المستظلون بظل العرش (6) رجل تصدق بصدقة فأخفاها

د. منصور الصقعوب
1434/02/27 - 2013/01/09 19:35PM
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده سبحانه، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المسلمون: حين نرى المرء يقضي وقته, ويبذلُ جهده, ليجمع المال, ثم ترى صاحب المال يبذله لفقير محتاج, تعلم حينها أنه ما بذل المال الغالي إلا في أمر أحب وأرغب, وهو رضا الله سبحانه, وقد صدق < إذ قال " والصدقة برهان" أي برهان صدق الإيمان .
وحديثنا اليوم أيها الكرام هو تتمة لأحاديث المستظلين بظل العرش وهو عن رجل تصدق بصدقته لأجل الله, ومن شدة إخفاءه لعمله أخفاها عن غيره, حتى لكأن شماله لا تعلم بما بذلت يمينه.
ذكرت كتب التراجم أن علي بن الحسين كان من أغنياء الناس ولكن الناس لم يكونوا يرون منه انفاقا وصدقات وكان بعضهم ربما عتب عليه ولمزه بالبخل ولكنه كان له مع البذل شأن آخر, لقد كان إذا ما نامت العيون وأظلم الليل حمل الأطعمة والمؤن على ظهره, ومضى متنقلا بين بيوت فقراء المدينة فيعطي كل محتاج ولا يعلم به أحد من الناس, وحتى من يعطيهم من الفقراء لم يعرفوه يوما من الأيام, ومضى على هذا الشأن حتى توفاه الله, وفي أثناء غسله رأى مغسلوه أثر سواد على ظهره, وظلوا يتساءلون عن أثر الحمل حتى فقد بوفاته مائة عائلة من الفقراء ممن يعولهم ومن يحمل لهم الطعام في الليل فعرف الجميع أن الحامل والمنفق لم يكن إلا علي بن الحسين, وأن علياً كان ذا صدقة يبذلها في السر, وأن الأثر في ظهره هو أثر الحمل المتكرر.
عباد الله : المال مال الله أعطاه عبده ليرى كيف يعمل فيه, والذي أغنى الغني وأفقر الفقير, قادر في طرفة عين أن يقلب الحال فيعود الغني فقيراً.
المال فتنة بين يدي صاحبه, يُسأل عنه من أين جمعه, وأين وضعه, وبين هذا السؤالين فكم من أقوام من أهل المال سيتساقطون, إذا لم يعدوا لذلك السؤال جوابا صوابا فرسبوا في امتحان من أين اكتسبه وفيم أنفقه.
أيها المبارك: يا صاحب المال؛ نعم لقد تعبت في جمعه وأمضيت عمرك لأجل نيله, فما الذي يدعوك لأن تبذله لامريءٍ ما تعنى فيه.
إن الفقراء نعمة من الله للأغنياء وفرصه لهم أن أعانوهم ليتقربوا لرب الارض والسماء
تأمل في شأن المال الذي في يدك, والذي تقول إنه لك.
من الذي أقدرك على التكسب به والعمل, ومن الذي وفقك للربح في وقت ربما خسر غيرك, من الذي جعلك غنيا وغيرك فقير, أليس هو الله الذي أحوج الفقير إليك, ولم يحوجك إلى أحد من خلقه لتسأله فأين الإحسان.
عباد الله: كثيرٌ من يحل المال بيده, لكن منهم من بخل, {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} والله غني عنه وعن بذله, أوعده الشيطان الفقر فشد يده فمحقت بركة ماله وكان ذلك سبب خساره.
ومنهم أقوام بذلوا وقدموا وفي أوجه الخير تصدقوا, جعلوا المال مركبا موصلا للجنان, وطريقا ينالون به رضا الرحمن, كل ما سمعوا بمجال خير وبذل ساهموا, وبمحتاج سارعوا, وبباب إنفاق تقدموا, وما ضرهم بل لقد زادهم لأنهم يتعاملون مع الكريم الشكور الذي يعطي على القليل الكثير, لأنهم يتعاملون مع الذي قال {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } أما والله ما ضرهم وما نقصت أموالهم لأن الله رغّبهم فقال {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُوَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
فطوبى لنفس طابت ببذل المال وهو للنفس محبوب فأرخصته في سبيل نيل رضا علام الغيوب والاستضلال بظل العرش في يوم الكروب والمرء في ظل صدقته يوم القيامة.
وكان من هؤلاء رجال مضوا وثبتت أجورهم وبقيت مآثرهم, حينما أنفقوا في سبيل الله وتصدقوا
أبو بكرا يأتي بماله صدقة فيقول الرسول له: ما أبقيت لأهلك؟ فقال أبقيت لهم الله ورسوله
عثمان ا ما زال ينفق وينفق في حفر آبار, وإطعام فقراء, وحين احتاج الرسول < لتجهيز جيش العسرة قال للصحابة حاثاً « من جهز جيش العسرة فله الجنة » فما زال عثمان يعطيه من المال ومن الرواحل حتى قال < « ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم »
وكان منهم أبو طلحة الذي خرج من بستانه وتصدق به وهو أحب أمواله إليه حينما سمع آية واحدةً في القرآن تقول {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ }
وكان منهم عائشة التي جاءها من معاوية مائة ألف درهم فما قامت حتى أنفقتها كلها للفقراء ونسيت نفسها وكانت حينها تلبس رداء مرقعاً
ونماذج السخاء ليس لها انقضاء, وصور المنفقين في الأمة في القديم وفي الحديث كثيرة, وما زالت أوجه الإحسان تشهد تسابقا من أهل الأموال, والموفق من وفقه الله.
ولكن ماذا عني وعنك؟ أجل؛ نحن نعلم فضل البذل, نحن نملك المال, وأبواب الإحسان مفتوحة فماذا قدمنا من الصدقات نستظل بها يوم القيامة.
إن في المسلمين جوعى وفيهم من لا يجد مسكنا يؤويه وفيهم من لا يجد قيمة طعام أبناءه ولا علاج مريضه وهؤلاء بين أيدينا, في المسلمين بلاد فتك الظلمة بأهلها, وهم يحتاجون للقمة غذاء, أو لسلاح يقاتلون به الأعداء, أو لقطرة دواء, ربما مات الميت منهم لأنه لم يجد غطاء يحميه من البرد, أو لم يجد قطرة دواء, فأين نحن عنهم.
بل أين نحن عن أنفسنا, فنحن أحوج لأن ننفع أنفسنا بالإنفاق أشد من حاجة الفقراء فحاجتهم دنيوية وحاجتنا أخروية, فبالإنفاق يقي المرء نفسه من البلايا والكروب وبالإنفاق تطفأ الخطايا وتكفر الذنوب, وبالإنفاق تفتح أبواب الرزق, ويبارك الله في المال, ويقي صاحبه من العذاب
أيها المبارك : وإذا وفقت للصدقة فلتكن صدقتك من كسب طيب فالله لا يقبل إلا طيباً
وأنت راء من الناس من ينفق فيبطل أجره بالمن على من أعطاه, والأذى له بتعييره بالنفقة أو بتذكيره بها كلما جاءت مناسبة, ولتعلم أن المنة لله وليست لك وقد قال الفضيل عن السؤال المحتاجين: نتصدق عليهم بالزاد فيحملون أزوادنا إلى الآخرة بغير أجره حتى يضعونها في الميزان بين يدي الله فمن أحب إلينا منهم ؟
وأخلص أيها المبارك نيتك فكم من أقوام بذلوا لكن نياتهم لم تكن لله فلا للمال أمسكوا ولا بما بذلوا انتفعوا.
واعلم أن فضل الصدقة ما أخرجته حال صحتك وزمن حياتك فهي أكمل مما يخرج حال المرض ومفارقة الدنيا أو مما يكون بعد الموت وفي الحديث أنه < سئل أي الصدقة أفضل فقال أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت...
وقال ميمون بن مهران لدرهم أتصدق به في حياتي أحب إليه من مائة درهم يتصدق بها عني بعد مماتي, فرحم الله نفساً هيأت لمستقبلها الأخروي وقدمت لنفسها قبل حلول رمسها, استغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده.
أيها المسلمون: لقد تميزت صدقة المستظل بظل العرش بأنها مخفاة لا يعلم بها أقرب الناس له, حتى لكأنه من شدة الإخفاء لا تعلم يده الشمال ما أنفقت اليمين
وما أشرف الصدقة حين يسر بها, وما أشرف العمل حين يكون بينك وبين الله تعالى, وشتان بين من يعمل الطاعة لا يعلم بها إلا الله, ومن يعمل العمل فيذيعه بين الناس
وأعمال السر، من أجل القربات إن في الانفاق أو في غيره من الطاعات وكلما كان العمل سراً بين العبد وربه كان أبلغ في إخلاصه وأعظم لأجره, فالنفوس ضعيفة ولربما لو علم الناس بإنفاقك أو أعمالك وأثنوا عليك, لربما دخل عليك الرياء, أو دخل عليك من طلب المحمدة ما قد يتلف عملك
ولكل هذا فللسلف عناية وتأكيد على أن يكون للمرء أعمال بينه وبين الله لا يطلع عليها أقرب الناس إليه, وقال قائلهم: أكتم حسناتك أشد مما تكتم سيئاتك
قال محمد بن واسع لقد أدركت رجالا يكون الرجل رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة وقد بل ما تحتها من دموعه ولا تشعر به امرأته, وأدركت رجالا يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جانبه.
وكان أيوب يقوم الليل كله فيخفي ذلك فإذا كان عند الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة.
وفقد ابن المبارك شابا يختلف إليه لطلب الحديث فسأل عنه فقيل محبوس على عشرة الآف فسأل عن غريمه وأعطاه الدين وحلّفه ألا يخبر أحدا ما عاش فأفرج عن الشاب المحبوس وأتى الشاب إلى ابن المبارك فقال له أين كنت فقال كنت محبوساً بدين, فجاء رجل لم أدر من هو فقضي ديني فقال ابن المبارك فاحمد الله, إحسان بخفاء وإنفاق في السر فأين هذا ممن يعمل العمل اليسير فيعلم به كل من قابله إن صام شكى العطش لمن قابله وإن تهجد شكى السهر لمن حادثه أو أنفق أتى بكلام ليعلم الناس بإنفاقه وبذله وما هذا فعل المخلصين.
فأهل الإخلاص يخفون العمل ما لم تدع حاجة لإظهاره لأن الذي بيده الإحسان يراهم وهم يريدون الأجر منه، والله يراهم ويعلم مقاصدهم ونياتهم وسيجازى كل امرئ بما نواه.
فيا أيها الموفق ماذا عندنا من خبيئة الأعمال ومن سرائر الطاعات؟ ركعتان في ظلمة الليل لا يعلم بها إلا الله؛ إحرص عليها, صدقة تسر بها, ودمعة تخرج منك في الخفاء لها شأن عند رب السماء, والله يرى والملائكة تكتب, والصحف ستظهر يوم تبلى السرائر.
وبعد معاشر الكرام ففي غمرات شدائد الآخرة وأهوالها يبحث المرء عما ينجيه فتأتي الصدقات لتثقل الميزان وليستظل المرء بها تحت عرش الرحمن.
هنيئا لمن بذلوا الإحسان وانفقوا في وجوه البر وأرغموا الشيطان وأسروا بأعمالهم ولم يطلعوا عليها أي إنسان {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } فها هي أوجه البر تنتظر بذلكم وعطاءكم, وها هم المحتاجون يؤملون مساعدتكم, وسيمضي الجميع الغني والفقير, ولن يبقى لأصحاب الأموال انتفاعٌ إلا بما قدموا وستمضي اللذات, ويبقى للمرء ما قدمه من صالحات، وإذا علمت أن أصحاب الغنى يحبسون للسؤال عن أموالهم ويدخل الفقراء الجنة قبلهم بخمسمائة سنة فإن أيسر الأغنياء حساباً وأعظَم ثواباً الباذلون في الله ولله, وإن نار جهنم تتقى بالصدقة فاتق اليوم منها ولو بشق تمرة .
ولا تنس أن أهل البذل ينجيهم الله بفضله {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لا يصلاها إلا الأشقى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى } فهاهي صفة المسظل بظل العرش؛ إنفاق بسر وإحسان بخفاء, اللهم اجعلنا منهم
المشاهدات 3807 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا