المرأة والوشاح الأحمر! د. أحمد العساف
الفريق العلمي
سيبقى الوحي الشريف مصدرًا ثريًا للعلم، والعمل، ففيه التزكية والتربية، وخيري الدنيا والآخرة، وإنه لمن الخسران الأكيد الانصراف عن معينه سواء على مستوى العلم به، والتأمل فيه، والنهل منه، أو على صعيد العمل وفقه، والاهتداء بأحكامه، طاعة وتعبدًا، فالأمر يُؤتى منه قدر الاستطاعة والوسع، ومناهيه تُجتنب كلها، وإذا فعلت الأمة هذا الأمر على صعيدها الجمعي صلح حالها كليًا وفرديًا، والتاريخ المزهر مع الواقع المؤلم خير شاهد.
فمن القصص الواردة في صحيح البخاري عن امرأة سوداء عتيقة، خدمت أسيادها، وسعت في إصلاح شؤونهم المعيشية داخل بيوتهم، وذات يوم خرجت فتاة إلى فناء البيت ومعها وشاح أحمر ثمين، فسقط منها لتلتقطه حدأة ظنت أن الوشاح قطعة لحم، وحين فقدوه توجه أهل البيت بالتهمة مباشرة إلى المرأة المسكينة دونما بينة، وإنما هي شهوة بعض البشر في إلقاء اللوم على الآخرين أو شيطنتهم، وصنع الأعداء، وإشغال الناس بوهم.
ولم يكتف القوم بذلك بل فتشوها تفتيشًا دقيقًا حتى نزعوا ملابسها وفحصوها مقبلة ومدبرة في إهانة تنافي حق الإنسان في الاستتار وحفظ الخصوصية، وبينما هم في غيهم الحقيقي أو المصطنع، اكتشفت الحدأة أن غنيمتها قطعة قماش وليست طعامًا، فطارت فوقهم وألقته بين أيديهم، فظهرت براءة المرأة المسكينة، وبان من أسيادها سوء الظن، أو فساد التقدير، أو خبث المقصد.
لذا قررت ترك المكان الذي سيمت فيه خسفًا وظلمًا، وهاجرت إلى المدينة وأسلمت بين يدي الجناب الكريم -صلى الله عليه وسلم-، واتخذت لها موضعًا للسكنى بجوار المسجد النبوي الشريف، وصرفت وقتها لتنظيف المسجد بعد خروج المصلين والناس منه، وكانت تزور الصديقة الطاهرة عائشة -رضوان الله عليها- في بيتها، وتتحدث إليها مرددة بين فينة وأخرى هذا البيت من الشعر:
ويَوْمُ الوِشَاحِ مِنْ أَعاجِيبِ رَبِّنا *** أَلَا إِنَّه مِن بَلْدَةِ الكُفْرِ أَنْجاني
فاستفهمت منها أمنا الصديقة عن قصة هذا البيت الذي يتكرر في أحاديثها، فسردت المرأة القصة المروية بتمامها في صحيح البخاري وربما في غيره من دواوين السنة السنية المشرفة.
وذات يوم افتقد النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام- هذه المرأة وسأل عنها، فقيل له: ماتت أمس في وقت راحة فجهزها المسلمون وصلوا عليها ودفنوها ولم يخبروا الرسول حتى لا يرهقوه بوفاة عابرة، لكنه سأل عن موضع قبرها، ووقف عليه مصليًا وداعيًا لها ولأهل القبور؛ فكانت بركة على ساكني تلك المراقد المخيفة التي سينزل فيها كافة البشر وما أحوجهم لنور يضيء ظلمتها، ودعاء يؤانس وحشتها، وفعل من المعروف يفتح لهم بابًا من الجنة.
فسبحان من جعل في هذه الواقعة التي لبست لبوس المحنة والشر خيرًا كثيرًا للمرأة؛ إذ تخلصت من سادتها، وغيرت بلدتها، وآمنت بخاتم الأنبياء، وصارت مسؤولة عن نظافة إحدى أطهر البقاع وأكثرها قداسة وأجرًا، وإليه تشد الرحال وفيه تعظم الأجور، وأصبحت جليسة لحبيبة رسول الله وأم المؤمنين به، ونالت من عناية النبي وسؤاله وصلاته ما تغبط عليه، وحجزت لها موضعًا في كتب السنة وعلى رأسها صحيح البخاري، وتفتقت أذهان الفقهاء عن أحكام وحكم من قصتها، وخلّد المسلمون سيرتها مقرونة بالترضي عليها إلى قيام الساعة؛ فأيّ خير، وأيّ منح جاءت تسعى إلى إنسان ربما زهد فيه عارفوه أو احتقروه في أول حياته.
إن الخير والشر وجميع الأقدار بيد الله العزيز الحكيم القادر، ولسنا نعلم ما يحجب الغيب وما تخفي التدابير، بيد أننا نؤمن بدلالات أسماء مولانا الحسنى وصفاته العلى، ونحسن الظن بالكريم الرؤوف الودود، ومع هذا التفاؤل واليقين القلبي الذي يورث السكينة والاطمئنان يجب علينا العمل قدر المستطاع فيما نحسن ونملك ونقدر عليه؛ لنستجلب الخير والمصلحة، وندفع الشر والمفسدة، ونربط القلوب بربها الواحد، كي نكون أهلًا لقضاء من الولي الكبير يصلحنا ويغيرنا للأحسن سواء بمدد من الملائكة المسومين، أو بأسراب من الطير الأبابيل، أو بتسخير الخلائق وإجراء الأحداث بما ينفع ويرفع، فقدرة الله لا يدركها تصور، ولا يحيط بها إنس أو جان، وإذا أراد الله أمرًا يسر له أسبابًا ظاهرة وخفية، والله يجعلنا على استعداد دائم يرضي القوي القدير.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
ahmalassaf@
الاثنين 14 من شهرِ رجب عام 1441
09 من شهر مارس عام 2020م