المـــســاجــــد (تعميم)
يوسف العوض
الخطبة الأولى
عِبَادَ اللهِ: كَانَ الْمَسْجِدُ وَلَا يَزَالُ عَلَى مَرِّ العُصُورِ مَحَطَّ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَوْئِلًا لِلتَّائِبِينَ الْعَائِدِينَ، وَمَدْرَسَةً تَعَلَّمَ فِيهِ أَوْلِيَاءُ اللهِ الصَّالِحُونَ، فَالْمَسَاجِدُ بُيُوتُ الطَّاعَاتِ، وَمَحَلُّ نُزُولِ الرَّحَمَاتِ وَالْبَرَكَاتِ، فَهَنِيئًا لِمَنْ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهَا؛ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِلْمَسَاجِدِ أَوْتَادًا، الْمَلَائِكَةُ جُلَسَاؤُهُمْ، إِنْ غَابُوا يَفْتَقِدُونَهُمْ، وَإِنْ مَرِضُوا عَادُوهُمْ، وَإِنْ كَانُوا فِي حَاجَةٍ أَعَانُوهُمْ».
عِبَادَ اللهِ: وَلِهَذِهِ كَانَ أَوَّلُ عَمَلٍ عَظِيمٍ قَامَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَدِينَةِ: بِنَاءَ الْمَسْجِدِ؛ لِيَكُونَ الدِّعَامَةَ الْأُولَى لِمُجْتَمَعِ الْعَدْلِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالْإِخَاءِ وَالْمَوَدَّةِ، فَمَوْضِعٌ بِهَذِهِ الْمَكَانَةِ الرَّفِيعَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْمُنِيفَةِ حَرِيٌّ بِالْمُسْلِمِ أَنْ يُعَظِّمَهُ، وَيُجِلَّهُ عَنْ كُلِّ مَا يَشُوبُهُ وَيَنْقُصُهُ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ أَنْ تُصَانَ الْمَسَاجِدُ عَنْ كُلِّ أَذًى حِسِّيًّا كَانَ أَوْ مَعْنَوِيًّا، فَمِنْ ذَلِكَ: صَوْنُ الْمَسْجِدِ عَنْ أَيِّ وَسِيلَةٍ مِنْ وَسَائِلِ الشِّرْكِ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ قَالَا: لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَيِ الْمَوْتُ - طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» -يُحَذِّرُ مِثْلَ مَا صَنَعُوا - ، كُلُّ هَذَا حِفْظًا لِجَنَابِ التَّوْحِيدِ، وَسَدًّا لِذَرِيعَةِ الشِّرْكِ.
عِبَادَ اللهِ: وَيُصَانُ الْمَسْجِدُ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ أَوِ الْكَلَامِ الَّذِي لَا فَائِدَةَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُؤْذِي مَنْ حَوْلَهُ، وَالنَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ مُشْتَغِلُونَ بِالطَّاعَةِ، فَرَجُلٌ يُصَلِّي، وَآخَرُ يَتْلُو الْقُرْآنَ أَوْ يَدْعُو أَوْ يَذْكُرُ اللهَ جَلَّ وَعَلَا، فَالْمَشْرُوعُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِطَاعَةِ اللهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ صَلَاتَهُ عَلَى أَكْمَلِ صُورَةٍ وَأَحْسَنِ هَيْئَةٍ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ - ثَلَاثًا - وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الأَسْوَاقِ » ، -وَهَيْشَاتُ الْأَسْوَاقِ أَيِ اخْتِلَاطُهَا وَالْمُنَازَعَةُ وَالْخُصُومَاتُ وَارْتِفَاعُ الْأَصْوَاتِ-.
عِبَادَ اللهِ: وَيُصَانُ الْمَسْجِدُ عَنِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ؛ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ قَالَ: فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ» ، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ «فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ»، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ.
وَمِمَّا يُنَزَّهُ عَنْهُ الْمَسْجِدُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّثَاؤُبِ وَنَحْوِهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «التَّثَاؤُبُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ».
عِبَادَ اللهِ: وَمِمَّا تُصَانُ عَنْهُ الْمَسَاجِدُ اللِّبَاسُ الْمُخَالِفُ وَغَيْرُ السَّاتِرِ مِمَّا يُظْهِرُ الْفَخِذَيْنِ أَوْ أَسْفَلَ الظَّهْرِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَنَا أَنْ نَلْبَسَ أَحْسَنَ الثِّيَابِ؛ قَالَ تَعَالَى: " يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ " وَأَخْذُ الزِّيْنَةِ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ.
وَمِمَّا تُصَانُ عَنْهُ الْمَسَاجِدُ: نَشْدُ الضَّالَّةِ وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي المَسْجِدِ، فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً، فَقُولُوا: لَا رَدَّ اللهُ عَلَيْكَ» .
الخطبة الثانية
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ عِمَارَةَ الْمَسَاجِدِ دَلِيلٌ عَلَى الإِيمَانِ، وَبُرْهَانٌ عَلَى الإِحْسَانِ؛ قَالَ تَعَالَى: " إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ " وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَفِي سُوقِهِ: خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ، لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ، لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى، لَمْ تَزَلِ الْمَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ » .
.
يوسف العوض
مستفادة
تعديل التعليق