المعصية دواعيها والمجاهرة بها

صالح العويد
1441/02/12 - 2019/10/11 18:29PM

أما بعد فيا أيها المسلمون: اتقوا اللهَ بالسعي إلى مراضيه واجتناب معاصيه؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ:

عباد الله: إن الله -تعالى- خلَق الإنسان ووهبه العقل واللسان، وخاطبه بالشرائع وعلمه البيان، وأرسل الرسل بالبينات وأنزل معهم الكتاب والميزان، وقدَّر الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، خلق الإنسان لطاعته الموجبة لمرضاته، ونهاه عن معصيته الموجبة لسخطه، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزَّلْزَلَةِ: 7-8]، وجعل الدنيا دار عمل وابتلاء، وكتب لها الفناء والآخرة دار الحساب والجزاء، وكتب لها الدوام والبقاء، فمن عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها،

عباد الله: إن الإنسان ممتحن بالشهوات والشبهات، مندفع في الملذات والراحات، مبتلًى بالمعاصي والسيئات، قد تسلَّط عليه أعداؤه وخصماؤه؛ فالشيطان قرينه وعدوه الألد، والنفس أمارة بالسوء وهي في حضن الجسد، والجوارح خصوم تشهد، وقد أقسم الشيطان فقال: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص: 82-83].

وأخبرنا الله عن النفس فقال: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يُوسُفَ: 53]، وعن الجوارح فقال: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النُّورِ: 24]، وقال: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ) [فُصِّلَتْ: 21-22]؛ فالشيطان يؤز إلى المعاصي والموبقات، والنفس تأمر بالسوء والمنكرات، والجوارح شهود أثبات، والكيس من دان نفسه وألجمها عن الوقوع في السيئات.

معاشر المسلمين: إن مقارفة الذنوب والمعاصي ضرر وفساد، تستوجب غضب الله -تعالى- ومقته وعذابه، وتستنزل نقمه وبلاءه، (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [الطَّلَاقِ: 8-10]، فما يحل بالمسلمين من فتن ولأواء ومحن وغلاء وتسلُّط الأعداء وجدب الأرض وقحط السماء، وأمراض وأوجاع وبلاء إنما هو من آثار المعاصي والسيئات، والذنوب والمنكرات، وقد ضرب الله الأمثلة لمن يعتبر، وصرَّف الآيات فهل من مُدَّكِر؟ وبيَّن أن الذنوب والمعاصي من أعظم أسباب زوال النعم وحلول النقم؛ فقال: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النَّحْلِ: 112]، فما أهون الخلق على الله -عز وجل- إذا لم يطيعوا أمره.

عباد الله: إن خطر المعاصي أعظم، ويشتد خطبها وبلاؤها ومصيبتها إذا أصبحت مألوفة والناس يجاهرون بها، مكشوفة والناس يبارزون الله -تعالى- بها، وكل أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- معافى إلا المجاهرون، ولن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم.

عباد الله: إن المجاهرة بالمعاصي استخفاف بحق الله، وجرأة على الله، وعناد للمؤمنين، وتكثير لسواد العاصين، وتعدية لأثر المعصية إلى الغير، وسبب في جرِّهم إليها، وإغرائهم بها، وسبب في تأثيم من لم ينكر، فمن ابتلي بالمعاصي فليستتر بستر الله -عز وجل-، وليبادر بالتوبة النصوح.

المجاهرة بالمعاصي والمنكرات كبيرة من أعظم الكبائر وأخطرها؛ فمِنْ أعظم الظلمِ أن يُسيءَ المرْءُ إلى من أحسن إليه، وأن يعصيه في أوامره، وأن يخالف تعاليمه.. ويزدادُ هذا القبحُ وذاك الظلمُ حين يُعلن المرءُ مخالفته ويُجاهر بها، ولا يبالي ولا يخاف ولا يستحي من ربه الذي يراه ويسمعه، وهو الذي أحسن إليه وجاد عليه وتكرّم وتفضل سبحانه.

 بالمجاهرة بالمعاصي يكشف المرء ستر الله عليه، ويُعرّض نفسه لسخط الله وغضبه وعقابه؛ فلا يزال المرء في سلامة وعافية مادام أنه يذنب ويتوب إلى الله، ما لم يُجاهِرْ ويفاخرْ بمعصيته وذنبه؛ قال رسول الله ﷺ ( كل أمتي مُعافى إلا المُجاهرين، وإنّ من المُجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان؛ عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه ).

معاشر المسلمين: إن الإصرار على الذنب والاسترسال في المعاصي والاستغراق في السيئات والفرح بها، والجرأة عليها، والأمن من مكر الله، واستصغار الخطايا مُؤْذِن بالغفلة والسخط، وسبب للشقاء والهلاك، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ” وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بِأَرْضٍ فَلَاةٍ فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُوَيْدِ حَتَّى جَمَعُوا مِنْ ذَلِكَ سَوَادًا فَأَجَّجُوا نَارًا وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا. (رواه أحمد).

والذي يدعو الناس بحاله أو مقاله إلى الوقوع في المعصية، يتحمّلُ مثلَ أوزار من تأثر بدعوته واقتدى بأفعاله، إضافة إلى وزره وإثمه. قال رسول الله ﷺ ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثلُ أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثلُ آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا ).

أيها المسلمون: لا تُكْثِرُوا سوادَ أهل البدع والباطل والمعصية، ولا تكونوا -يومًا- في عديد أصحاب الفتنة والمفسدين، ومن حضر مجالس المنكر استئناسًا بهم وفرحًا بأفعالهم أو رَضِيَهَا أو دعا إليها أو أيَّدَها أو أيَّدَ المواقعَ العنكبوتيةَ المشبوهةَ والصفحاتِ الخبيثةَ والمواقعَ الإباحيةَ والمواقعَ المعاديةَ لديننا وعقيدتنا وأخلاقنا وبلادنا وَمَهَرَ لها علامةَ الرضا والتأييد فقد كثَّر في سوادهم، وصار من عدادهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: “لا يجوز لأحد أن يحضر مجالسَ المنكر باختياره لغير ضرورة“وَرُفِعَ لعمر بن عبد العزيز قوم يشربون الخمر، فأمر بجلدهم، فقيل له: إن فيهم صائما، فقال: “ابدؤوا به، أما سمعتم اللهَ يقول: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ)[النِّسَاءِ: 140]”، بيَّن عمرُ بن عبدِ العزيزِ -رضي الله عنه- أن الله جعل حاضر المنكر كفاعله، ولهذا قال العلماء: “إذا دُعِيَ إلى وليمة فيها منكر كالخمر والزمر لم يجز حضورها؛

أيها المسلمون: لا تجاهروا بالمعاصي، لا تجاهروا بالمعاصي، ولا تستحلوا ما حرَّم اللهُ -تعالى-، ولا تغترُّوا بفتاوى المتساهلين، وأنصاف المتفقهين الذين يُفتون بلا إيقان ولا إتقان، ويميلون إلى طرف الانحلال بدعوى التيسير والوسطية والاعتدال، ومن أظهر المعصيةَ وجاهَر بها فقد أغضب ربَّه، وهتك سترَه، واستخف بعقوبته، وآذى عباد الله المؤمنين، فاتقوا الله -يا أهل الإسلام-، ولا تغتروا بالنعماء والرخاء، ولا تستعينوا بالعطايا على الخطايا، ولا تجاهروا بالعصيان، وقد أنعم الله عليكم بعيش رخيّ، وشراب رضيّ، والناس من حولكم يقتلهم الجوعُ الأغبرُ، والموتُ الأحمرُ. أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه إنه كان للأوابين غفورا.

عباد الله: اتقوا الله ولا تقترفوا الذنوب ولا تستهينوا بها، وأقلوا منها فإنكم لن تلقوا الله -عز وجل- بشيء أفضل من قلة الذنوب.

معاشر المسلمين: إن خطر المعاصي ليعظم ويفجع، وبلاءها ومصيبتها تكبر وتفزع، إذا أصبحت معروفة وقد أقرها الناس، فلا يؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [الْمَائِدَةِ: 78-79].وعن أبي بكر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرِ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعِقَابٍ“.

فيا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: مُرُوا بالمعروف بالمعروف، وانهوا عن المنكر بالمعروف، ومن رأى منكم منكرا فليغره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.

عباد الله: إنكم مسؤولون عن بيوتكم ورعيتكم، فاتقوا الله في نسائكم وأبنائكم، علموهم شرع الله، وكفوهم عن محارم الله، ربوهم على القيم ومكارم الأخلاق، فإنكم ستسألون عنهم غدا بين يدي الله، وهم شهداء عليكم، وستكتب شهادتهم ويُسْأَلُونَ، في يوم (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ) [الْمَعَارِجِ: 11-14]، فارعوا رعيتكم و(لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الْأَنْفَالِ: 27].وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [الْأَنْفَالِ: 28]، وما من راع استرعاه الله رعية فأمسى غاشًّا لهم إلا حرم الله عليه الجنة، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

المشاهدات 906 | التعليقات 0