المخدرات؛ حياة بائسة، وخاتمة سيئةٍ
عبدالمحسن بن محمد العامر
الحَمدُ للهِ نَحمَدُه ونَستَعينُه ونَستَغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ من شُرورِ
أنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا، من يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ
فلا هاديَ له، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ محمدًا عبدُه
ورسوله
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ"
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا"
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا"
أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلّم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ وكلَّ ضلالةٍ في النارِ.
معاشرَ المؤمنينَ: قالَ اللهُ تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" وعن أمِّ سلمةَ رضيَ اللهُ عنها؛ أنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: "نَهَى عن كلِّ مُسْكِرٍ، ومُفَتِّرٍ" رواهُ الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ وصححه الألبانيُّ، والمُخدِّراتُ مِنْ أعظمِ المفتِّراتِ، وأشنعِها، وأضرِّها، وأذهبِها للدِّيْنِ والمرؤةِ، وللعقلِ والرأيِ، إذ يبدأُ متعاطيها بفقدانِ الشعور، وموت الإحساس، وفقدان الوعي، ويتدرج به حالُ السوءِ إلى أنْ يُصبحَ وحشاً بشريّاً؛ همُّه إشباعُ رغباتِ نفسِه، وإطفاءُ لهيبِ الإدمانِ في داخلِه، حتى إنّه ربّما باعَ نفسَه أو عِرْضَه، أوْ باعَ كلَّ ما يملك لأجلِ أنْ يُطفئَ نارَ الإدمانِ التي تشتعلُ في داخلِه.
المُخدِّراتُ؛ تجاوزتْ معنى المسكراتِ والمُفتِّراتِ؛ إلى ما هو أعظمُ؛ مِنَ إصابةِ متعاطيها بجنونِ الإدمانِ، وداءِ الشَّكِ، وأمراضِ الانفصامِ والانعزالِ، وسوءِ المزاجِ، وقُبْحِ الأخلاقِ، والأنانيّةِ، وضعفِ الشَّخصيَّةِ، واهتزازِ الثِّقةِ بالنَّفسِ، ودناءةِ النفسِ، وذهابِ العِزِّ والشَّرفِ، واستعبادِ الشَّهواتِ له، وغيرِ ذلكَ مِنْ الأمراضِ العضويَّةِ، والنَّفْسيَّةِ، والعقليّةِ، والرُّوحيّةِ.
والمخدِّراتُ المعاصِرةُ كلُّها تؤدي إلى الإدمانِ، ومدمنُ المُسْكِرِ مَحرُومٌ مِنْ خمرِ الجنَّةِ الذي لذّتُه حقيقَّةٌ، لا يُصدِّعُ الرُؤسَ، ولا يُذهبُ العقولَ؛ قالَ عليه الصلاةُ والسَّلامُ: "مَن شَرِبَ الخَمْرَ في الدُّنْيا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْها؛ حُرِمَها في الآخِرَةِ" رواهُ البخاريُّ عن عبدِاللهِ بنِ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهما، وأخذَ بعضُ العلماءِ مِنْه أنَّهُ لا يدخلُ الجنةَ، وقالَ آخرونَ أنّه لو دخلَها فإنَّه لا يشربُ مِنْ خَمْرِها، قال ابنُ العربيِّ رحمَهُ اللهُ تعالى: (فظاهرُ الحديثِ، ومذهبُ نَفَرٍ مِنَ الصحابةِ ومِنْ أهلِ السُّنَّةِ: أنَّه لا يَشْرَبُ الخمرَ في الجَنَّةِ) انتهى
عبادَ اللهِ: جاءَ في الحديثِ الصّحيحِ أنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلّمَ قالَ: "قالَ اللهُ تعالى: وإنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وإنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عن دِينِهِمْ" رواهُ مسلمٌ عن عِيَاضِ بنِ حمارٍ رضيَ اللهُ عنه.
فاجتيالُ الشياطينِ لبني آدمَ عنِ الدِّيْنِ بالمخدِّراتِ مِنْ أعظمِ الاجتيالاتِ، بلْ هو اغتيالٌ لِدِيْنِ العبدِ وفطرتِهِ، وقضاءٌ على ضميرِهِ وطهارَتِه.
وورَاءَ هذا الاجتيالِ والاغتيالِ؛ تقصيرٌ مِنْ حُرَّاسِ الفطرةِ، وتفريطٌ مِنْ حُمَاةِ الحَنِيْفِيَةِ، فالوالدانِ هما الحارسانِ المستأمَنَانِ، والمسؤولانِ الأوَّلانِ عن أوْلادِهِمَا؛ قالَ عليه الصّلاةُ والسّلامُ: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ" متفقٌ عليه من حديثِ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه. فهلْ يَعيْ كلٌّ مِنَ الوالدينِ أنَّ تضييعَهما لأولادِهما وإهمَالَهَمَا لهمْ؛ إفسادٌ لِفِطَرِهِمُ النّقيَةِ، وتسليمُهمْ لقمةً سائغةً للشيطانِ وأعوانِه يتلاعبُونَ بهم كيفما يريدون.
وهلْ يَعيْ كلٌّ مِنَ الوالدينِ أنَّ تضييعَهما لأولادِهما وإهمَالَهَمَا لهمْ؛ تسليمٌ لهمْ لأصدقاءِ السوءِ، الذينَ يوقِعونَهُم في مستنقعاتِ المخدِّراتِ، وأوحالِها القذرةِ، فالأولادُ مسؤوليةٌ عُظْمَى في رقابِ الوالدينِ، واللهُ قدْ أمرنا بوقايَتِهم مِنَ النارِ؛ فقالَ جلَّ شأنُه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" وقالَ عليه الصّلاةُ والسّلامُ: "والرَّجُلُ في أهْلِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ" رواه البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حديثِ عبدِاللهِ بنِ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهما. وعن أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللهُ عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلّمَ: " إِنَّ اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاع عمَّا اسْتَرْعاه، أَحَفظَ أَمْ ضَيَّعَ، حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ" رواهُ ابنُ حبّانَ وغيرُه وصحّحَه الألبانيُّ.
وعنْ معقلِ بنِ يسارٍ رضيَ اللهُ عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: " ما مِن عَبْدٍ اسْتَرْعاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْها بنَصِيحَةٍ، إلَّا لَمْ يَجِدْ رائِحَةَ الجَنَّةِ" رواه البخاريُّ ومسلمٌ.
فالمسؤوليَّةُ عظيمةٌ، والخلاصُ مِنْ تَبِعَتِها يحتاجُ قياماً بحقِّها، وأداءً مخلصاً لها، وجعلاً لها مِنْ أهمِّ المهمَّاتِ، وأوائلِ الواجباتِ.
إنَّ بعضَ الآباءِ ــ هداهم الله ـــ يعتقدُ أنَّ مسؤوليَّتَه على أولادِه تتمثّلُ بتوفيرِ المسكنِ، والمأكلِ، والمشربِ، والمركبِ، وحياةِ الرّفاهيَةِ فقط، ولا يهتمُّ بالمتابعةِ الدائمةِ لهم، ولا بمراقبةِ سلوكياتِهم وتقويمِها، ولا بأمرهِم بالخيرِ والبرِّ والهُدى، ونهيهِم عن الشرِّ والفجورِ والرَّدى، ولا يأخذُ بأيدهم نحو الصِّراطِ المستقيمِ، وأطرِهم على الحقِّ المبينِ، ولا يُشارِكُهم همومَهم واهتماماتِهم، ولا أفراحَهم وأتراحَهم، ولا يُحسُّ بشدَّتِهم ولا رخائِهم، ولا يَتحمَّلُ سماعَ مشكلاتِهم، ولا معاناتهم، ومِنْ ثَمَّ تَحْدُثُ الفجوةُ بينهُم، وتتباعدُ النُّفوسُ والأرواحُ، فيكونُ الأولادُ لقمةً سائغةً لكلِّ ساعٍ في الأرضِ فساداً، ولكلِّ فاجرٍ لا يَرْعَى ذمَّةً، ولا يَصُونُ مودَّةً، ولا يَرْحمُ مسلماً.
نَعَمْ عبادَ اللهِ: إنَّ التّربيةَ طَرَفٌ مِنَ الحِكْمَةِ: "وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ"
باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسنَّةِ، ونفعنا بما فيهما مِنَ الآياتِ والحكمةِ..
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم إنّه كانَ غفّاراً.
الخطبةُ الثّانيةُ:
اَلْحَمْدُ للهِ عَلىَ إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلىَ تَوْفِيْقِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ اِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ نبيّنا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ الدَّاعِى إلىَ رِضْوَانِهِ، صلى اللهُ وسلّمَ عليه وعلى آله وأصحابِه وإخوانِه.
أما بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ " إنّ اللهَ مع الذين اتقوا والذينَ هم مُحْسِنُون"
معاشرَ المؤمنينَ: أولادُنا أوْلَى بِنَا، وحاجتُهم إلى قربِنا منهم؛ لا تَقِلُّ عن حاجتِهم للطعامِ والشرابِ، قُرْبٌ لا يؤذي ولا يضيِّقُ، ولا يَسلِبُ الحريَّةَ، ولا يُضعِفُ الشّخصيةَ، قُرْبٌ يفسحُ المجالَ لسماعِ النُّصحِ والتّوجيِه بثقةٍ وأريحيّةٍ، ويحسِّسُ بالحبِّ والحِنّيَّةِ، ويربطُ بينَ القلوبِ والأرواحِ بالعاطفةِ الأبويّةِ، والرّحمةِ الإنسانيّةِ.
كَمْ حالَتْ تِلْكُمُ المحبَّةُ والتّوجيهاتُ والعواطِفُ؛ بينَ الأولادِ وبينَ معاصٍ تَيَسَّرتْ لهم، وكم مَنَعَتْهُم مِنْ شرورٍ كادوا أنْ يُقارِفوها، وكَمْ كانت حاجزاً وسدّاً مَنيْعاً دونَ إقدامِهم على النّزولِ إلى مستنقعاتٍ مُنْتِنَةٍ، وأوْحَالٍ مُتَنَجِّسةٍ، وكَمْ أيقضتْ ضمائرَ نائمَةً، ونَبّهتْ عقولاً غافِلةً.
فلا تبخلوا على أولادِكم بالقرْبِ والحُبِّ، ولا تقصّروا معهم بالتَّوجيهِ والعواطِفِ، سُدُّوا ما تستطيعونَ مِنْ فراغِهم العاطفيِّ، والرُّوحيِّ، والوقتيِّ.
وبعدُ عبادَ اللهِ: عوداً على بدءٍ نقولُ: المخدِّراتُ التي ظهرتْ في هذا العصرِ؛ أغلبُها مركبّاتٌ كيميائيةٌ خطيرةٌ تُعطِبُ العقلَ، وتقتلُ رُوْحَ الحياةِ، وتَسْلُبُ الإنسانيةَ، وتُعَجِّلُ بالوسوسَةِ والهلوسةِ.
ومِنْ أخطرِها؛ مادّةُ (الشّبو) الخبيثةِ، فما تسمعونَ وتقرؤنَ وتشاهدونَ عنها؛ ما هو إلا قليلٌ مِنَ كثيرٍ مِنْ شرِّها، ويسيرٌ مِنْ عظيمٍ مِنْ خطرِها.
ونحنُ في بلدنا المباركِ الآمنِ المطمئنِ؛ مستهدفونَ بهذه المخدِّراتِ، وتَشُنُّ علينا عصاباتُها حرباً ضروساً، وحكومتُنا الرَّشيدةُ ــ سدَّدها اللهُ ووفّقَها ــ تكافحُ وتنافحُ، وتَقعُدُ لهم كلَّ مرصدٍ، وحملتها دائمةٌ مستمرّةٌ، وكلَّ يومٍ تُكشفُ الكميّاتُ الهائلةُ، وتُحبَطُ محاولاتُ التهريبِ المُستَمِيتَةُ المتكرِّرةُ، ويُقْبَضُ على المهربينَ والمروِّجينَ المجرمينَ ويُقدَّمونَ للعدالةِ؛ ليأخذَ شرعُ اللهِ فيهم مجرَاهُ، فواجبنا نحنُ المواطنينَ والمقيمينَ أنْ نتعاونَ معَ الجهاتِ الأمنيةِ، وأنْ نبلِّغَ عن المروّجينَ والمهربينَ والسّاعينَ في الأرضِ فساداً، صيانةً لبلدنا، وحفاظناً على مكتسباتِنا، وإبقاءاً على نسيجِ مجتمعنِا نقيّاً متماسكاً محافظاً.
نسألُ اللهَ أنْ يحفظَ بلادنا وجميعَ بلادِ المسلمينَ من شرِّ الأشرارِ وكيدِ الفجارِ ومِنْ شرِّ طوارقِ الليلِ والنهارِ.
كما نسأله تعالى أنْ يوفقَ رجالَ أمننا، وأنْ يحفظهم ويسددهم، وأنْ يُكلِّل جهودَهم بالنَّجاحِ، وأنْ يقمعَ بهم أهل الشرِّ والفسادِ.
هذا وصلوا وسلموا ....