المسارعة في الكفر.. سمير بن خليل المالكي الحسني

المسارعة في الكفر.. سمير بن خليل المالكي الحسني



الحمد لله القائل {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم}.

والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خيرة خلق الله ، إمام الأنبياء وصفوة الأتقياء ، محمد بن عبدالله ، وعلى آله وصحبه ومن تبع سنته وسار على نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد ، فالقلب يحزن والعين تدمع ولا نقول إلا ما يرضي الرب.

فحسبنا الله ونعم الوكيل ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

إنها مصيبة وقارعة ، أن يقدم شانئ حقير على قول يتنقص فيه من الذات العلية المقدسة ، أو من مقام النبوة الطاهرة ، أو من شريعة الإسلام الكاملة ، بما لا يخطر على قلب مسلم أن يصدر مثله ، أو قريب منه ، ممن يزعم أنه مسلم ، ثم يعلنه ويجاهر به في معقل الإسلام ، وبجوار البيت الحرام !

{إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين * كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز}.

لقد غدت المسارعة في الردة والكفر ظاهرة من ظواهر هذا العصر ، بحيث إنه لا يكاد يمر علينا يوم ، إلا ونسمع فيه من مقالات الكفر الصريح ، ما لا مرية فيه ، ولا عذر فيه لقائليه.

نسمع ما تقشعر منه الجلود والأبدان وتدمى له قلوب أهل الإيمان ، في تنافس محموم ، وتسابق عجيب ، إلى حضيض الكفر والزندقة.

* * * * *

"بين الأمس واليوم"

لقد طلع علينا قبل عقدين أو ثلاثة ، رهط من الكتاب والأدباء ، ممن أعلنوا الكفر وصرحوا به ، لكنهم كانوا لايفردون الكفر وحده ، بل يدسونه في ثنايا رواية ، أو مقالة ، أو قصيدة ، وقد أعدوا له جوابا ، تحسبا لأدنى مساءلة (يوم أن كان هناك رقابة ومساءلة) !

وأكثرهم كان يقف عند حد من الكفر لا يتجاوزه ، خوفا من ردة فعل الغيورين ، لا خوفا من ذي القوة المتين.

كان ذلك شأنهم إبان وجود الأعلام " الكبار" من حراس الملة والدين.

حتى إذا ذهب أولئك الأخيار، وخلفهم من لا يحسن أن يسد مسدهم ، وكثر في المنتسبين للعلم من يمد يديه لا رجليه ، وانتكس بعض مشاهير دعاة "الصحوة " ، ممن كانت له عند الجماهير حظوة ، وفروا من الزحف مدبرين ، ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف قاعدين ..

وحتى إذا أمن الفجار من العقوبة ، وفسح لهم في كل وسائل الإعلام ، وقيل لهم : أعلنوا الكفر آمنين .. قاموا فرفعوا بالكفر العقيرة ، واستطالوا على الله تعالى وعلى الدين والملة.

وصاروا يصرحون بالكفر غاية التصريح من غير تورية ولا تلميح.

وتنافسوا فيه ، وتسابقوا إليه ، وأجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم ، كل يسعى للفوز و الظفر : أيهم بالكفر أشهر !

ولم يأت هؤلاء بجديد، وما كانوا بدعا ممن سبقهم من أعداء الرسل في القرون الخالية.

ومن استقرأ كلام الله في الرد على أمثال هؤلاء ، وجد راحة في القلب المكلوم ، وتعزية للنفس الحزينة.

وحسب العبد المؤمن _ بعد أن يجاهد في دين الله حق جهاده _ أن يعلم بأن الله القوي العزيز قد انتصر لدينه ولرسوله ولعباده المؤمنين ، ممن عاداهم من الكفار والملحدين على مر العصور والأزمان.

وحسب المؤمن أن يقرأ مثل هذه الآيات البينات فإنها كافية شافية :

{من كفر فعليه كفره}.

{إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر}.

{إنا كفيناك المستهزئين}.

{قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون}.

{يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون}.

{وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين}.

{وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا}.

{زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة}.

{إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون .. }.

{ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ¤ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}.

وهذه الآية الأخيرة صريحة في تكفير من استهزأ بشيئ من الدين ولو على سبيل اللعب والمزاح.

وفي سبب نزولها : أن بعض ضعاف الإيمان استخف بالمؤمنين الأخيار ، فقالوا " ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء ، أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء " .

فكفرهم الله بمقالتهم تلك ، مع أنهم لم يصرحوا بالاستهزاء به سبحانه ولا بآياته ولا برسوله ، ومع أنهم كذلك لم يكونوا مصرين على ما قالوه ، بل ذكروه على وجه التسلية واللعب.

فكيف بمن تعمد السخرية والاستهزاء بذات الله وأسمائه وأفعاله ، وبرسوله صلى الله عليه وسلم ، وبشريعة الإسلام و أحكامه؟

* * * * *

" شنشنة أخزم "

والردة في هذه الأمة حدثت في عصر النبوة ، حيث ارتد بعض من أسلم ممن هاجر إلى الحبشة.

وأما الزندقة ، وهي النفاق ، فأول ظهورها كان بعد غزوة بدر، فكان المنافقون يبثون الشك في الدين ، ويسعون في التخذيل بين المؤمنين ، فتوالت الآيات في فضحهم وفي التحذير منهم.

وقد أخذت الردة بعد عصر النبوة ألوانا من الملل والنحل ، فخرجت الخوارج ، وتشيعت الشيعة ، وظهرت القدرية والمرجئة ، ثم تبعتها بعد ذلك أصناف الفرق ، كالجهمية والباطنية.

ولم تزل تلك المذاهب والفرق في تشعب وتفرق إلى عصرنا هذا ، الذي بلغ الغاية في الكفر والزندقة.

ولقد صلب في الزندقة وقتل في الردة عدد كبير على مر العصور .

* * * * *

" المروق من الدين "

وأول ردة جماعية حصلت في الإسلام بعد عصر النبوة ، كانت في عهد أبي بكر ، فقاتلهم حتى قضى على آخرهم ، فكانوا أثرا بعد عين.

ثم خرجت الخوارج في عهد عثمان واستفحل أمرهم في عهد علي ، وقد انتحلوا الغلو في الدين ، والأخذ بما ظهر لهم من فقه قاصر أعوج للنصوص ، دون الرجوع إلى فقه السلف الصحيح.

وكان من أسباب ضلال تلك الفرقة أمران:

*الغلو في الدين.

*والخروج عن صراط المؤمنين.

ودعوى الجهال في هذا الزمان: أن فهم نصوص الشرع ، والقول في الدين ، سائغ لكل باحث ومطلع ، دون التقيد بالأصول و القواعد ، وفهم الأئمة من السلف والخلف ، هو

من جنس مذهب الخوارج ، وهو الذي ورث مثل تلك الأقوال الشاذة المنكرة ، التي يتزعمها اليوم كثير ممن يتقول على الله وعلى الدين بغير علم.

والخروج من الدين يمر بمراحل متدرجة ، يبدأ بقول أو فعل ، يظهر في أول الأمر أنه خلاف يسير _ مما تحتمله دلائل النصوص _ ثم سرعان ما يهوي بصاحبه إلى درك سحيق.

واعتراض شيخ الطريقة الأول: "ذي الخويصرة " على القسمة النبوية للغنائم ، يعد جرثومة الاحتكام إلى العقل البشري في مقابل النص الشرعي.

وكم في الناس اليوم من هذا الصنف؟

ومما يدلك على أن الخروج عن الدين قد يبدأ بميل يسير عن جادة الطريق ، ما رواه الدارمي : في قصة أولئك المتعبدة الذين اخترعوا طريقة في الذكر مخالفة للسنة ، فكانوا يجلسون حلقا في المسجد ومعهم حصى يسبحون بها ، فأنكر عليهم ابن مسعود رضي الله عنه ، وأغلظ القول فيهم .

قال الراوي : لقد رأيت عامة أصحاب الحلق يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج . [ الدارمي 1/ 68 ].

قال سمير : فانظر كيف قادتهم تلك البدعة الصغيرة في طريقة الذكر ، إلى بدعة الخروج والمروق من الدين ، واستحلال دماء المسلمين.

* * * * *

"الغلو .. والتعصب"

وفي مقابل تلك الفرقة السالفة ، نشأت فرقة أخرى تضادها ، تشيعت وتعصبت لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقد ضلت هذه أيضا من جهتين :

الأولى : الغلو والتعصب للأشخاص.

الثانية : مخالفة سبيل المؤمنين في فهم نصوص الدين.

وهي الخصلة الجامعة لكل الفرق الضالة.

فأما الخصلة الأولى ، فقد عارضت بها الشيعة فرقة الخوارج ، فقابلت الغلو في الإزراء بعلي ، بغلو آخر أشد منه خطرا ، وهو الغلو في إطرائه ، الذي أودى ببعضهم إلى تأليهه ، فحرقهم بالنار ، كما صح ذلك في الأخبار.

فظهر بذلك : أن الغلو في الدين _ بالجفاء أو بالإطراء _ والخروج عن جماعة المسلمين ، والشذوذ عن طريقتهم في العلم والعمل ، هو من أعظم أسباب الضلال والكفر.

* * * * *

" البدعة بريد الردة "

ومن هنا تعلم سبب التغليظ في شأن البدع عموما ، فإنها _ وإن بدت صغارا في أول الأمر _ فإنها سرعان ما تصبح كبارا.

فالبدعة ميل و انحراف عن الصراط القويم ، ومعلوم أن أدنى ميل عن الخط المستقيم ، ولو بدرجة واحدة ، سيفضي _ حتما _ مع امتداد الخطين إلى تباعد المسافة بينهما ، فيستحيل بعدها أن يلتقيا أبد الدهر.

ولهذا تواترت النصوص من الكتاب والسنة وآثار السلف على التغليظ من شأن البدع والتفرق.

والنصوص في ذلك مشهورة معلومة، وسأكتفي بذكر بعض الآثار التي توضح المقصود.

١/قصة عمر مع صبيغ بن عسل ، وفيها : أن صبيغا كان يسأل عن المتشابهات ، فأدبه عمر بالضرب مرارا ، وأمر بهجره حتى تاب. [الدارمي 1 / 55].

وظاهر أمره أنه كان سائلا مسترشدا، لكن عمر نظر فيه نظرة الفقيه الملهم ، فوجد أنه سيفتح باب شر على نفسه وعلى الأمة بمثل تلك الفلسفة والسفسطة ، فقطع دابرها ، واجتثها من جذرها. انظر الموافقات للشاطبي [1/51].

٢/وأنكرت عائشة على معاذة لما سألتها عن سبب قضاء الحائض الصيام دون الصلاة ، فقالت لها : أحرورية أنت ؟ [متفق عليه].

وذلك لأن الحرورية ، وهم الخوارج ، اشتهروا بالتنطع في الدين ، فخشيت أن يجرها السؤال إلى مثل ما جر أولئك ، فأوقعهم في درك المهالك. انظر الفتح لابن رجب [2/132].

٣/وقصة الإمام مالك مع الرجل الذي سأله : من أين يحرم ، فأجابه : من ذي الحليفة.

فقال الرجل : إني أريد أن أحرم من عند القبر.

فقال الإمام مالك : لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة.

قال الرجل : وأي فتنة ، إنما هي بضعة أميال أزيدها ؟

فقال الإمام : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم تلا قول الله {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}. انظر الاعتصام للشاطبي [2/53].

فقد نظر هذا السائل إلى المسألة من جهة عين الفعل الذي سيفعله ، وهو زيادة بضعة أميال ، على الموضع المسنون ، والزيادة ليست كالنقص ، هكذا فهم الرجل الأمر بفهم قاصر.

لكن الإمام له فهم آخر ، فإنه نظر في المعنى ، ونظر في المآل ، فأنكر عليه خشية أن يقع في الفتنة ، وهي الكفر.

كما نظر قبله ابن مسعود في فعل أصحاب حلق الذكر نظر الثاقب البصير فأغلظ عليهم في النكير.

والآثار السلفية في هذا المعنى أكثر من أن تحصر.

تكميل :

*البدع والتفرق في الدين لا يختص بالعقائد ، بل يعم كل خروج عن منهج السلف ، حتى في المسائل العملية ، كما صرح بذلك الشاطبي في أكثر من موضع من كتابه الاعتصام ، وذكر أن الإمام الطرطوشي أستدل على ذلك بالآثار عن الصحابة والتابعين ، فإنهم قد أنكروا أعمالا و أقوالا مخالفة ، لا تتعلق بالاعتقادات. [2/199]*من مظاهر الزندقة اتباع المتشابه من نصوص الكتاب والسنة ، وليس هذا أيضا ، مقتصرا على مسائل الاعتقاد ، بل هو عام في كل مسائل الدين ، ومنها الحلال والحرام . انظر الموافقات [5/144 _ _ ].

وعليه : فإن ما يبثه اليوم بعض المنتسبين للعلم من شبهات حول مسائل في العبادات ، أو في الحلال والحرام ، ويتزعمون فقه التيسير ، بحيث يختارون من الأقوال ويتنقلون بين المذاهب بالتشهي والهوى ، قد يجر إلى الكفر والردة ، لأنه تلاعب بالدين ، وازدراء لنصوص الوحي المبين.

وقد شنع الأئمة من السلف والخلف على أصحاب هذه الطريقة المبتدعة ، وصرحوا بأن "من تتبع الرخص تزندق" .

وسيأتي مزيد تفصيل لهذه البدعة في بحث لاحق ، إن شاء الله.

* * * * *

" أبواب الردة "

وأبواب الكفر والردة عن الملة غير محصورة ، فمنها ما يتعلق بأصول الاعتقاد ، وأعظمها ما تعلق بذات الله سبحانه ، أو بصفاته وأفعاله.

وقد حكى لنا القرآن بعض أقوال النصارى الذين نسبوا إليه الصاحبة والولد ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

وأعظم منهم كفرا من وصفوه بالنقص من غير تأويل، كقول اليهود :

{يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا}.

وقد حكى القرآن بعض كفرهم ، لعنهم الله وغضب عليهم.

وقد وجد في بعض فرق هذه الأمة أقوال ومذاهب تشبه أقوال أهل الكتاب ، كالجهمية ، نفاة الأسماء والصفات ، وغلاة الرافضة ، الذين غلوا في آل البيت ، وغلاة المتصوفة.

وقد حكيت عنهم أقوال لا يشك في كفرها ، وربما فاقت في الكفر أقوال اليهود والنصارى ، حتى قال بعض أئمة السلف <إنا لنحكي أقوال اليهود والنصارى ، ولا نجترئ أن نحكي أقوال الجهمية > .

وقد غلا بعض الجهال في إطراء النبي صلى الله عليه وسلم فوصفوه بصفات الربوبية والألوهية.

وأما سب الرسول صلى الله عليه وسلم ، والتنقص منه ، فهو باب من الكفر والردة عظيم ، وقد أفرد له بعض الأئمة مصنفات ، أشهرها كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية "الصارم المسلول على شاتم الرسول" ، فصل فيه حكمه ، وهل يستتاب ، أم يقتل بغير استتابة ؟

وقد وجد بعض من آذى النبي صلى الله عليه وسلم في عهده ، فحض على قتله غيلة ، من غير استتابة.

وبعض أبواب الكفر قد يقع فيها الجاهل بنوع تأويل أو شبهة ، كبعض مسائل القدر والإرجاء .

* * * * *

" حكم المرتد "

ذكر ابن قدامة في المغني من أحكام المرتد فصولا ، ألخصها في الآتي :

١/ أن المرتد يقتل إن كان بالغا عاقلا بعد أن يستتاب ثلاثا.

٢/ أنه إن تاب قبلت توبته ، ولم يقتل، واختلف في الزنديق (وهو الذي يستسر بالكفر) ، وفيمن تكررت منه الردة ، فقيل يقتل ولا تقبل توبته.

٣/ أن قتل المرتد إلى الإمام.

٤/ من مسائل الردة أيضا استحلال المحرمات الواضحة المجمع عليها ، كاستحلال الزنى.

وإنكار وجوب الفرائض المجمع عليها ، كالأركان الأربعة.

ويستثنى من ذلك من نشأ في بادية بعيدة ، أو كان حديث عهد بإسلام ، فإنه يذكر له الحكم والأدلة ، فإن جحدها بعد تعريفها له حكم بكفره.

قال ابن قدامة: < وأما إذا كان الجاحد لها ناشئا في الأمصار بين أهل العلم ، فإنه يكفر بمجرد جحدها .. > .

٥/ إن ارتد بجحود فرض أو استحلال محرم ، فلا تصح توبته بالشهادتين فقط بل لا بد من الإقرار بما جحده.

٦/ من سب الله تعالى ، أو استهزأ بآياته ، أو برسله ، أو بكتبه ، كفر ، سواء كان مازحا أم جادا.

انظر المغني [12/264_ _].

* * * * *

" تكفير المشاهير "

قد يجبن بعض الناس عن تنزيل أحكام الردة والكفر على من اشتهر بعلم أو عبادة أو رئاسة ، وهذا من سنن الجاهلية ، فإن الناس في حكم الشرع وحدوده سواء ، وقد ارتد بعض من صحب النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته.

وحسبك أن القرآن قد حذر الصحابة وتوعدهم على الارتداد ، وهم خيرة الخلق بعد الأنبياء.

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال < إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد .. > . متفق عليه.

وقد صلب في الزندقة بعض المشاهير في القرون الفاضلة ، منهم محمد بن سعيد الشامي ، وقد روى عنه الثوري ، وأخرج له الترمذي. [انظر التهذيب 9 / 184] .

وحكم بعض الأئمة بكفر بشر المريسي ، مع شهرته بالفقه والورع.

قال الذهبي < كان بشر من كبار الفقهاء ، أخذ عن القاضي أبي يوسف وروى عن حماد بن سلمة وسفيان بن عيينة ..

ذكره ابن النديم وقال : كان دينا ورعا متكلما .. > . [ السير 10 / 199 ] .

وكفر السلف أقواما من المشاهير لسوء معتقداتهم ، منهم : الجعد بن درهم ، والجهم بن صفوان.
وبعض غلاة المتصوفة : كالحلاج ، وابن عربي الطائي ، وابن الفارض.
ومن الفلاسفة المشاهير : ابن سينا ، والرازي الطبيب.
وكفروا العبيديين ، وقالوا "ظاهر مذهبهم الرفض ، وباطنه الكفر المحض" .
وكفروا من الشعراء والأدباء بعض المشاهير ، وشنعوا عليهم أقوالهم ، منهم : أبو العلاء المعري.
ومن شعره :
أتى عيسى فبطل شرع موسى وجاء محمد بصلاة خمس
وقالوا لا نبي بعد هـــذا فضل القوم بين غد وأمس

قال المنازي الشاعر لأبي العلاء : ما هذا الذي يروى عنك ؟ قال : حسدوني ، وكذبوا علي.
قال : على ماذا حسدوك ، وقد تركت لهم الدنيا والآخرة؟
فقال : والآخرة؟
قال المنازي : إي والله.
قال سمير : أبو العلاء هو صاحب البيتين المشهورين في الاعتراض على دية اليد ، فقال :
يد بخمس مئ من عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض مالنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار.
قال سمير : يروى البيت الأول بلفظ <بخمس مئين عسجد > .
فأجابه القاضي المالكي بقوله :
صيانة العضو أغلاها وأرخصها صيانة المال فافهم حكمة الباري
السير [18/23] والفتح [12/98].
فائدة:
ذكر ابن كثير قصة عجيبة لرجل ماجن ذكر عنده السواك وما فيه من الفضيلة
فقال : والله لا أستاك إلا في المخرج !
فأخذ سواكا فوضعه في دبره ثم أخرجه.
فمكث تسعة أشهر يشكو من ألم البطن والمخرج ، ثم وضع ولدا على صفة الجرذان ، له أربعة قوائم .
فلما وضعه صاح الحيوان ( المولود ) ثلاث صيحات ، فقامت ابنة الرجل فقتلت الحيوان ، ثم مات بعده الرجل بيومين . [البداية 13/249].
* * * * *
" خاتمة "

ليس مقصودنا في هذا البحث التفصيل في حكم الردة والتكفير ، وإنما المقصود التنبيه على ظاهرة قد تفشت في بلاد الحرمين في هذه الأيام ، وهي التنافس المحموم في إعلان الكفر البواح ، مما لم نشهد له مثيلا من قبل.

وهذا مما يبتلي به الله عباده ، كما ابتلى رسله وأولياءه من قبل.

{ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض}.

{إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}.

وحق على كل مؤمن أن يجاهد أعداء الدين ، بحسب استطاعته ، وأن يردد بعدها قول الله تعالى :

لا تحزن إن الله معنا.

والله مولانا ، فنعم المولى ونعم النصير .

المشاهدات 1542 | التعليقات 0