المحجة في بيان فضل وحسن عشر ذي الحجة مراعى فيها التعميم
عبد الله بن علي الطريف
المحجة في بيان فضل وحسن عشر ذي الحجة 1445/12/1هـ
الحمد لله الذِي فاضلَ بين الليالي والأيامِ، فجعلَ عشرَ ذي الحجةِ خيرَ الأيامِ، وأشهدُ ألا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له الملِكُ العلاّم، وأشهدُ أنّ نبيّنا محمّدًا عبدُه ورسولُه سيّدُ الأنام، صلِّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ما تعاقبتِ الليالي والأيام. أما بعد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
أيها الإخوة: أشرقت شمسُ هذا اليومِ بحمدِ الله على الأمّةِ الإسلاميّةِ بميلادِ عشرِ ذي الحجة بفضلِها وبركاتِها، تلكم العشرُ التي فضَّلَها اللهُ، وعظمها رسولُه ﷺ فهي أفضلُ أيامِ العامِ قاطبةً وأعظمُها، وهي موسمُ خيرٍ وطاعات، وفرصةٌ لتبوء أرفعِ الدرجات، وتحصيلِ أعظمِ الحسنات، وحَطِّ ثقيلِ السيِّئات..
فيا الله أيُ أيام خير يا عباد الله قد أظلتنا.. وأيُ مواسمَ للبرِ والعطاء حلت بساحتنا.. وأي فرصةٍ لمضاعفة الأجور واتتنا.. حق أن نستقبلها بالسرور والعزم والجد والتشمير..
نعم والله أنها أعظمُ الأيّامِ عند اللهِ فضلاً وأكثرُها أجرًا، وأحسنُها حُسْناً.. فلِحُسْنِها: أقسم اللهُ تعالى بها، بل جعلها كما قال الشيخ السعدي: المقسم به، والمقسم عليه، وهذا جائز مستعمل إذا كان أمراً ظاهراً مهماً، وهو كذلك في هذا الموضع فقال الله تعالى: (وَٱلْفَجْرِ* وَلَيالٍ عَشْرٍ) [الفجر:1،2]، وقال ابنُ جريرٍ رحمه الله: والصواب من القول في ذلك عندنا أنها عشر الأضحى لإجماعِ الحجةِ من أهلِ التأويلِ عليه.
ومن حسنها: ثناءُ الرسولِ ﷺ على العملِ الصالحِ فيها ثناءً لم يقلْه بغيرِها فَقَد قَالَ مَرَةً ﷺ: «مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟» يعني أيّامَ العَشْرِ. رواه البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.
وقَالَ مَرَةً ﷺ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الألباني رحمهم الله.
وقَالَ مَرَةً ﷺ: «مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي العَشْرِ الْأَضْحَى» رواه البيهقيّ والدارمي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وحسنه الألباني.
لقد جمعَ رسولُ اللهِ ﷺ للعملِ الصالحِ في هذه العشرِ أجملَ أوصافِ الكمال، فقال عنه: «أَفْضَلُ العَمَلِ، وأَزْكَى العَمَلِ، وأَحَبُّ العَمَلِ».. ثُمَ فَضَّلَ زَمَنَهَا كُلَهُ فَقَالَ إِنْهَا: «أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا».
وعظَّمَ شأن العمل فيها تعظيمًا كبيرًا، وفَخَمَ فَضلَهُ تفخيمًا جليلًا فقال ﷺ: «مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟» قَالُوا: وَلاَ الجِهَادُ؟ قَالَ: «وَلاَ الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ» رواه البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وفي رواية «إِنَّ أَفْضَلَ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ» يعني عشرَ ذِي الحجّةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا مَنْ عَفَّرَ وَجَهَهُ فِي التُّرَابِ» رواه البزّار في مسنده عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: دلَّ هذا الحديثُ على أن العملَ في أيامِ العشرِ أحبُ إلى اللهِ من العملِ في أيامِ الدنيا من غيرِ استثناءِ شيءٍ منها، وإذا كان أحبَ إلى اللهِ فهو أفضلُ عنده.. وقال: جميعُ الأعمالِ الصالحةِ مُضاعَفةٌ في العشر من غير استثناء شيءٍ منها.. وقال: العمل في هذه الأيام العشر أفضلُ من العمل في أيامِ عشرٍ غيرها، وقال: ويستثنى جهادًا واحدًا هو أفضل الجهاد، وهو أن يُعْقَرَ جوادُهُ ويُهراقَ دمُه.. فَقَدْ قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْ يُعْقَرَ جَوَادُكَ، وَيُهْرَاقَ دَمُكَ» رواه ابن حبان عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصححه الألباني... وقال أيضاً: فهذا الجهادُ بخصوصٍ يَفْضُلُ على العملِ في العشر، وأما سائر أنواع الجهاد مع سائر الأعمال، فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضلَ منها.
ومن حُسن أيّامٌ العشر: وقوعُ أعظم تجمع إسلامي واجب فيها وهو الحجّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» رواه البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وقَالَ ﷺ: «وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ» متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.. ومن حسنها: اجتماع أمّهات العبادة فيها، قال ابن حجر رحمه الله: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ السَّبَبَ فِي امْتِيَازِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِمَكَانِ اجْتِمَاعِ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَةِ فِيهِ وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْحَجُّ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ. انتهى.. لذا يُشرعُ صيامُ هذه الأيّام الفاضلةُ، ويتأكّدُ فضلُه فيها، فَعَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ تِسْعًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْرِ وَخَمِيسَيْنِ. رواه النسائي عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ امْرَأَتِهِ وصححه الألباني. قال النوويّ رحمه الله: عن صيامِ هذه التسعة أنه مستحبُّ استحبابًا شديدًا.
أيها الإخوة: ومن حُسن هذه العشر وبهائها تخصيصها بالإكثار فيها من التهليل والتكبيرِ والتحميد، فقد قَالَ ﷺ: «أَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ». رواه أحمد عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وإسناده صحيح وله شاهد عند الطبراني. وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «التَّسْبِيحُ نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ يَمْلَؤُهُ، وَالتَّكْبِيرُ يَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ».. الحديث، رواه أحمد في مسنده، وقال الأرناؤوط: صحيح لغيره. والتَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّحْمِيدُ من الذكرِ وقد وصفَ النَّبِيُّ ﷺ الذِكرَ بِقَولِهِ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ»؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى» لذا شُرع الإكثارُ منه في العشر، قال البخاريّ في صحيحه: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا» وفي رواية: وَلَا يَأْتِيَانِ لِشَيءٍ إِلَا لِذَلِكَ.. وعن ميمون بن مهران قال: "أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها ويقول: إن الناس قد نقصوا في تركهم التكبير" رواه المروزي، وقال ابن رجب في فتح الباري وهو مذهب أحمد، ونص على أنه يجهر به..
اللهُ أكبرُ ما أحلى النداءَ بها *** كأنه الرِّي في الأرواح يُحييها
وقال ابن القيم رحمه الله: يستحب في الأيام العشر الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد...
وبعد: واجبنا جميعًا استشعار نعمة العشر واغتنام هذه الفرصة، وأن نخُّص العشر بمزيد عناية، ونُعظِّمها أشد التعظيم ونُكثر فيها من العمل الصالح، من الصلاةِ والقراءةِ والذكرِ وأن نجعل لنا فيها وردًا منه، وأن نلحَ بالدعاءِ، ونتصدقَ وننفقَ في سُبلِ الخيرِ ونشفقَ على الضعفاءِ ونرحمَ الفقراء ونبرَ الوالدين ونصلَ الأرحام ونَأمرَ بالمعروف وننهيِ عن المنكر، وغيرِ ذلك من طرقِ الخيرِ وسبلِ الطاعة.. بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
أمّا بعد: أيّها الإخوة: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فهي وصيّتُه اللاّزمة وفرضُه المتَحتِّم.
أيها الإخوة: يا من يسر الله لهم الحج إلى بيته الحرام هذا العام أقول لكم: من فضل الله عليكم أن وفقتم لذلك فهنيئًا لكم حج بيته؛ فكم من متمنٍ لم يدرك ما أدركتم، ومن شكر هذه النعمة حرصكم على ضبط أداء المناسك اقتداء بنبيكم ﷺ فقد قال: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» رواه مسلم عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ولا تشقوا على أنفسكم فيما لم يشرع.. وحيث أن حج هذا العام سيكون في شدة الحر فحري بكم اتقاء الشمس بكل وسيلة.. وقد وجهت وزارة الصحة باتخاذ عددٍ من سُبلِ الوقاية الصحية للحفاظ على صحة وسلامة الحجاج، وحثت على الأخذ بها حفاظًا على صحتهم وحياتهم، مثل الحرص على شرب الماء وحمل المظلة وارتداء الكمامة في الزحام الشديد، والعناية بالنظافة الشخصية (نظافة البدن والثياب والمكان)، واتباع إرشادات السلامة من تجنب الزحام وعدم التدافع وتسلق المرتفعات، واختيار الأوقات المناسبة لأداء المناسك..
إخوتي الكرام: أوصيكم ونفسي بالحرص على استثمار مواسم الخير، فإنها سريعة الانقضاء.. والرحيل قريب.. والطريق مخوف.. والاغترار غالب.. والخطرُ عظيمٌ.. وإلى الله تعالى المرجعُ والمآب.. فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. وصلوا وسلموا على نبيكم .......