المصلون التاركون

د. سلطان بن حباب الجعيد
1446/04/06 - 2024/10/09 08:45AM

الحمدُلله الذي تفضلَّ على عبادِه بأن جعلَ لهم أسباباً تصلُهم به، ويَعرُجُونَ بها إليه، فيكتبُ لهم ما شاءَ من نورِه وهدايتِه وغفرانِه ورضوانِه، ما يتأهلُ به الواحدُ منهم أن يصطفيَه ربُّه منه ويدنيه.

وأصلي وأسلمُ على أعبدِ الناسِ لله، وأدناهم منه منزلةً، من جعل اللهُ قرةَ عينِه في القربِ منه، صلاةً وسلاماً دائمين ما دامتِ السمواتُ والأرض.

أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، التي من تحلى بها، قذفَ اللهُ في قلبِه من الأنوارِ ما يفرقُ به بين طريقِ الأخيارِ والأشرار، يقولُ اللهُ تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجعَل لَكُم فُرقانًا وَيُكَفِّر عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِر لَكُم وَاللَّهُ ذُو الفَضلِ العَظيمِ﴾ [الأنفال: ٢٩]

وبعد

سأحدُثكُم اليوم، وأحثُكُم، على أداءِ الصلاةِ وإقامتِها، وليس قصدي من ذلك، إقامةُ صورتِها، فهذا وبحمدِالله يفعلُه كثيرٌ من المسلمين، ولكنْ إقامةُ حقيقةِ الصلاة، التي ترتقي بالمسلمِ في مدارجِ الكمال، وتنظمُه في سلكِ المتقين: ﴿الم ۝ ذلِكَ الكِتابُ لا رَيبَ فيهِ هُدًى لِلمُتَّقينَ ۝ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِالغَيبِ وَيُقيمونَ الصَّلاةَ وَمِمّا رَزَقناهُم يُنفِقونَ﴾ [البقرة: ١-٣]

وفرقٌ ما بين الأمرين: بين الصلاةِ في صورتِها، وحقيقتِها؛ فالصلاةُ في صورتِها يفعلُها الكثيرُ من المسلمين اليومَ _والحمدُلله_ أما الصلاةُ في حقيقتِها فقد تركَها وفرَّطَ فيها، لا أقول الكثيرُ من المسلمين، بل الكثيرُ من المصلين.

المصلي حقًا هو الذي إذا وقفَ بين يدي ربِه، استشعرَ أنه بين يدي الملكِ، الذي لا يخفى عليه منه شيءٌ، العالمِ بذنبهِ وحاجتِه، فهو في موقفِه ذاك بين خوفٍ ورجاءٍ؛ يخافُ ذنبَه ويرجو حاجتَه.

المصلي حقاً هو الذي يتوجَهُ بوجههِ جهةَ القبلة، وبقلبِه جهةَ ربِه، وكما أن من أقامَ صورةَ الصلاةِ لا يجيزُ لنفسِه أن يلتفتَ بوجههِ عن القبلةِ وإلا بطُلَتْ صلاتُه، فالمصلي حقاً لا يجيزُ لنفسِه أن يلتفتَ بقلبِه عن ربه وإلا بطُلَتْ صلاتُه. فليست الصلاةُ عند المصلي حقاً، أن يقيمَ جسدَه بين يدي ربِه، وقلبُه منصرفٌ عنه، يهيمُ في أوديةِ الدنيا، بل يسمعُ القرآنَ بقلبِه قبلَ أُذُنِه، ويلهجُ قلبُه بالذكرِ قبلَ لسانِه، ويخرُ قلبُه لله ساجداً قبلَ جسدِه. وكلُّ ذلك من معاني قولِه تعالى: ﴿وَقوموا لِلَّهِ قانِتينَ﴾.

المصلي حقاً، هو الذي ينظرُ للصلاةِ على أنها البراقُ الذي سيصعدُ به إلى السماءِ، وليست أداءً صورياً يريدُ أن يسقطَ به الواجبَ عن كاهلِه، فما أن يكبرَ حتى تعرجَ روحُه إلى ملكوتِ الله، وتسبحَ في أنوارِه، وتطيفَ بعرشِه، فيسكبُ الله له ما شاءَ أن يسكبَ في قلبِه من النورِ والإيمانِ والهدايةِ والصفاءِ وانشراحِ الصدر، حتى إذا ما انتهتْ صلاتُه عادَ من غيبتِه، وآبَ من سفرِه، فقال لمن عن يمينِه وشمالِه، كالملتقي بهم بعدَ فراقٍ: السلامُ عليكم ورحمةُ الله .. وهذا من معاني قولِه عليه الصلاة والسلام: "وجعلت قرةُ عيني في الصلاة".

المصلي حقاً، هو الذي يجدُ في الصلاةِ أنساً، يفوقُ أنسَه بالناسِ، هي له كباردِ الظلِ في الهجيرِ الحار، والواحةِ الخضراءِ في قاحلِ الصحراءِ، يلوذُ بها بعد أن مسَه من الدنيا ما مسَه؛ من ذنوبِها، وهمومِها، وأذى أهلِها، فلا يفارقُها إلا وقد وجدَ لذنبِهِ غفراناً، ولهمِه سلواناً.. وهذا من معاني حالِ النبي صلى الله عليه وسلم، الذي روي عنه: «كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا حزَبَه أمْرٌ، فَزِعَ إلى الصَّلاةِ.»

المصلي حقاً، هو الذي يستقي من صلاتِه الصبرَ، ويتعلُمه منها، حتى يكونَ سجيةً له، فيكونَ الأقدرَ على مجابهةِ مهامِ الحياةِ وكبدِها؛ فلا يضجرُ، والأقدرَ على مجابهةِ مصائبِها وأحزانِها؛ فلا يجزعُ، والأقدرَ على مجابهةِ نعيمِها وفرحِها؛ فلا يبطرُ. وبهذا نفهمُ الربطَ بين الصبرِ والصلاةِ في مواضعَ من القرآن، من مثلِ قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا استَعينوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرينَ﴾ [البقرة: ١٥٣]

وتأملْ كيف يستثني اللهُ المصلين بهذا الصبرِ، من التعلقِ بالدنيا، ذلك التعلقُ الذي يقودُ إلى سببين من أعظمِ أسبابِ التعاسةِ فيها، وهو الحزنُ عليها إذا أدبرت، والفرحُ بها إذا أقبلت، فيكونُ بذلك محصناً بصلاتِه من الأحزانِ، يخوضُ غمارَ الحياةِ بصدرٍ منشرحٍ، وسعادةٍ غامرةٍ، في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الإِنسانَ خُلِقَ هَلوعًا ۝ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزوعًا ۝ وَإِذا مَسَّهُ الخَيرُ مَنوعًا ۝ إِلَّا المُصَلّينَ ۝ الَّذينَ هُم عَلى صَلاتِهِم دائِمونَ﴾ [المعارج: ١٩-٢٣]

المصلي حقاً، هو الذي لا تنتهي صلاتُه بتسليمِه، بل تمتدُ لتشملَ سائرَ حياتِه، فهو من أهذبِ الناسِ سلوكاً وأحسنِهم أخلاقاً، يُعرَفُ بين الناسِ بحلْمِه إذا غضبوا، وبصبرِه إذا جزِعوا، وبتقواه إذا فجَروا، وبعدلِه إذا ظلمُوا، وبصلتِه إذا قطعُوا، وبعفوِه إذا انتقمُوا، وبحيائِه إذا تهتكُوا، وبحسنِ حديثِه إذا تَفَحَشُوا، لأنه على موعدٍ مع ربِه كلَّ يومٍ خمسَ مرات، فهو يستحي أن يلتقيَه وقد عصاهُ وخالفَ أمره وكان له على غيرِ ما يحب، وكلُّ ذلك من معاني قولِه تعالى: ﴿اتلُ ما أوحِيَ إِلَيكَ مِنَ الكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ وَلَذِكرُ اللَّهِ أَكبَرُ وَاللَّهُ يَعلَمُ ما تَصنَعونَ﴾ [العنكبوت: ٤٥]

المصلي حقاً، هو الذي نوّرَ اللهُ قلبَه بنورِه، فلا يَضلُ ولا يُظلُ، لا يشتبهُ عليه الحقُ من الباطلِ، ولا المحقُ من المبطلِ، لا يحرفُه عن مسارِه دعواتُ المبطلين، ولا إرجافُ المرجفين، لا تغرُّه الدعواتُ المضللة، ولا الدعاياتُ الكاذبةُ، ولا يعمي عينَه زخرفُ الباطلِ وانتفاشُه، فهو على يقينٍ من أمرهِ، ماضٍ في سبيلِه حتى يلقى ربَه، فإذا لقيَه أتمَ اللهُ له نورَه يومَ القيامة، وهُدِيَ به إلى الجنةِ، وكلُّ ذلك من معاني قولِه عليه السلام: " الصلاةُ نور" وقولِه: " بشرِّ المشائينَ في الظلمِ إلى المساجدِ، بالنورِ التامِّ يومَ القيامةِ"

وقولِه تعالى: ﴿يَومَ تَرَى المُؤمِنينَ وَالمُؤمِناتِ يَسعى نورُهُم بَينَ أَيديهِم وَبِأَيمانِهِم بُشراكُمُ اليَومَ جَنّاتٌ تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ خالِدينَ فيها ذلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظيمُ﴾ [الحديد: ١٢]

أقول قولي هذا ..

 


الثانية

وبعد

يحقُ لنا أيها الإخوةُ بعدَ هذا التطوافِ في أسرارِ الصلاةِ الحقيقيةِ ومقاصدِها العليةِ، أن نطرحَ هذا السؤالَ:

أخي المصلي؛ لماذا أنت تاركٌ للصلاة؟!

 


يبدو السؤالُ غريباً ومتناقضاً ، لكني أعتقدُ أنه ليس كذلك، بل هو سؤالٌ منسجمٌ وينبغي أن يُطرح .

المصلّي يرعبُه هذا السؤالُ؛ لأنه أعرفُ الناسِ بقيمةِ الصلاةِ ومكانتِها، فهو حتى لا يواجهَ هذا السؤالَ هرعَ إلى صلاتِه وأداها.

ولكن مع كلِّ ذلك لا يزالُ هذا السؤالُ يطاردُه، وليس في منأى عنه.

كيف يكونُ هذا ؟!

يكونُ إذا أدى المسلمُ صلاتَه بلا طمأنينةٍ ولا خشوعٍ ولا حضورِ قلب.

فالصلاةُ لها صورةٌ، ولها حقيقةٌ، و ثلةٌ من المسلمين - ولله الحمد - أفلحوا في المحافظةِ على أداءِ الصلاةِ في صورتِها، وقليلٌ منهم أفلحوا  في المحافظةِ عليها في حقيقتِها.

والنبيُ عليه السلام رأى رجلاً صلى، بلا طمأنينةٍ، فلما فرغَ من صلاتِه قال له النبيُّ عليه السلام : " ارجع صلّ فإنك لم تصل ".

فحكمَ عليه بأنه لم يصلِّ رغمَ أدائِه للصلاة .

وكلُّ آثارِ الصلاةِ وثمراتِها الواردةِ في النصوصِ؛ من تهذيبِ السلوك، والبعدِ عن الفواحشِ، وطمأنينةِ القلبِ، وانشراحِ الصدرِ، والصبرِ على المصائبِ، والرزقِ في الدنيا، وغيرِها كثيرٌ، متوقفةٌ على أداءِ الصلاةِ في صورتِها الحقيقيةِ.

وبهذا نستطيعُ أن نفسرَ كيفَ أن صلاتَنا حاضرةٌ وثمراتُها غائبةٌ؟!

لأن ثمراتِ الصلاةِ لا تحضرُ إلا مع حضورِ الصلاةِ الحقيقيةِ.

فلذلك يلزمُنا أن نطرحَ هذا السؤالَ على أنفسنِا مراتٍ ومراتٍ، حتى نبثَ في صورةِ الصلاةِ التي أتينا بها الروحَ، ثم هي كفيلةٌ بعد ذلك أن تعرجَ بأرواحِنَا في مدارجِ الملكوتِ، وتَصِلُنا - بالفعل - بالحي الذي لا يموت .

وإذا لم نفعلْ، نكنْ بذلك قد هربنَا من تركِ الصلاةِ الأخفِ ووقعنَا في تركِ الصلاةِ الأعظمِ!!

 
المرفقات

1728452700_‎⁨المستند (4)⁩.pdf

المشاهدات 245 | التعليقات 0