المساجد وعمارتها

صالح العويد
1444/09/01 - 2023/03/23 19:10PM
الحمد لله الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بيده الأمركله وإليه يرجع الأمركله علانيته وسره وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على هديهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.ياأيهاالذين آمنوااتقواالله حق تقاته ولاتموتن إلاوأنتم مسلمون عبادالله ما قيمة الحياة إذا خلت من السعي المشكور؟!ما قيمة الحياة إذا لم تعمر بالعمل المبرور؟! وما تغني الدنيا كل الدنيا بأيامها المعدودة وأعوامها المحدودة إذا لم يقدم المرء بين يديه أو يخلّف من ورائه من الصالحات ما يشفع له عند مولاه إذا انتقل إليه؟! ألا فأبعدوا وجوهكم عن النار، واحذروا سبلها، والله الله بالطاعة واسلكوا طرقها، امرأة سوداء ضعيفة في عهد رسول الله  لا يُؤْبَه لها ولا يُهتَم لأمرها، لدرجة أنها لما ماتت وفارقت الحياة صلى عليها جمع من الصحابة ودفنوها ولم يخبروا الرسول  بأمرها، فلما افتقدها الحبيب عليه الصلاة والسلام سأل عنها اهتمامًا بها وإكبارًا لشأنهاوصنيعها، فأخبره الصحابة بما كان منهم تجاهها، فقال عليه الصلاة والسلام: ((دلوني على قبرها))، ثم أتى قبرها حتى وقف عليه، ثم صلى عليها. امرأة سوداء لا يُؤْبَه لها ولا يُهتَم لأمرها ، ثم يذهب حتى يقف على قبرها ويصلي عليها، وهو الذي صلاته سكن ورحمة. ماذا فعلت هذه المرأة يا تُرَى؟! وماذا الذي حصل منها؟! وماذا صنعت؟! أي شيء قدمت لخدمة دينها؟! وبأي شيء بلغت ما بلغت عند نبيها؟! أَجَهَّزَت جيشًا أو حاربت عدوًا؟! لا أبنت مسجدًا أو حفرت بئرًا؟! لا فماذا كانت تفعل؟ لا أشك أن كثيرًا منكم ـ يا عباد الله ـ يعلم أنها إنما كانت تَقُمّ المسجد، نعم أيها الإخوة، كانت تَقُمّ المسجد وتنظّفه، وتحمل عنه القَذَى وتُجَمّله. هذا هو قُصَارَى جهدها ومبلغ قوتها، اتقت الله ما استطاعت، وبذلت ما في وسعها، وأدّت ما أمكنها، وبذلت وقتها وعنايتها لبيت ربها طلبًا لمرضاته وابتغاء وجهه، فكان ما كان من صلاة نبي الله عليها ورحمة الله لها. أيّها المسلِمون، المساجِدُ بيوتُ الله، بُنِيت جُدُرها ورفِعَت قواعدها على اسمه وحدَه لا شريك له، يُعبَد فيها ويوحَّد، ويعظم فيها ويمجَّد، ويركَعُ له فيها ويُسجَد، وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18]. أضافها الرب إلى نفسه إضافة تشريف وإجلال. وتوعد من يمنع عباده من ذكره فيها أو خربها أو تسبب في خرابها. فقال تعالى:  ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم  [البقرة:114]. يقدم عليه الصلاة والسلام  مهاجرًا من مكة إلى المدينة، ليصل إلى قباء خارج المدينة، فيجعل أول عمل يقوم به تأسيس مسجد قباء، وبعدها بأيام يتجه للمدينة، ليكون أول مشروع يقوم به في دولته الجديدة بناء المسجد المساجد ياعباد الله أذِنَ الله برَفعِها وعِمارتها، وأمَرَ ببنائها وصِيانَتِها، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور: 36]. هِي أحبُّ البقاع وأطهر الأصقاع، فعن أبي هريرة أنَّ رسولَ الله قال: ((أحَبّ البلاد إلى الله تعالى مساجدُها، وأبغَضُ البلاد إلى الله أسواقُها)) أخرجه مسلم بِناؤها من أعظم القُرَب لمن أخلص لله واحتَسَب، فعَن عثمانَ قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: ((مَن بَنَى لله مَسجدًا يَبتغِي به وجهَ الله بَنى الله له بيتًا في الجنة)) متفق عليه. ولهذاالحديث استند عثمان أثناء توليه الخلافة ، فأجرى الإصلاحات اللازمة في المسجد النبوي، وأنقذه من الانهيار والتصدع، ووسع مساحته ليتسنى لأكبر عدد ممكن من المسلمين الصلاة فيه وقد ورد هذا الحديث بألفاظ عامة، وتشمل هذه الألفاظ من بنى مسجداً صغيراً أو كبيراً، وسواء كان البناء جديداً أو تجديداً أو ترميماً أو توسيعاً، ويؤكد هذا الحديث حديث نبوي آخر، ولفظه: ((من بنى مسجدا كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة) والمفحص هو الموضع الذي تحفره القطاة في الأرض، لتضع فيه بيضها، عمار المساجد هم أولياء الله عز وجل وأحباؤه من خلقه، يقول سبحانه: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18]. وعمارة المسجد نوعان: النوع الأول: العمارة الحسية وذلك ببنائها وتشييدها وصيانتها وتنظيفها وترميمها، وقد مر معنا حديث عثمان  أن النبي  قال: ((من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة))، فهنيئا لمن بنوا لله مساجدا أو ساهموا فيها، لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وماعليها فما ظنكم ببيت في الجنة بيت في الجنة  لبنة من ذهب ولبنة من فضة، تنتظرهم في جنات النعيم ما أخلصوا النية لله تعالى فيما عملوا، وليس هذا فحسب، فقد ورد في  الحديث الصحيح عن النبي : ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا)).الله أكبر ما صلى مصل فيه  وما دعا داع وما قرأ قارئ وما ذكر ذاكر إلا وتلك الأجور العظيمة والحسنات الكبيرة في ميزان من بنى هذا المسجد وأقامه، وهيأ لهم مكانه، من غير أن ينقص من أجر المصلين شيئًا، هل بعد هذا الفوز من فوز؟! هذا ـ وربي ـ ما جعل كثيرًا من الصالحين على مرّ التاريخ وتعاقب سنين الدهر يدفعون الأموال العظيمة في بناء المساجد وإصلاحها، النوع الثاني من عمارة المسجد: والتي ما الأولى إلا وسيلة لها وطريق إليها، وهي الهدف الأعظم والمقصود الأهم، ألا وهي العمارة المعنوية، وذلك بالصلاة والذكر والدعاء وقراءة القرآن الكريم، وهذه العبادات وغيرها هي مراد الشارع في بناء المساجد وإقامتها، أحبتي في الله، المسجد في عهد سلفنا الصالح وصدر هذه الأمة الوضاء كان منطلَقًا للجيوش والمجاهدين في سبيل الله، المسجد في عهد سلفنا الصالح كان ملاذًا لهم، إذا ضاقت بهم الهموم واشتبكت الغموم أتوه وانطرحوا بين يدي ربهم، فتنفرج لهم الدنيا. ففي " سنن أبي داود " عن أبي سعيد الخدري قال : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة فقال : ( يا أبا أمامة مالي أراك في المسجد في غير وقت الصلاة ؟ " فقال : هموم لزمتني وديون يا رسول الله فقال : " ألا أعلمك كلاما إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى دينك ؟ " قال : قلت : بلى يا رسول الله قال : " قل إذا أصبحت وإذا أمسيت اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن ، والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين ، وقهر الرجال ، قال : ففعلت ذلك فأذهب الله عز وجل همي وقضى عني ديني ) .المسجد في عهد سلفنا الصالح كان منارة هدى ومعهد تعليم ومدرسة تربية، لكَم تعلم فيه الجاهل، واتّعظ فيه الغافل، واسترشد فيه الضال، واهتدى فيه المنحرف. المسجد في عهد سلفنا الصالح كان مكانًا لإطعام الجائع ومواساة الفقير، فأهل الصفة في عهد رسول الله  أين كانوا؟! كانوا في المسجد. المسجد في عهد سلفنا الصالح كان يضجّ بالبكاء، وتتعالى فيه أصوات التكبير والتسبيح والثناء والألسنة الصادقة بالدعاء، فما أن يدخله الداخل حتى يزداد إيمانه، ويشتدّ في الحق بنيانه. المسجد في عهد سلفنا الصالح كان مدرسة الأجيال وملتقى الأبطال، فأخرجت رحاب المساجد آنذاك قادة الدنيا الذين غيروا وجه التاريخ وأصبحت سيرتهم غُرّة في جبين الزمن وأنموذجًا لم تعرف البشرية مثله فهل من نظرة بعين العبرة لحال مساجدنا ومساجدهم، فعلينا عباد الله أن نعيد للمسجد دوره، أن نعيد له رسالته، أن نعيد له مهمته وكيانه،أعوذبالله من الشيطان الرجيم فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ * رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مّن فَضْلِهِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ جعلني الله وإيّاكم من الهداة المهتدين المتَّبعين لسنّة سيد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمينَ من كلّ ذنب وخطيئَة، فاستغفِروه إنه كان للأوّابين غفورًا.   الحمد على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنَّ نبيَّنا وسيِّدنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليمًا كثيرًا. أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119]. أيها الإخوة، إن مما يضعف العزائم عن البذل في بناء المساجد وصيانتها ما يفكر به كثير منا وهو خطأ ولا شك إذ يعتقد أن ذلك من مهمة التجار والأغنياء، ولا يستطيعه إلا أصحاب الملايين ورؤوس الأموال الطائلة وأن البناء والبذل لايكون إلابالمال وقدمرمعنافي بداية الخطبة ماحصل مشأن المرأة السوداء والدال على الخيركفاعله ألا فليعلم كل مسلم يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه أنه مطلوب منه أن يقدم لدينه وأمته، بل يقدم لنفسه هو ما دام في زمن المهلة قبل النقلة، إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، وعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : ((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ـ ولا يصعد إلى الله إلا الطيب ـ فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوّه حتى تكون مثل الجبل)) رواه البخاري، فكم ((سبق درهم مائة ألف درهم)) حسب نية صاحبه وإخلاصه وطيب نفسه في إنفاقه فهذه التوجيهات النبوية الكريمة، يحث فيها النبي  أمته على الإنفاق كل بحسب قدرته وَجِدَته، لم يأمر  التجار وحدهم، ولم يقصر الاستحباب عليهم دون الفقراء، بل ذكر الدرهم وأقل وهو شقّ التمرة، وماذا يساوي شق التمرة لو قورن بثمنه اليوم، ألافلتعلموا عباد الله أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولا يخيب رجاء من أنفق قليلاً أو زهيدًا، فله سبحانه الحمد على ما وهب وأعطى، وله الحمد على التوفيق لكل خير، وله الحمد على قبول العمل وتزكيته وتنميته فلايحقرن أحدكم من المعروف شيئا ولوأن تحمل القذاة عن بيوت الله هذا وصلّوا وسلِّموا على خيرِ البريّة وأزكى البشريّة، فقد أمركم الله بذلِك فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا اللّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللّهمَّ عن خلفائه الأربعة ، وعن سائر الآلِ والصحابة والتابعين، ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوِك وكرمك وإحسانك يا أكرمَ الأكرمين.
المشاهدات 920 | التعليقات 0