المساحد أحكام وآداب
صالح العوفي
الخُطْبَةُ الأُوْلَى
الحمدُ للهِ في كلِ آن، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ الملكُ الديانُ. وأشهدُ أنَّمحمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه للإنسِ والجانِ. صلى اللهُ عليهِ وسلم تسليمًا كثيرًا ما تَعاقَبَ المَلَوانِ. أما بعدُ: -
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوْصِيْكُمْ ونَفْسِي بِتَقْوَى الله؛ فَإِنَّهُ يَرَى دَبِيْبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاء، على الصَّخْرَةِ الصَمَّاءِ، في اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاء، ويَعْلَمُ سَرَائِرَ القُلُوب، وخَفَايَا الذُّنُوْب! ﴿أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ﴾.
عِبَادَ الله: إنَّ مِنْ أعظمِ ما يسعد الإنسان أمرانِ: لزوم المساجدِ و المصاحف.
واعلموا أنَّ المَسَاجِدَ بُيُوْتُ اللهِ في أَرْضِه، ويُذْكَرُ فيها اسْمُه، وفي رِحَابِهَا: تقام العبادة، وتَتَنَزَّلُ الرَّحْمَةُ والسَّكِيْنَة؛ قال ﷺ: (مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُم؛ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ).
والمساجِدُ أَحَبُّ البِقَاعِ إلى الله؛ لأَنَّهَا مَحَلُّ الطَّاعَاتِ، ونُزُوْلِ الرَّحَمَاتِ، وحُلُوْلِ البَرَكَات! قال ﷺ: (أَحَبُّ الْبِلَادِ إلى اللهِ مَسَاجِدُهَا).
ومِنَ السَّبْعَةِ الَّذِيْنَ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ القِيَامَة: (رَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسَاجِدِ)؛ لِأَنَّهُ لَـمَّا آثَرَ طَاعَةَ اللهِ، وأَوَى إلى بَيْتِه: أَظَلَّهُ في ظِلِّه.
والمَسَاجِدُ قال الله فيها: ﴿في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ* رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وإِقَامِ الصَّلاةِ وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ﴾.
والعِنَايَةُ بالمَسَاجِدِ، وعِمَارَتُهَا حِسِّيًّا ومَعْنَوِيًّا؛ مِنْ صِفَات المُهْتَدِيْن؛ قال تعالى: ﴿إِنَّما يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ باللهِ واليَوْمِ الآخرِ وأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكاةَ ولَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدينَ﴾؛ وقال ﷺ: (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِله: كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ أَوْ أَصْغَرَ؛ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا في الجَنَّةِ). القَطَاةُ: نَوْعٌ مِنَ الحَمَام، ومَفْحَصُ القَطَاةِ: هُوَ المَوْضِعُ الَّذِي تَبِيْضُ فيه.
ومِنَ العِنَايَةِ بِالمَسَاجِدِ: صِيَانَتُهَا عَمَّا يُدَنِّسُهَا مِنَ النَجَاسَةِ.
فَمِنَ النَّجَاسَةِ المَعْنَوِيَّة: الشِّركُ بالله؛ قال تعالى: ﴿وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِله فَلا تَدْعُو مَعَ اللهِ أَحَدًا﴾.
فلا يَجُوْزُ وَضْعُ القَبْرِ في المسجد؛ أو بِنَاءُ المسجدِ على القَبْر؛ حِمَايةً لِلْتَّوْحِيدِ، وحَذَرًا مِنَ الشِّركِ والتَّنْدِيد! قال I: ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾. قال ﷺ: (أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ؛ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ).
ومِنَ النَّجَاسَةِ الحِسِّيةِ: كُلُّ ما يُؤْذِي المُصَلِّيْنَ مِنْ مَنْظَرٍ أو رائِحَة! قال ﷺ: (مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ؛ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ المَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ).
ويَنْبَغِي أَخْذُ الزِّيْنَةِ عِندَ الذَّهَابِ إلى المسجد، ولُبْسُ أَحْسَنِ الثيابِ وأَجْمَلِهَا وأَنْظَفِهَا؛ (فَإِنَّ اللهَ أَحَقُّ مَنْ تُزُيِّنَ لَهُ)، قال الله: ﴿يَا بَنِي آدمَ خُذُوا زِيْنَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾.
وهَنِيْئًا لِمَنْ سَاهَمَ في نَظَافَتِهَا! قال ﷺ: (عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي، حَتَّى الْقَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ المَسْجِدِ). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t: أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ المَسْجِدَ، فَمَاتَتْ؛ فَفَقَدَهَا النَّبِيُّ ﷺ؛ فَسَأَلَ عَنْهَا بَعْدَ أَيَّامٍ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا مَاتَتْ! فقال: (هَلَّا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي)، فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا.
وقال ﷻ: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾. قال ابنُ عُثَيمين: (مِنْ فَوَائِدِ الآيَةِ: تَحرِيمُ مَنْعِ المَسَاجِدِ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ فِيْهَا اسْمُ اللهِ، سَوَاء كانَ الذِّكْرُ: صَلَاةً، أو قِرَاءَةً لِلْقُرآنِ، أو تَعْلِيمًا لِلْعِلْمِ، أو غَيْرَ ذَلِك).
أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم
الخُطْبَةُ الثَّانِيَة
الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِه، والشُّكْرُ لَهُ على تَوْفِيْقِهِ وامْتِنَانِه، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُه.
أَمَّا بَعْد: فإنَّ مِنْ بَرَكَةِ المَسَاجِدِ؛ أَنَّ المَشْيَ إِلَيْهَا: رِفْعَةٌ لِلْدَّرَجَات، وتَكْفِيْرٌ للسَيئَات، ونُوْرٌ في الظُّلُمَات! قال ﷺ: (بَشِّرِ المَشَّائِينَ في الظُّلَمِ إلى المساجدِ؛ بالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ القيامة). قال إبراهيمُ النَخَعِي: (كَانُوا يَرَوْنَ أنَّ المشيَ إلى الصلاةِ في اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ: مُوْجِبَة!): أَيْ تُوْجِبُ لِصَاحِبِهَا الجَنَّة.
ومِنْ بَرَكَةِ المَسَاجِدِ: أَنَّ مَنْ أَتَى إِلَيْهَا؛ يَحْظَى باسْتِقْبَالِ الملائِكَة، ودَعَوَاتِهِمُ المباركة! قال ﷺ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ، وَأَتَى المَسْجِدَ، لاَ يُرِيدُ إِلَّا الصَّلاَةَ؛ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً، حَتَّى يَدْخُلَ المَسْجِدَ، وإِذَا دَخَلَ المَسْجِدَ، كَانَ في صَلاَةٍ مَا كَانَتْ تَحْبِسُهُ، وَتُصَلِّي عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ، مَا دَامَ في مَجْلِسِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ").
ومَنْ أَرَادَ ضِيَافَةَ اللهِ، فَلْيَتَوَجَّهْ إلى بَيْتِه؛ قال ﷺ: (مَنْ غَدَا إلى المَسْجِدِ أَوْ رَاحَ؛ أَعَدَّ اللهُ لَهُ في الجَنَّةِ نُزُلًا، كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ!). قال ابنُ عُثَيمين: (الغَدْوَةُ: أَوَّلُ النهار. والرَّوَاحُ: آخِرُ النهار. والنُّزُلُ: ما يُقَدَّمُ لِلْضَّيْفِ على وَجْهِ الإِكْرَام: أَيْ أَنَّ اللهَ يُعِدُّ لِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي ذَهَبَ إلى المَسْجِدِ صَبَاحًا أو مَسَاءً؛ يُعِدُّ لَهُ في الجَنَّةِ نُزُلًا؛ إِكْرَامًا له! فَفِي الحَدِيث: إِثْبَاتُ هذا الجَزَاءِ العَظِيمِ، على مِثْلِ هَذِهِ الأَعْمَالِ اليَسِيْرَة).
ومن المتأكدِ جداً أن نَعلمَ أنَّ أراضيَ المساجدِ ومصاحفِها تعتبرُأوقافاً، ولا يجوزُ شرعاً استخدامُها في غيرِ ما خُصصتْ له، كما لا يجوزُالتعديْ على خدماتِ الكهرباءِ والمياهِ الخاصةِ بالمساجدِ، ومَن وجدناهُ يَتعدَى فليناصح.
فإن قالَ قائلٌ: كيفَ أُساهِمُ في عمارةِ المساجدِ، أو في طباعةِالمصاحفِ؟
فيُقالُ: الأمرُ يسيرٌ، عبرَ "منصةِ إحسانٍ" باختيارِ مشاريعِ بناءِالمساجدِ وصيانتِها ونظافتِها، وطباعةِ المصحفِ ونشرِه. فادخلِ المنصةَ، وساهِمْ ولو بالقليلِ؛ ليكونَ وقفًا لك تلقاهُ يومَ تلقاهُ مضاعَفًا، يجريْ لكَ بعدَ موتِك ما بقيَ نفعُه. وأوْقِفْ مسجدًا أو مصحفًا.
* اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن، وارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْن، الأَئِمَّةِ المَهْدِيِّين: أَبِي بَكْرٍ، وعُمَرَ، وعُثمانَ، وعَلِيّ؛ وعَنْ بَقِيَّةِ الصَّحَابَةِ والتابِعِين، ومَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلى يومِ الدِّين.
* اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين، واقْضِ الدَّينَ عن المَدِيْنِين.
* اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا، وَوَفِّقْ (وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ) لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِمَا لِلْبِرِّ والتَّقْوَى.
* اللَّهُمَّ أنتَ اللهُ لا إلهَ إلَّا أنتَ، أنْتَ الغَنِيُّ ونَحْنُ الفُقَراء؛ أَنْزِلْ عَلَيْنَا الغَيْثَ ولا تَجْعَلْنَا مِنَ القَانِطِيْن، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَغْفِرُكَ إِنَّكَ كُنْتَ غَفَّارًا، فَأَرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا.
* عِبَادَ الله: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
* فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.