المطر سُنن وعِبَر

عبدالله بن رجا الروقي
1435/02/09 - 2013/12/12 05:31AM
خطبة عن المطر
الحمد لله الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته، وهو الولي الحميد.
خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى ، فجعله غثاء أحوى , السماءَ بناها، والأرضَ دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، والجبالَ أرساها, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الكريمُ البرُّ الجوادٌ، فمن أعظم منه جودًا سبحانه، يَدُه مَلأَى، لا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ،
قال تعالى:
﴿ وإنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً ، أما بعد .
فإن في نزول الأمطار وتصريفها بين البلاد، عبرةً للمتذكرين من العباد ، وعظةً للمتعظين وحجة على الكافرين ، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ، وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ﴾

بل إن الرعد الذي يكون مع المطر ليسبح بحمد
الله ، قال تعالى:
﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ﴾

معاشر المسلمين: إن في إنزال المطر وإحياء الله الأرض بعد موتها لآية لقدرته تعالى على إحياء الموتى يوم القيامة، وتذكيراً برحمته لعباده قال سبحانه: ﴿ ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

وقال جل شأنه: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَار ﴾
وقال جل جلاله ﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
يقول العلامة ابن سعدي في الاية السابقة:
يخبر تعالى عن كمال قدرته وتمام نعمته أنه { يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا } من الأرض، { فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ } أي: يمده ويوسعه { كَيْفَ يَشَاءُ } أي: على أي حالة أرادها من ذلك ثم { يَجْعَلُهُ } أي: ذلك السحاب الواسع { كِسَفًا } أي: سحابا ثخينا قد طَبَّق بعضُه فوق بعض.
{ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ } أي: السحابَ نقطا صغارا متفرقة، لا تنزل جميعا فتفسد ما أتت عليه.
{ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ } بذلك المطر { مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } يبشر بعضهم بعضا بنزوله وذلك لشدة حاجتهم وضرورتهم إليه فلهذا قال: { وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ } أي: آيسين قانطين لتأخر وقت مجيئه، أي: فلما نزل في تلك الحال صار له موقع عظيم عندهم وفرح واستبشار.
{ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج كريم.انتهى كلامه رحمه الله.

عباد الله:
علينا أن نتذكر بنزول المطر، نعمة الله علينا به، ونشكر الله على ذلك وإن من المُحرَّم أن يُنسَب إنزالُ المطر إلى غيرالله من الكواكب والأنواء ، فعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطِرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) متفق عليه .

عباد الله، إن المطر نعمة من نعم الله، تستوجب شكر المنعم سبحانه الذي أنزله الله علينا ، فلولا فضله ورحمته ما سقينا.
أكثروا من شكره، فهو سبحانه يحبّ الشاكرين، ويزيد النعم عند شكرها، قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) وقال سبحانه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) وقال سبحانه: (أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ، أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) .

واعلموا رحمكم الله أن العبرة ليست بكثرة المطر بل العبرة بالبركة فيه ولو كان قليلاً ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليست السنة بأن لا تمطروا ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا ولا تنبت الأرض شيئا.رواه مسلم.
اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وزدنا من فضلك ياكريم.

الخطبة الثانية:
...أما بعد , فإن هناك سننا متعلقة بالمطر فمنها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى المطر : ((اللهم صيِّبا نافعا))، وكذا قول : ((مطِرنا بفضل الله ورحمته))، وفي صحيح مسلم ان النبي كان اذا راى المطر قال رحمة.
وصح عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته.

ومن السنن المأثورة عند نزول المطر، أن يحسر الإنسان شيئا من ملابسه حتى يصيب المطر بدنه ، تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد جاء في صحيح مسلم عن أنس قال: أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر قال: فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه من المطر فقلنا: يا رسول الله، لم صنعت هذا؟ قال: ( لأنه حديث عهد بربه ).

وممايقال عند هبوب الريح ماروى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال ( اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به ). رواه مسلم
ويحرم سب الريح لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
واعلموا رحمكم الله أنه لايجمع بين الصلاتين في المطر إلا إذا كان المطر كثيرا يبل الثياب بللاً شديدا حتى يتقاطر الماء منها ، وأما الجمع لأجل المطر الخفيف أو لرؤية السحاب فهذا لايجوز ولاتصح معه الصلاة التي جُمعت لماقبلها.

عباد الله: لنتذكر جميعاً بذلك الغيث غيثاً أعظم وأنفع الا وهو غيث القلوب بالذكر والإيمان فلنسأل الله إياه , قال العلامة ابن القيم رحمه الله :
لا يزال القلب في استسقاء و استمطار هكذا دائما ، يشكو إلى ربه جدبه ، و قحطه ، و ضرورته إلى سُقيا رحمته ، و غيث برِّه ، فهذا دأب العبد أيام حياته.
فالقحط الذي ينزل بالقلب هو الغفلة ، فالغفلة هي قحط القلوب و جدبها ، و ما دام العبد في ذكر الله و الإقبال عليه فغيث الرحمة ينزل عليه كالمطر المتدارك ، فإذا غفل ناله من القحط بحسب غفلته قلةً و كثرةً ، فإذا تمكَّنت الغفلة منه ، و استحكمت صارت أرضه خرابا ميتة ، و سَنَتُهُ جرداء يابسة ، و حريق الشهوات يعمل فيها من كل جانب.انتهى كلامه رحمه الله.
فاللهم أغث قلوبنا بذكرك وأرضنا بقطرك وبارك لنا يا بر يارحيم.
المشاهدات 2044 | التعليقات 0