المسجد الأقصى
الشيخ نواف بن معيض الحارثي
المسجد الأقصى
الخطبة الأولى :
الحمد لله الذي في السماء تعالى وتقدس، واصطفى من البقاع الحرمين الشريفين والبيت المقدس، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القوي المتين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه الطيبين الطاهرين ، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فأوصِيكم ونَفسي بتَقوَى الله ....
عن أبي ذرٍّ t قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ مسجِدٍ وضِعَ في الأرض أوّل؟ قال:(المسجدُ الحرام)، قال: قلتُ: ثمّ أيٌّ ؟ قال:( المسجدُ الأقصى)، قلتُ: كم كان بينهما؟ قال: (أربعونَ سَنةً، ثمّ أينما أدرَكتكَ الصلاةُ بعدُ فصلِّهِ فإنّ الفضلَ فيه) . خ. م .
عباد الله: وصَف القرآنُ الكَريم في كثيرٍ مِن آياتِه بيتَ المقدِس ومَسجدَه بالبَرَكةِ، وهي النّمَاءُ والزيادةُ في الخَيرات ، فقالَ سُبحانه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ )، وقالَ تَعَالى:(وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ )، وهذا حكايةٌ عن الخليلِ إبراهيمَ عليه السلام في هجرته الأولى إلى بيتِ المقدس وبلادِ الشام. وفي قصّة سليمانَ عليه السّلامَ يقول سبحانَه: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا )
وفي قولِه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ) قالَ كَثيرٌ من المفسِّرين: "هو مسجِد بيتِ المقدس".
وأجمَع المفسِّرونَ على أنَّ المسجِدَ المذكورَ في قوله تعالى ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ )أنه المسجدُ الأقصى.
أيها المصلون: المسجِدُ الأقصى هو ثاني مسجِدٍ بُنِيَ في الأرض، ولا يدخُلُه الدجّال فعنه e: (عَلامتُه يمكُثُ في الأرضِ أربعينَ صَباحًا، يبلغ سلطانُهُ كلَّ مَنهلٍ، لا يأتي أربعةَ مساجِدَ: الكعبةَ ومسجِدَ الرّسولِ والمسجِدَ الأقصَى والطّور) أحمد .
وعَن أبي ذرٍّ t قال: تَذاكَرنا ونحنُ عندَ رسول اللهe أيّهما أفضَلُ: مسجِدُ رَسولِ الله e أو مسجدُ بيتِ المقدس؟ فقالَ رسولُ الله e: (صلاةٌ في مسجِدِي هذا أفضَلُ من أربَعِ صَلوات فيه، ولَنِعمَ المصلَّى ، وليوشِكَنَّ أن يكونَ للرّجلِ مثلُ شَطَنِ فرسِه من الأرضِ حيثُ يَرَى منه بيتَ المقدِس خيرٌ له من الدّنيا جميعًا ) أو قال: (خيرٌ له من الدّنيا وما فيها ) أخرجه الحاكم وصحّحه ووافقه الذهبيّ .
وعن ميمونةَ مولاةِ النبيِّ e قالت: يَا نبيَّ الله، أفتِنا في بيت المقدس، فقال:( أرضُ المنشَرِ والمحشَرِ، ائتوُهُ فصلُّوا فيه؛ فإنَّ صلاةً فيه كألفِ صلاةٍ فيما سواه ).أحمد وغيره . وعنه e «فَضْلُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِائَةُ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَفِي مَسْجِدِي هَذَا أَلْفُ صَلَاةٍ ( وَفِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَمْسُمِائَةِ صَلَاةٍ) » أخرجه البيهقي في السنن الصغرى .وفيهما مقال عند أهل العلم .
عباد الله: لقد بين النبيُ e الارتباطَ الوثيقَ بين هذه المساجد، وهو مشروعيةُ شدِّ الرحالَ إليها بقصدِ التعبدِ فيها، فعَن أبي سعيدٍ الخدريِّ t قال: قال رسولُ الله e:( لا تَشُدُّوا الرحالَ إلا إلى ثلاثةِ مساجِدَ: مسجدي هذا والمسجدِ الحرام والمسجدِ الأقصَى ) خ. م .
إنها مساجدُ الإسلام والمسلمين مهما اختلفت ديارُهم، وتباينت ألوانُهم، أو تباعدت عصورُهم، وفي الحديث دلالةٌ على الاهتمامِ الذي أولاه الرَّسولُ e للأقصَى المبارك ، وربَط قيمتَه وبركتَه مع قيمةِ وبركة المسجدين الشريفين .
عباد الله: إِتيانُ المسجدِ الأقصى بقصدِ الصَّلاة فيه يُرجى أن يُكفِّر الذنوبَ ويحُطَّ الخطايا، فعَنه e:
(أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بُنْيَانِ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ، وَمُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَا يَأْتِي هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : «أَمَّا اثْنَتَانِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَةَ» رواه أحمد وغيره
والقدسُ حاضِرَةُ الخلافةِ الإسلاميّة في آخرِ الزَّمان، فعن عبد الله بنِ حَوالَة الأزديّ قال: وضَعَ رَسول الله e يدَه على رَأسِي أو قَالَ: عَلَى هَامَتي، ثمّ قَالَ:
( يَا ابنَ حَوالة، إذا رَأيتَ الخِلافةَ قد نَزَلَت الأرضَ المقدَّسَة فقد دنَت الزلازلُ والبلابِلُ والأمورُ العِظام، والساعةُ يومئذٍ أقربُ من النّاس من يدِي هذِه مِن رأسِك) أحمد وغيره .
إخوة الإيمان : اقترن المسجدُ الأقصى بالمسجد الحرام في قبلةِ التعبدِ للرحمن ، وذلك في مسألة التوجهِ شطرَه في الصلاة ، فقد كان المسجدُ الأقصى قبلةَ الأنبياءَ السابقين، وظلَّ e على ذلك مدةً من الزمان ثم أُمرe بالتحولِ إلى الكعبةِ المشرفة، ولعلَّ في استقبالِ بيتِ المقدِس أوّلاً تنبِيهُ المسلمِين إلى ما يجِبُ عليهِم القِيامُ به نحوَ بيتِ المقدِس مِنَ الحِفاظِ عليه مِن أن يُدَنَّسَ برِجسِ الوثنيّة أو المعاصِي، ولِتبقَى القدسُ خالدةً في أذهان المسلمين حتى لا تُنسَى ما بقِي فيهم القرآنُ يُتلَى وما بقيت قلوبُهم عامرةً بالإيمان .
وإِنَّ إِسْرَاءَ النَّبِيِّ e مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى فِيهِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَهَمِّيَّةِ تلكَ البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ. فَهِيَ أَرْضُ النُّبُوَّاتِ، وَأُولَى القِبْلَتَيْنِ، وَثَالِثُ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَمَسْرَى رَسُولِ اللهِ eوَمِنْهَا عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ.
عباد الله: البيتُ المقَدَّس بقِي وسَيَبقى على الرَّغمِ مِنَ المِحَن التي عَصَفَت وتَعصِف بالمسلمين حصنَ الإسلامِ ومعقِلَ الإيمان إلى قيامِ السّاعة، قال e : (لا تَزَال طائفةٌ من أمّتي على الحقّ ظاهرين لعدوِّهم قاهِرين، لا يضرّهم من خالَفهم إلاّ ما أصابهم مِن لأوَاء حتى يأتيَهم أمرُ الله وهُم كذَلك)، قالوا: يا رسولَ الله، وأينَ هُم؟ قالَ: (بِبَيتِ المقدِس وأكنَافِ بيتِ المقدِس) أحمد .
أيها المؤمنون : اعلَمُوا أَنَّ المَسجِدَ الأَقصَى حَقٌّ لِلمُسلِمِينَ ، فلِكلِّ مسلمٍ حقٌّ في تلك الأرضِ المباركة، وأن شأنَ القدسِ شأنُ المسلمين كلِّهم بنصِّ كتابِ اللهِ وسنّة رسولِه e، يقابِلُه واجِبُ النُّصرةِ بكلِّ صوَرِه ، فعلى كل مسلم أن يعرف للأقصى المبارك قدره ، وأن يرتبط به ارتباطَ حبٍّ وإيمان، مدافعا عن طهره ، منافحا عن كرامته فإنَّ التفريطَ فيه تفريطٌ في دينِ الله (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم ) . بارك الله لي ...
الخطبة الثانية في المسجد الأقصى
مقدمة:.............. أَمَّا بَعدُ : فيا عباد الله: بَشَّر النبيُّ e بِفتحِ بيتِ المقدِس، فقال: (اعدُد ستًّا بين يدَيِ الساعةِ: موتِي ثمّ فتحُ بيت المقدِس) خ.
ولقَد مكَّنَ اللـهُ تعالى لِلمسلِمين فتحَ بيتِ المقدسِ في عهدِ الصَّدرِ الأوّل، فأقامُوا فيه الصَّلاةَ، وأمروا بالمعروف، ونَهَوا عن المنكَر، وثبَت دينُ الله في الأرضِ، ثم احتَلَّ النَّصَارَى المَسجِدَ الأَقصَى ، وَتَوَقَّفَتِ الصَّلاةُ فِيهِ أعواما عديدة ، فَلَمَّا أَرَادَ اللـهُ جل وعلا تطهيرَه ، قَيَّضَ لَهُ صَلاحَ الدِّينِ فَطَهَّرَهُ مِن رِجسِهِم، ثم عاد إليه يهود ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا )
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّـهِ e قَالَ:(لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ المُسلِمُونَ اليَهُودَ فَيَقتُلُهُمُ المُسلِمُونَ ، حَتَّى يَختَبِئَ اليَهُودِيُّ مِن وَرَاءِ الحَجَرِ وَالشَّجَرِ ، فَيَقُولُ الحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ : يَا مُسلِمُ ، يَا عَبدَاللهِ ، هَذَا يَهُودِيٌّ خَلفِي فَتَعَالَ فَاقتُلْهُ إِلاَّ الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ ) . م .
إخوة الإيمان : إن موقف مملكتنا الثابت منذ القدم تجاه المسجد الأقصى بل وتجاه القضية الفلسطينية ظاهر البيان واضح للعيان فهي تؤكد دائما وقوفها ودعمها للقضية وتؤكد أن المحافظة على القدس الشريف ودماء الأبرياء هي مسؤولية الجميع .... نسأل الله أن يبارك جهودهم ويعز الإسلام والمسلمين ...
ثم صلوا وسلموا ...
المرفقات
1698241743_المسجد الأقصى.pdf
1698241749_المسجد الأقصى.docx