يَصُومُ، ويُصَلِّي، ويتصدقُ، ويَفْعَلُ الخيرَ، ويَخْشَى أَلَّا يُقْبَلَ منه).
اسأل الله تعالى أن يتقبل منا منكم صالح الأعمال.
أقول ما تسمعون ...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ...
معاشر المؤمنين ... بعد غد يحل علينا العشر الأواخر من رمضان ..وإن صيام رمضان ما يزال يرتقي بالنفس في مدارج الكمال؛ حتى يبلغ الصائم العشر الأواخر من رمضان، وفيها الاعتكاف؛ لعكوف القلب على الله. وفي العشر: التماس ليلة القدر، وهي خير من ألف شهر.
قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر؛ شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله. وفي رواية قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره. لأنه صلى الله عليه وسلم كان يلتمس ليلة القدر.
عباد االله ... عشر رمضان الأخيرة فيها الخيرات، وفيها الأجور الكثيرة، وفيها الفضائل المشهورة والخصائص العظيمة.
وقد كان النبي صلى الله عليه سلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان. فالاعتكاف سنة من السنن الثابتة، دل عليها كتاب ربنا، وسنة نبينا، وإجماع الأمة. والمقصد الأجل: تفريغ القلب للعكوف على العبادة والذكر، لالتماس الأجر بتحري ليلة القدر، وبالبعد عن الدنيا بكل ما فيها من مآسيها ومباهرها، بكل ما يشغل القلب عن الرب تبارك وتعالى.
فمن الخسران المبين، والخسارة الفادحة أن تمضى الأوقات في ليال العشر في اللهو الباطل.
في العشر الأواخر: ليلة القدر التي شرفها الله تعالى على غيرها، ومن على هذه الأمة بها، وأنعم عليها بجزيل خيرها، وأشاد الله تعالى بفضلها.
فليلة القدر شريفة عظيمة، يقدر الله فيها ما يكون في السنة إلى ليلة القدر من العام بعده، وما يقضيه الله تعالى من أوامره الحكيمة وأموره الجليلة.
ومما يدل على عظيم قدرها ورفعة شأنها أن الله أنزل فيها سورة برأسها؛ تتلى، يتعبد لله بتلاوتها إلى أن يرفع الله الكتاب المجيد بين يدي الساعة من الصدور والسطور.
والأرجح على حسب دلالات النصوص: أن ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، وأنها في أوتار العشر، وأنها تنتقل؛ فليست في ليلة بعينها، تكون ثابتة في كل عام، ولكنها تنتقل كما هو الأرجح.
وقد أخفى الله تبارك وتعالى عن العباد تحديد ليلة القدر بقطع؛ رحمة بهم؛ ليكثر عملهم في طلب ليلة القدر في تلك الليالي الفاضلة، بالذكر والصلاة، وبالدعاء والإخبات، وبالبكاء والإنابة؛ ليزدادوا من الله قربا، وليكثر لهم من الله الثواب، وليعلم من كان جادا في طلبها، حريصا عليها ممن كان كسلانا متهاونا.
ويسأل العبد ربه جل وعلا في ليلة القدر العفو والمعافاة؛ قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله؛ أرأيت إن وافقت ليلة القدر؛ ما أقول فيها؟ قال (قُوْلِيْ: الْلَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّيْ)
فاحرص في العشر الأواخر على التصفية والتزكية على الكتاب والسنة ومنهاج النبوة، وخلف دنياك وراءك، وأقبل صحيحا؛ حتى تصير معافى.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين