المراقبة الحقيقية ... بلا كاميرات
سامي بن محمد العمر
1441/05/30 - 2020/01/25 20:44PM
المراقبة الحقيقية... بلا كاميرات
أما بعد:
فلأنها تصور الحوادث، وتسجل المواقف، وتخزن المشاهد.
ولأنها تقرب البعيد، وتكبر الصغير، وتعيد اللقطات، وتحتفظ بها مُدداً طويلات.
ولأنها تساعد على كشف المعتدين وفضح المجرمين ومعاقبة المتطاولين.
فإنها أصبحت حاجة ماسة في كثير من الأماكن الهامة والعامة، وفي الطرقات والبيوت والمدارس وأماكن العمل.
وأصبح لها هيبة في نفوس البشر، يراقبونها كما تراقبهم، ويتحفظون عن فعل ما يسوء لأنها ستحفظه عليهم، ويحسنون أمامها الصنيع لأنها ستشهد لهم.
كاميرات المراقبة، صنع البشر للحد من خطورة البشر، واختراع البشر لإعادة التوازن في البشر، فحيثما خرج الإنسان عن فطرته السوية إلى الاعتداء والسرقة والغصب والنهب وظلم الآخرين هبت أذهان البشر تفكيرا في محاولة إعادته لجادة الصواب بمثل هذه المخترعات التي توجب في الإنسان مراقبة وخوفاً، وتنتج للناس سلامة وأمناً.
ولكن: مهما حاول المخترعون والمبتكرون في الوصول إلى تلك الأهداف فإنهم يصطدمون بحقائق لا يمكن تغافلها، وثغرات لا يمكن سدها، فإن مخترعاتهم تلك قابلة للتلف أو الإتلاف، أو الكسر أو الاختراق، أو الحجب والتغطية، أو تكون عديمة الفائدة إذا تنكر المجرمون وستروا منهم المعالم الموصلة إليهم.
عباد الله:
ومبدأ تسجيل الأعمال والمواقف، وحفظها ثم المحاسبة عليها بالثواب أو العقاب؛ أمر استفاده البشر من حقيقة هذه الحياة وعلاقتها بالآخرة؛ فحين عَلِم أهل الرسالات منهم بما أرسل الله به رسله إليهم من الأمر بعبادته واجتناب الشرك معه، وأنه كتب عليهم من يحفظ أعمالهم ويسجل تصرفاتهم في كتب وسجلات تسلم لأصحابها يوم الجزاء والحساب، والثواب والعقاب.
وحين علم أهل الرسالات منهم أن المؤمن بوجود الرقيب الدائم عليه يتغير حاله، وتصلح أحواله، وتهدأ ثورته، وتقل خطورته، وينقلب إلى الصلاح والإصلاح، والتفوق والإبداع.
حين علم أهل الدنيا ذلك؛ بادروا بتطبيقه في واقعهم بمثل كاميرات المراقبة فحصلوا منها خيراً، واستفادوا منها نفعاً، وسهلت لهم كثيراً من الصعوبات، وقللت لهم الكثير من التكلفات والمصروفات.
ولكن العجب كل العجب؛ والغرابة كل الغرابة - وخاصة عند أهل الإسلام - أن يكون أثر الفرع في النفوس أكبر من أثر الأصل، وأن تتفوق مراقبات البشر الدنيوية على المراقبات الأخروية؛ فحيثما كانت كاميرات المراقبة فهاك خلقا حسنا وإنتاجا وصلاحا، وحيثما انعدمت تلك الكاميرات فهاك قبحا في الأخلاق وغشا في الأعمال ومعصية للكبير المتعال.
ولذا... فإن على المرء أن يعلم علم اليقين أنه لا ينفك عن رقيب عليه يكتب لحظاته، ويجمع لفظاته، ويدون عزماته، ويحسب حركاته كلها {أيحسب الإنسان أن يترك سدى}.
إنها المراقبة الدائمة، والهيمنة الكاملة، مع الإحاطة والعلم الواسع بجميع العباد، في كل وقت وكل لحظة، وكل نَفَس وكل طرفة عين.
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ يونس61 ] .
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة/7].
فإن حركتم ألسنتكم بالسوء أو أخفيتموه فالله قد قال: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13].
وإن سمحتم لأعينكم بالحرام حين لا يراكم أحد من الأنام فالله تعالى قد قال: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [سورة غافر: 19].
وإن فكرتم يوماً بالجريمة، وعزمتم على الفعال الشنيعة فالله تعالى قد قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [سورة البقرة: 235].
وإن أغلقتم الأبواب وابتعدتم عن الأنظار فالله تعالى تهديدا لكم قد قال: {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [سورة العلق: 14].
وإن خفتم من بشر مثلكم فأخفيتم عنهم معايبكم، وسترتم أمامهم جرائمكم واستخفيتم بها في جنح الظلام فالله تعالى قد قال: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } [ النساء108 ].
وإن تصاغرتم قبيحاً فتجرأتم على فعله، وأنتم على ظهر الأرض أو في جو السماء فالله تعالى قد قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [سورة آل عمران: 5].
عن سعيد بن يزيد الأزدي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: " أوصيك أن تستحيي من الله عز وجل كما تستحيي من الرجل الصالح من قومك "([1]).
قال رجل لوهيب بن الورد رحمه الله: "عظني؟"، قال: "اتق أن يكون الله أهون الناظرين إليك".
جاء عن بلال بن سعد رحمه الله أنه قال: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت". قال ابن المبارك لرجل: "راقب الله تعالى"، فسأله الرجل عن تفسير ذلك فقال: "كن أبداً كأنك ترى الله".
يقول سفيان الثوري رحمه الله: "لو كان معكم من يرفع حديثكم إلى السلطان، أكنتم تتكلمون بشيء؟"، قالوا: "لا"، قال: "فإن معكم من يرفع الحديث".
بارك الله لي ولكم في القرآن ...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فإن العاقل الحصيف يجب أن يعلم علم البقين أن لا مقارنة بين مراقبة أجهزة بشرية ترصد أعماله وبين مراقبة إلهية قام بها بنفسه الشريفة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء/1]، {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [سورة النساء: 79].
وكلّف بها من شاء من ملائكته الكرام الكاتبين: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12] {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80].
فيالله من ذاك الكتاب في ذاك الموقف الذي لا محيص عنه؛ ماذا قدمنا فيه:
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]
وأين يهرب من كانت أعضاؤه تراقبه، ويوم القيامة أمام الرب العظيم ستفضحه؟
{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا الله الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ الله لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت/20-24].
إنه لا نجاة يومئذٍ إلا لمن استشعر مراقبة الله له في السر والعلن، فأحيا بذلك قلبه الموات، وضميره من السبات، وحرك فيه دواعي الخير، وأمات فيه نوازع الشر.
فلا تضييع في الفرائض ولا ترك للواجبات، ولا جرأة على المحارم، ولا إسراف في المعاصي والسيئات.
ولا حاجة لرقيب من الناس والله يراقبه، ولا حسيب لديه أعظم من الله الذي سيحاسبه.
أولئك أهل الفرحة العظيمة، والسعادة الحقيقة الذين سيصرخون بعد أخذ كتابهم باليمين:
{هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 19 - 24]
أولئك الذين تقرب لهم الجائزة الكبرى في الآخرة:
{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرحمنَ بالغَيبِ وَجاءَ بقلْبٍ مُنيبٍ * اُدْخُلوها بِسَلامٍ ذلك يومُ الخُلُودِ * لهُمْ ما يَشَاؤُونَ فِيهَا ولدينا مزيد).
اللهمَّ إِنَّا نسألُكَ خشْيَتَكَ في الغيبِ والشهادَةِ، ونسأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا والغضَبِ، ونسألُكَ القصدَ في الفقرِ والغِنَى ، ونسألُكَ نعيمًا لَا ينفَدُ، ونسألُكَ قرَّةَ عينٍ لا تنقَطِعُ، ونسألُكَ الرِّضَى بعدَ القضاءِ، ونسألُكَ برْدَ العيشِ بعدَ الموْتِ، ونسألُكَ لذَّةَ النظرِ إلى وجهِكَ، والشوْقَ إلى لقائِكَ في غيرِ ضراءَ مُضِرَّةٍ ، ولا فتنةٍ مُضِلَّةٍ، اللهم زيِّنَّا بزينَةِ الإيمانِ ، واجعلنا هُداةً مهتدينَ