المراء والجدال

هلال الهاجري
1446/04/20 - 2024/10/23 12:54PM

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمْنْ يَضْلُلُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدُهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) .. أَمَّا بَعْدُ:

عِندَمَا تَرى المُجَادَلاتِ العَقِيمَةَ في أَمَاكِنِ التَّجَمُّعَاتِ، وتَسمعُ فِي وَسَائلِ التَّواصلِ ضَجيجَ الخُصُومَاتِ، تَتَذَكَّرُ تِلكَ القُصورَ العَاليَّةَ، في جَوانِبِ الجَنَّةِ الغَاليَّةِ، التي تَكَفَّلَ بِهَا رَسُولُ اللهِ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، لِصنفٍ مِن النَّاسِ عَظِيمِ المَقَامِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: (أَنَا زَعِيمٌ -أَيْ: ضَامِنٌ- بِبَيْتٍ فِي ‌رَبَضِ ‌الْجَنَّةِ -أَيْ: نَوَاحِيهَا وَجَوَانِبِهَا- لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ -أَيْ: الجِدَالَ- وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا)، فَسُبحَانَ اللهِ، وَعدٌ وَضَمَانٌ مِن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ بِهَذا البَيتِ والقَصرِ، فَمَنْ مِنَّا يَأَخذُ بِهَذهِ الوَصيَّةِ ويَحوزُ هَذا الخَيرَ والأَجرَ؟.

 أَيَّهَا الأَحِبَّةُ، كَثيرٌ مِنَ النِّقَاشاتِ الحَادَّةِ فِي هَذهِ الأَيَّامِ، لَيسَ لَهَا مِنَ الحَقيقةِ زِمامٌ ولا خِطامٌ، إنَّمَا هِيَ قِيلَ وَسَمِعتُ وأَظُنُّ وبَعثَرةُ كَلامٍ، ونَتيجَةُ ذَلكَ الخِلافُ بِينَ الأَصدِقَاءِ والخِصَامُ، قِيلَ لِعَبدِ اللهِ بنِ حَسنٍ رَحِمَهُ اللهُ: مَا تَقُولُ في المِرَاءِ؟، قَالَ: (يُفسِدُ الصَّدَّاقَةَ القَدِيمَةَ، وَيَحُلُّ العُقدَةَ الوَثِيقَةَ)، وَعِنْدَ الْحُكَمَاءِ: أَنَّ ‌الْمِرَاءَ ‌أَكْثَرُهُ ‌يُغَيِّرُ ‌قُلُوبَ ‌الْإِخْوَانِ، وَيُوَرِّثُ التَّفْرِقَةَ بَعْدَ الْأُلْفَةِ، وَالْوَحْشَةَ بَعْدَ الْأُنْسِ، وقَد أَحسَنَ مَن قَالَ:

‌وَاحْذَّرْ ‌مُجَادَلَةَ ‌الرِّجَال فَإِنَّهَا *** تَدْعُو إِلى الشَّحْنَاءِ وَالشَّنَآنِ

ذَلِكَ المُجَادِلُ عَلَى كُلِّ أَحوَالِهِ، الغَليظُ بِأَفعَالِهِ وأَقوالِهِ، الذي لا يُراعي لِمَن أَمَامَهُ احتِرَاماً ولا تَوقيراً، ولا يَعرِفُ لِلحِوارِ أَدَباً ولا تَقدِيراً، هُو مِن أبغضِ الرِّجالِ إلى اللهِ تَعالى وإلى عِبادِهِ، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (‌أَبْغَضُ ‌الرِّجَالِ ‌إِلَى ‌اللَّهِ ‌الْأَلَدُّ الْخَصِمُ)، أَيْ: شَدِيدُ الخُصُومَةِ، وَقَالَ بِلالُ بنُ سَعِيدٍ رَحِمَهُ اللهُ: (إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ ‌لَجُوجًا ‌مُمَارِيًا، مُعْجَبًا بِرَأْيِهِ، فَقَدْ تَمَّتْ خَسَارَتُهُ).

بَل إنَّ انشِغَالَ الأَفرَادِ والمُجتَمَعاتِ بِالمُمَاراةِ والجِدَالِ، هُوَ عَلامَةٌ لِلجَهلِ والانتِكَاسَةِ والضَّلالِ، فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: (مَا ‌ضَلَّ ‌قَوْمٌ ‌بَعْدَ ‌هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ)، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)، ولِذَلكِ قَالَ الأَوزَاعيُّ: (إذَا أَرَادَ اللهُ بِقَومٍ شَرًّا ألزَمَهم الجَدَلَ، ومنَعَهم العَمَلَ)، وَصَدَقَ رَحِمَهُ اللهُ، فَإنَّ الهُدَى والعِلمَ الحَقيقيَّ يَدعو إلى العَمَلِ، ولا تَرى صَاحبَهُ غَافِلاً في مَجَالسِ اللَّهو والجَدَلِ، وصَدقَ القائلُ:

تَعْلَّمِ العِلْمَ واعْمَلْ ما اسْتَطَعْتَ بِهِ *** لا يُلهِيَنَّكَ عَنْهُ اللَّهْوُ والجَدَلُ

فَكَم أَذهَبَ المِرَاءُ مِن هَيبَةٍ وَوَقارٍ، وكَم أَوقَعَ صَاحِبَهُ في الإثمِ والعَارِ، يَقُولُ الأصمَعيُّ: (سَمِعتُ أعرابيًّا يقولُ: مَن لاحَى الرِّجالَ وَمَارَاهُم قَلَّتْ كَرَامتُهُ، وَمَنْ أَكثَرَ مِن شَيءٍ عُرِفَ بِهِ)، وهَكَذا لا يَزَالُ الرَّجلُ كَريماً مَهِيباً عِندَ الرِّجَالِ، حَتى تَسقُطَ مُرؤتُه بِسبَبِ المِراءِ والجِداَلِ، وأَمَا العَاقِلُ العَالِمُ فَيَقولُ الحَقَّ بِدَلِيلِهِ وبُرهَانِهِ، ثُمَّ لا يَخُوضُ مَعَ أَهلِ البَاطِلِ وأَعوانِهِ، يَقُولُ الإمَامُ مَالِكُ بِنُ أَنسٍ رَحِمَهُ اللهُ: (المِراءُ والجِدالُ في العِلمِ يَذهَبُ بنورِ العِلمِ من قَلبِ العبدِ، فَقِيلَ لَهُ: الرَّجُلُ له عِلمٌ بالسُّنَّةِ أيجادِلُ عنها؟، قال: لا، ولكِنْ ليُخبِرْ بالسُّنَّةِ، فإن قُبِل منه وإلَّا سَكَتَ).

بارَكَ اللهُ لي ولكم في الكِتَابِ والسُّنةِ، وَنَفَعَنا بما فِيهِمَا مِنَ الآياتِ والحِكمَةِ، أَقولُ قَولي هَذا، وأَستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ من جَميعِ الذُّنوبِ، فَاستَغفِروهُ وَتُوبوا إليهِ، إنَّ رَبي لَغفورٌ رَحيمٌ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ حَمدًا كَثيراً طَيِّباً مُباركاً فِيهِ، وَأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وأَشهدُ أنَّ مُحمداً عَبدهُ ورَسولُه، صَلَّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلِهِ وأَصحابِه ومن تَبعَهم بإحسانٍ وسَلَّمَ تَسليماً كَثيراً، أما بعدُ:

أَيُّهَا الأحِبَّةُ، إنَّنَا نَرى اليَومَ أنَّ المِراءَ والجِدَالَ قَد بَلغَ مَرحَلَةً خَطِيرةً، وَقَد خَاضَ النَّاسُ فِي المَسائلِ المُعَقَّدَةِ الكَبيرةِ، فَقَطَّعُوا جَسَدَ الأَمَّةِ الوَاحدِ إلى أَشلاءٍ، واستَهَانوا في حُرمَةِ المُقَدَسَاتِ والدِّمَاءِ، فَيَا فَرحَةَ الأَعدَاءِ وَهُم يَرونَ المُسلِمينَ في خِصامٍ وخِلافٍ، يَتَقَاذَفُونَ بينَهُم الاتِّهَامَاتِ وسَيءَ الأَوصَافِ، فَأَينَ هَذا مِنَ الأُخوَّةِ فِي الإيمانِ، وأَينَ هَذا مِن التَّواصي بِالبِّرِ والإحسانِ، يَقُولُ ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا: (لَنْ يُصِيبَ رَجُلٌ حَقيقةَ الإيمانِ حتَّى يترُكَ المِراءَ، وَهُو يَعلَمُ أنَّه صَادِقٌ)، اللهُ أَكبرُ، إنَّهَا الحِكمَةُ في تَخفِيفِ الضَّرَرِ والشِّقَاقِ، والمُحَاولةُ في الوُصولِ إلى حُلولٍ واتِّفَاقٍ، وَلَكِنْ صَدَقَ اللهُ تَعَالى: (وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).

فَكَم حُرِمَ النَّاسُ مِنَ الخَيرِ بِسَببِ المُجَادَلاتِ والخُصومَاتِ، وَكَم عُوقِبَتْ الأُمَّةُ بِسَببِ مَا ارتَكَبَهُ البَعضُ مِن جَهَالاتِ، وَاسمَعوا إلى هَذا المِثَالِ، في خَطَرِ الخِصَامِ والجِدالِ: يَقُولُ عُبَادةُ بنُ الصَّامتِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: خَرَجَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَنَا بلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ المُسْلِمِينَ -أَيْ: تَخَاصَمَا وتَجَادلا- فَقَالَ: (خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلَاحَى فُلَانٌ وفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ)، يَقولُ العُلمَاءُ، وفي الحَديث: ذمُّ المُلاحَاةِ والخُصومةِ، وأنَّهما سَببُ العُقوبةِ للعامَّةِ بذَنْبِ الخاصَّةِ، فَإلى مَتى والأُمَّةُ فِي بَلاءٍ، بِسَبَبِ الجِدَالِ والمِراءِ؟.

اللهمَّ أَعِزْ الإسلامَ والمسلمينَ، وَاحمِ حَوزةَ الدِّينِ، وَدَمِّرْ أَعداءَ الدِّينِ وَسَائرَ الطُّغاةِ وَالمفسدينَ، اللهمَّ أَلِفْ بِينَ قُلوبِ المُسلمينَ، وَوَحِّدْ صُفوفَهم، وَأَصِلحْ قَادَتَهم، وَاجمعْ كَلمَتَهم عَلى الحَقِّ يَا رَبَّ العَالمينَ، اللهمَّ انصرْ دِينَكَ وَكِتَابَكَ وَسُنةَ نَبيِّكَ مُحمدٍ وَعِبَادَكَ المؤمنينَ، اللهمَّ انصر المُجَاهدينَ لِنصرِ دِينِكَ، وِإعلاءِ كَلمتِكَ في كُلِّ مَكانٍ، اللهمَّ عَليكَ باليَهودِ الطَّاغينَ، اللهمَّ اشدُدْ وَطَأتَكَ عَلى اليَهودِ، اللهمَّ إنَّا نَجعَلُكَ في نُحورِهم، وَنَعوذُ بِكَ مِن شُرورِهم، اللهمَّ من أَرَادَنا وَأَرَادَ المسلمينَ بِسوءٍ، فَأَشغلِهُ بِنفسِهِ، وَاجعلْ تَدبيرَهُ تَدميرَهُ يَا رَبَّ العَالمينَ، اللهمَّ آمنا في أَوطَانِنَا، وَأَصلحْ وَوَفِّقْ أَئمتَنَا وَولاةَ أُمورِنَا، اللهمَّ احفظْ بِلادَ المسلمينَ عَزيزةً بِعزِّ الإسلامِ يَا رَبَّ العَالمينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

المرفقات

1729677487_المراء والجدال.docx

1729677494_المراء والجدال.pdf

المشاهدات 1066 | التعليقات 0