الْمُزَيِّفُونَ
يوسف العوض
الخُطبةُ الأُولى :
الْحَمْدُ للهِ مُغِيثِ الْمُسْتَغِيثِينَ، وَمُجيِبِ الْمُضْطَرِّينَ، ومُسبلِ النِّعَمِ عَلَى الْخَلْقِ أَجَمْعَيْنِ، عَظُمَ حِلْمُهُ فَسَتَر، وَبَسطَ يَدَهُ فَأَكْثَرَ، نِعَمُهُ تَتْرَى، وَفَضْلُهُ لَا يُحْصَى،وإِلَيْهِ وَحْدَهُ تُرْفَعُ الشَّكْوَى وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللَّه وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبدُ اللَّهِ وَرَسُولُه، أَصدقُ الْعِبادِ قَصْدًا، وَأَعْظُمُهُمْ لِرَبِّهِ ذِكرًا وَتَقْوَى، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمُ وَبَارَكَ عَلَيهِ، وَعَلَى آله وَصَحِبِهُ وَمِنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَاِقْتَفَى أثَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
﴿ يا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
عِبادَ اللَّهِ: إِنَّ أَخَطَرَ شَيْءٍ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَنْقَلِبَ قَلَّبُهُ، وَيَنْتَكِسَ فَهْمُهُ فيَرى سُوءَ الْعَمَلِ حَسَنًا، ويرى الْبَاطِلَ حَقًّا، وَالضّلَالَ هُدَىً، وَالْخَطَأَ صَوابَاً وَذَلِكَ بِتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ أَعْمَالَهُ السَّيِّئَةَ، إِنَّ هَذَا هُوَ أَحَطُ دَركَاتِ الْجَهالَةِ، وَهُوَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْخِذْلَاَنِ، وَهُوَ أَفْدَحُ الْخُسْرانُ قَالَ تُعَالَى:( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وَيَأْتِي هَذَا التَزْيِينُ عَلَى شَكْلِ مُبَرِّرَاتٍ يُسَوِّقُهَا الشَّيْطَانُ لِضَحَايَاِهِ لِتَبْرِيرِ أَفعَالِهِمْ ؛ فَالَّذِي يَزْنِي وَيَأْتِيَ الْفَوَاحِشَ يُزَيُّنُ لَهُ أَنّهُ يُمَارِسُ حَرِيَّتَهُ الشَّخْصِيَّةَ، وَالَّذِي يَسْرَقُ وَيَخْتَلِسُ يَزَيُّنُ لَهُ أَنّهُ يَسْتَعِينُ بِذَلِكَ عَلَى تَكَاليفِ الْحَيَاةِ، وَالَّذِي يَعْتَدِي عَلَى الدِّمَاءِ الْمَعْصُومَةِ دُونَ وَجْهِ حَقِّ يُزَيُّنُ لَهُ أَنّهُ يَنْطَلِقُ مِنْ وَاجِبٍ جِهَادَيْ ، وَقَدْ يُقَصِّرُ الْعَبْدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْفَرَائِضِ فَيُزَيُّنُ لَهُ الشَّيْطَانُ بِأَنّهُ أَحَسَنُ مِنْ غَيْرهِ فَهُوَ لَمْ يَسْرَقْ وَلَمْ يَرْتَشِ وَلَمْ يَشْهَدْ زُوراً وَأَنَّ قَلْبَهُ طَيبٌ فَيَقْعُدُ بِذَلِكَ عَنِ الْعَمَلِ وَيَتَسَاهَلُ فِي الْعِبَادَةِ وَيَأْلَفُ الْمَعْصِيَةَ ، وَقَدْ يُزَيِّنُ الشَّيْطَانُ الْكَثِيَرَ مِنَ الْعَادَاتِ السَيِّئةِ وَالَّتِي لَمْ يَأْمُرْ بِهَا الشَرَّعُ فَيَعْمَلُ بِهَا النَّاسُ عَلَى أَنّهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَمِنْ شِيَم الرُّجُولَةِ والمُرُؤةِ قَالَ اللَّهُ حَاكِياً عَنْ فِعْلِ الشَّيْطَانِ مَعَ الْبَشَرِ :( لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) فَجَعَلَ التَزْيِينَ أَوَلَا ثُمَّ الدَّعْوَةَ إِلَيْهِ وَالْإغْوَاءَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ثانياً .
عِبَادَ اللهِ: وَمِنْ الْعَجِيبِ أَنَّ أسْلِحَةَ الشَّيْطَانِ فِي ذَلِكَ لَا تَخْرجُ عَنِ التَّأْثِيرِ النَّفْسِيِّ، وَهُوَ مَا سَمَّاهُ اللَّه بِالْوَسْوَسَةِ، وَهِيَ حَديثُ النَّفْسِ وَالْكَلَاَمُ الْخَفِيُّ الَّذِي لَا يُسْمَعُ، وَقَدْ مَكَّنَهُ اللَّهُ مَنْ مُخَاطَبَةِ النَّفْسِ وَالْإِيحَاءِ إِلَيهَا، قَال تُعَالَى:( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) فَغَيّرَ مُسَمَّى الشَّجِرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْ أَكْلِهَا إِلَى شَجِرَةِ الْخُلْدِ !! وَهَكَذَا الْمُزَيِّفُونَ يُغَيِّرُونَ الْبَاطِلَ وَيُزَخْرِفُونَهُ لِإغْوَاءِ النَّاسِ ، فَهُمْ الَّذِينَ يُسَمِّونَ الرِّبَا بِالْفَائِدَةِ، وَيَسْمُوَنَّ الَتَبَرُّجَ الْفَاضِحَ بِحَرِيَّةِ الْمَرْأَة، وَيُسْمُّونَ الْاِخْتِلَاطَ تَقَدُّمَا وَمَدَنِيَّةً، وَيُسْمُّوَنَ أهْلَ الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ بِأهْلِ الْفَنِّ وَيُسْمُوَنَ الْخَلِيعَاتِ بِالفَنّانَاتٍ، وَالْمُمَثِّلِينَ وَاللَّاَعِبِينَ أبطالاً وَنُجُوماً ، وَيُسْمُّوَنَ كَثِيراً مَنِ الزَّنَادِقَةِ الْمَارِقِينَ بمُفَكِّرِينَ وَمُثَقَّفِينَ وَمَنْ سَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُسْمُّوَنَهُ إِبْدَاعَاً وَحُرِيَّةَ فِكَرٍ والعِياذُ بِاللهِ !! كُلُ هَذَا لِيَجْذِبُوا قُلُوبَ النَّاسِ إِلَى فُحْشِهِمْ وَخُبْثِهِمْ ،، ولا حَوْلَ ولا قُوَةَ إلا بِاللَّهِ ..
الخُطبَةُ الثَانيَةُ :
الحمدُ للهِ على إحسانِهِ والشكرُ لهُ على توفيقِهِ وامتنانهِ والصلاةُ والسلامُ على عبدهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وبعدُ :
عِبَادَ اللَّهِ: الْخِدَاعُ وَالتَزْييفُ هُوَ سِلَاَحُ الشَّيْطَانِ الْأَوَّلُ الَّذِي اِسْتَخْدَمَهُ لِيُسَيْطِرَ بِهِ عَلى الْعُقُولِ حَتَّى يُلْقِي النُّفُوسَ فِي الْأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْآرَاءِ الْمُتَشَعِّبَةِ فَقْد زَيّنَ لَهُم عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَقَطِيعَةَ الْأَرْحَامِ، وَوَأَدَ الْبنَاتِ، وَنكَاحَ الْأُمَّهَاتِ، وَوَعَدَهُمْ بَعْدَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ بِالْفَوْزِ بِالْجِنَانِ !! لِهَذا أبْرَزَ لَهُمْ الشِّرْكَ فِي صُورَةِ التَّعْظِيمِ، وَالْكَفْرَ بِصِفَاتِ الرَّبِّ فِي صُورَةِ التَنْزِيهِ، وَتَرِكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكِرِ فِي قَالِبِ التَّوَدُّدِ إِلَى النَّاسِ!! فَلَا إلَهُ إلا اللَّه ،،كَمْ فُتِنَ بِهَذَا السِّحْرِ مِنْ إِنْسَانٍ، وَكَمْ حَال بَيْنَ قَلْبِهِ وَبَيْن الْإيمَانِ ، فَصَادَهُمْ جَمِيعًا فِي شَرَكِهِ وَأَوَقَعَهُمْ فِي دَرَكِهِ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَبَرَّأُ مِنَ الْجَمِيعِ، قالَ تَعالى (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاِسْتَجَبْتُم لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُوِّمُوا أَنْفُسكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ) فاللهمّ أرِنَا الحَقَّ وارْزُقْنَا اتِبَاعَهُ وأرِنَا البَاطِلَ بَاطِلاً وارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ ..
اللَّهُمُّ ألِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ مَا فَسَدَ مِنْ أَحَوَالِنَا وَخُذْ بِنَوَاصِيِنَا إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، اللَّهُمِّ اِجْعَلْ لَنَا مِنْ كُلِّ هَمٍ فَرَجَا وَمِنْ كُلِّ ضَيْقٍ مَخْرَجَاً وَمِنْ كُلِّ عُسْرٍ يُسْرَا وَمِنْ كُلِّ بَلَاءٍ عَافِيَةٍ ، اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَاِحْفَظْ بِلَادَنَا وَألِّفَ بَيْنَ قُلُوبِنَا ، وَمِنْ أَرَادَنَا أَوْ أَرَادَ بِلَادَنَا بِسُوءٍ أَوْ مَكْرُوهٍ فَرُدَّ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ وَاِجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرَا عَلَيهِ، اللَّهُمُّ إنا نُعَوِّذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِين وَنَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ، اللَّهُمُّ اِغْفِرْ ذُنُوبَنَا وَاُسْتُرْ عُيُوبَنَا وَتَولَى أَمْرَنَا وَرُدَنَا إِلَى دِينِكَ رَدَّا جَمِيلًا وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله و أَصْحَابهِ الطِّيَّبِيْنَ الطَّاهِرِينَ وَالْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ .