الْمَــــــــــاءَ 1442/8/20هـ

عبد الله بن علي الطريف
1442/08/19 - 2021/04/01 22:35PM

 الْمَــــــــــاءَ

الْحَمْدُ للهِ الذي نَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْ بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، والحمد لله الذي أنزل مِنَ الْمُزْنِ مَاءً عَذباً زُلَلاً طَهورًا نَشْرَبُ منه وَتَشْرَبُ أَنْعَمُنَاً وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ أُجَاجًا فَلَهُ الحمد وهو العزيز الحميد.. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصاً له الدين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد المرسلين، صلى الله وسلِّمْ وباركْ عليهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجمعين، والتابعينَ لَهُم بإحسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.. أما بعد أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى واعلموا أن الماءَ: عنصرٌ مهمٌ بالحياة ولعظيمِ قَدْرِه وجليلِ أمرِه ذكره الله بكتابه الكريمِ.. ونوه بشأنِه في تسع وخمسين آية في مَعرِضِ بيانه لِنِعَمِهِ على خلقه.. وتحدَّثَ عنه وهو نازلٌ منَ السماءِ، أو خارجٌ مِنَ الأرضِ أو مُختَزنٌ فيها لِوَقْتِ الحاجةِ، فقَالَ تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ([الزُّمَرِ:21] بِهِ يُخرجُ اللهُ المَرعَى، وينبتُ الزَرْعَ والشَجَرَ من الزَّيْتُونِ وَالنَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَكُلِّ الثَّمَرَاتِ.. وبه يُحي اللهُ الإنسانَ والحيوانَ، يقولُ اللهُ تعالى :(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ* يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون)َ [النَّحْلِ:10-11]

وَالْمَاءُ: إحدى نعمٍ اللهِ العظيمةِ التي قَدْ يَنْسَى بَعضُ النَّاسِ أهمِّيَّتَها.. وإحدى المنحِ الإلهية الجزيلة التي قد يغفل بعض الناس عن جَلَالَتِها، وقد امتن اللهُ بها على عبادِهِ، ولفتَ أنظارَهم إليها ولو تَخَيَّلَ واحدٌ منا فَقْدَ هذهِ النِّعمةِ ولو لِزَمَنٍ يَسيرٍ؛ لعلم أنَّ فضلَ اللهِ عليهِ بها عظيم، وأنَّ فَقْدَها خَطَرٌ جَسِيمٌ، وقد ذكر الله ذلك في غيرِ مَا موضعٍ في كتابِهِ الكريم فقال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) [الْمُلْكِ:30] ثُمَّ لِنَتصوَّرِ أن الماءَ انقلب علينا مِلحًا أُجاجًا؛ حينَها نَعلمُ أنَّ عُذُوبةَ الماءِ نِعْمَةٌ إِلَهيَّةٌ، ومِنْحَةٌ ربَّانِيَّةٌ، تَستَوجِبُ حَمْدَ اللهِ وشُكْرَه، فقال: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ*  أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) [الْوَاقِعَةِ:68-70] قال الشيخ السعدي حمه الله: في هذه الآيات ذكرَ اللهُ نعمتَهُ عليهم بالشرابِ العذبِ الذي منه يشربون، وأنهم لولا أَنَّ الله يسَّرَهُ وسهَّلَهُ، لما كان لكم سبيلٌ إليه، وأَنَّه الذي أنزلَهُ من الْمُزنِ، وهو السحابُ والمطرُ، يُنْزِلُهُ اللهُ تعالى فيكون منه الأنهارُ الجارية على وجْهِ الأرضِ وفي بطنِها، ويكون منه الغدرانُ المتدفِّقة، ومن نعمته أن جعله عذباً فراتاً تُسِيغُه النفوسُ، ولو شاءَ لجعلَهُ ملحاً أُجَاجاً مكروهاً للنفوس، لا يُنْتَفَعُ به (فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) الله تعالى على ما أنعم به عليكم..

ولقدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَفِيًّا بنِعْمَةِ اللهِ يُعَظِّمُها ويَشكرُها فلا يدعُ شكرَ اللهِ على نعمة الماء في جميعِ أحوالِه فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا، وَكَفَانَا وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِيَ» رواه مسلم. ومناسبة هذا الدعاء للنوم استجماعُ حصيلةَ النهار من النعم والحمد عليها والشُرْبُ من أعظمِها، وذهبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بجزاءِ مَنْ حَمِدَ اللهَ بعد الشربِ فجعلَهُ سَبباً من أسبابِ رضى اللهِ تعالى على عبدِهِ فَقَالَ ﷺ: «إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» رواه مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

والماء: يُشرع سقيُه وبذلُه، وقد وردت أحاديثُ كثيرة في أنواع من سقيه، منها ما رواه سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «سَقْيُ الْمَاءِ» رواه النسائي وابن حبان وحسنه الألباني.

وفي تقديمِ الماءِ للآخرين أجرٌ عظيم سواء للبشرِ أو البهائِم ففِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ، فَعَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا سَقَى امْرَأَتَهُ مِنَ الْمَاءِ أُجِرَ» قَالَ: «فَأَتَيْتُهَا، فَسَقَيْتُهَا، وَحَدَّثْتُهَا بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ» رواه أحمد والطبراني وقال الألباني حسن لغيره وقال الأرناؤوط صحح بشواهده.. وهذا شاملٌ لإتيانَها بالماءِ ومُناولتَها إياه، أو جَعْلَه في فِيهَا بأن يسقيها بيده.

وسقي البهائم فيه أجر عظيم فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ العَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا، فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلَأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ، فَسَقَى الكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ» رواه البخاري  قال ابن بطال: دل الحديث على أن سقي الماء من أعظم القربات إلى الله تعالى، وقد قال بعض التابعين: "من كثرت ذنوبُه فعليه بسقي الماء، وإذا غفرت ذنوب الذى سقى الكلب فما ظنكم بمن سقى رجلاً مؤمنًا موحداً أو أحياه بذلك". وفق الله الجميع لكل خير وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: ومن شكرِ نعمةِ الماء وجوبُ المحافظة عليه، فأي بلادٍ بلا ماء تهجرُ ولا تسكن.. والناس شركاء في نعمة الماء فَعَنْ رَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ ثَلَاثًا أَسْمَعُهُ، يَقُولُ: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْكَلَاءِ، وَالْمَاءِ، وَالنَّارِ» رواه أبو داود وصححه الألباني..

الْمُرَاد الْمِيَاه الَّتِي لَمْ تَحْدُث بِاسْتِنْبَاطِ أَحَد وَسَعْيه، كَمَاءِ الْقِنَى وَالْآبَار، وَلَمْ يُحْرَزها فِي إِنَاء أَوْ بِرْكَة أَوْ جَدْوَلٍ مَأخُوذ مِنْ النَّهَر.. وعليه لا يجوز تلويثه، فقد نُهي عن التبولِ في الماءِ الراكدِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، وَلَا يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ» رواه أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وقال الألباني حسن صحيح..

أيها الإخوة: ومن شُكرِ نعمة الماء عدم الإسراف، في استخدامه سواء بالاغتسال أو الوضوء أو تنظيف الأفنية، وغيرها، ومن الإسراف إهمال أصحاب المزارع لعمالهم يهدرون المياه بلا رقيب ولا حسيب..

وعلينا في أثناء استِعمالِه أنْ نصطحب شُكْرَ اللهِ تعالَى على نِعْمَةِ الماءِ، وأن لا يكون الشُّكْرِ باللسانِ، بلْ يَتعدَّاهُ إلى الشُّكْرِ بِحُسْنِ التَّصرُّفِ فيهِ وحُسْنِ استِغْلَالِه، وعدم الإِسْرافٍ في استِعْمَالِه يقول الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الْأَعْرَافِ:31]، وإذا كانَ الإسرافُ في استعمالِ الماءِ لِلشُّربِ مَنْهيًّا عنهُ وممنوعًا مِنْهُ فإِنَّ استعمالَه في مجالاتٍ أُخْرَى أَكْثَرُ مَنْعًا وأشدُّ خَطَرًا، وقد وردَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أنهُ كانَ إذا اغْتَسَلَ اغتسلَ بالقلِيلِ، وإذا تَوضَّأَ تَوضأ بالنَّزْرِ اليَسيرِ، فعَنْ أنسٍ رضيَ اللهُ عنه قالَ: «كانَ النبيُّ ﷺ يغتسلُ بالصَّاعِ إلى خمسةِ أمدادٍ، ويتوضَّأُ بالمُدِّ» رواه البخاري، والْمُدُّ مِلءُ اليدَينِ المُتوسِّطَتَين، وإذا كانَ الاقتصادُ في استعمالِ الماءِ في العبادةِ مَطْلُوبًا، فَالاقتصادُ في غيرِ العبادةِ أَولَى وأَحرى، وإنْ كانَ الَّذي يُغرَفُ مِنْهُ نَهْرًا أَوْ بَحْرًا.. اللهم انفعنا بما علمتنا..

المشاهدات 1131 | التعليقات 0