المحبة في الله
محمد بن عبدالله التميمي
الخطبة الأولى
الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَطَفَ بِالْبَرَايَا وَبَرَّ، وَرَوَّحَ أَرْوَاحَ أَهْلِ الصَّلاحِ بِصُحبةِ الصاحين وَسَرَّ، وَاطَّلَعَ عَلَى ضَمِيرِ مَنْ نَوَى وَسِرِّ مَنْ أَسَرَّ، لُطْفُهُ عَظِيمٌ وَجُودُهُ عَميِمٌ قَدِ اسْتَمَرَّ، سَمِيعٌ يَسْمَعُ الْمُدْنِفَ الْمُضْطَرَّ، بَصِيرٌ يَرَى فِي دُجَى اللَّيْلِ الذَّرَّ، عَلِيمٌ بِانْكِسَارِ مَنْ نَدِمَ وَإِصْرَارِ مَنْ أَصَرَّ. أَحْمَدُهُ عَلَى إِنْعَامٍ مُسْتَمِرّ، وَأُقِرُّ بِوَحْدَانِيَّتِهِ عَنْ دَلِيلٍ مُسْتَقِرّ، وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ الَّذِي عَمَّتْ رِسَالَتُهُ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ، وَعَلَى صَحَابتِهِ الَّذِين ارْتَفَعَوا بِشَرف الصُّحبةِ فنالوا الرِّضَى فالْفَخْرُ قَدِ اسْتَقَرَّ. أما بعد:
فأوْصِيْكُم ونَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ سبْحَانَه، وهو العليُّ في شَأْنِه، وابتغوا تحقيق التقوى، بسلوك نهج الهُدى، وعدم اتباع الهوى، فمَتَى أَصْبَحَ الْهَوَى أَمِيرًا، أَمْسَى الْعَقْلُ أَسِيرًا، وإنَّ التَّقْوَى دِرْعٌ وَالدِّرْعُ مَجْمُوعُ حِلَقٌ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَتْرُكَ خَلَلا فِي دِرْعِكَ فَإِنَّ الرَّامِيَ يَقْصِدُ الْخَلَلَ، مَتَى فَسَّحْتَ لِنَفْسِكَ فِي تفريطٍ وإن قلّ انْخَرَقَ حِرْزُ احترازك!
عباد الله.. وإن مما به المرء يتقوَّى، ومن الردى يَتَوقَّى: المحبةُ في الله، والأخوةُ الصادقة، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخوة} وهي رابطةُ قوة وآصرةُ تعاون، قَالَ اللهُ جلَّ وعزَّ: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} قَوَّاكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ {وَأَلَّفَ بَيْنَ قلوبهم} وجَمَع بين قلوبهم بعد التفرق. {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: هُمُ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّه.
إن الأُخُوَّةَ الصَّادقة قُدرة ربانية ومَرْتَبَةٌ عَلْيَّة، قال ‘: "الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ ".
وأصلٌ فيها وتقتضيها: الْمَحَبَّةَ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، التي هي أَوْثَقُ عُرَى الإِيمَانِ. كَذَلِكَ رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ عَنِ النَّبِيِّ ‘ أَنَّهُ قَالَ: " أَوْثَقُ عُرَى الإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللَّهِ وَتُبْغِضَ فِي اللَّهِ ".
والمتحابُّوَن في الله قد طلبوا بذلك رضا الله، فاختصهم الله بثواب جزيل، فهم في ظلٍّ ظليل، فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ‘ أَنَّهُ قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ" وذَكَرَ مِنْهُمْ " وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ" فالشأن في الديمومة على ذلك لا تُفسِدها الدنيا، فهم طُلَّابُ أخرى.
ومَن أَحَبَّ شَخْصًا في الله فَلْيُعْلِمْهُ كما أرشد لذلك رسول الله ‘ ، ففي السنن عن المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَنِ النَّبِيِّ ‘ أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ إِيَّاهُ"، وفيها أيضا من حديث أنس بن مالك أنّ رَجُلًا قال للنَّبيِّ ﷺ: "إنِّي أُحِبُّ فُلانًا في اللهِ، قال: فأخبَرْتَه؟ قال: لا، قال: فأخْبِرْه. فقال: تَعلَمُ أنِّي أُحِبُّكَ في اللهِ، قال: فقال له: فأحَبَّكَ الذي أحبَبْتَني له" وعَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلانِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ مَسْجِدَ أَهْلِ دِمَشْقَ فَإِذَا حَلْقَةٌ فِيهَا كُهُولٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا شَابٌّ فِيهِمْ أَكْحَلُ الْعَيْنِ بَرَّاقُ الثَّنَايَا كُلَّمَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوهُ إِلَى الْفَتَى، فَقُلْتُ لِجَلِيسٍ لِي: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هذا معاذ ابن جَبَلٍ فَجِئْتُ مِنَ الْعَشِيِّ فَلَمْ يَحْضُرْ، فَغَدَوْتُ من الغد فلم يجيء، فَخَرَجْتُ فَإِذَا أَنَا بِالشَّابِّ يُصَلِّي إِلَى سَارِيَةٍ فَرَكَعْتُ ثُمَّ تَحَوَّلْتُ إِلَيْهِ، قَالَ فَسَلَّمَ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ: إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ: فَمَدَّنِي إِلَيْهِ وَقَالَ: كَيْفَ قُلْتَ؟ قُلْتُ: إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ ‘ يَقُولُ: "الْمُتَحَابُّونَ في الله عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ ". قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى لَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَذَكَرْتُ حَدِيثَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ‘ يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: "حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ".
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ‘ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادًا عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَغْبِطُهُمُ الشُّهَدَاءُ. قِيلَ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ".
اللهم اجعلنا فيك متحابين، وعلى الصدق متآخين، واغفر لنا وللمسلمين أجمعين، الأحياءِ والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلِيمًا عَظِيمًا عَلِيًّا، قسَم الخلائق سعيدًا وشقيًّا، أشدُ ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا وَليًّا، وأشهد أن محمدًا بعثه الله رسولًا نبيًّا، صلى الله عليه وعلى الصحب المختار رضيًّا، أما بعد:
فاتَّقوا الله عباد الله، وفي محبَّةِ عباده أخلصوا، ومن شَرَكِ الشيطان احترسوا، فإنَّ ثَوَابَ المَحَبَّةِ في الله إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَتْ للَّهِ تَعَالَى خَالِصَة، لا يَشُوبُهَا شَيْءٌ مِنَ الْكَدَرِ، وَمَتَى قَوِيَتْ مَحَبَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْقَلْبِ قَوِيَتْ مَحَبَّةُ أَوْلِيَائِهِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ، فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ ‘ أَنَّهُ قَالَ: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ ".
فالصحبةَ الصحبةَ في الله ولله يا عباد الله، قال أبو زُرعةَ رحمه الله: "اصحب من ذا صَحِبْتَهُ زَانَكَ، وَإِنْ خَدَمْتَهُ صَانَكَ، وَإِذَا أَصَابَتْكَ خَصَاصَةٌ مَانَكَ، وَإِنْ رَأَى مِنْكَ حَسَنَةً سُرَّ بِهَا، وَإِنْ رَأَى مِنْكَ سَقْطَةً سَتَرَهَا، وَمَنْ إِذَا قُلْتَ صَدَّقَ قَوْلَكَ، وَكُلُّ أَخٍ وَجَلِيسٍ وَصَاحِبٍ لا تَسْتَفِيدُ مِنْهُ فِي دِينِكَ خَيْرًا فَانْبُذْ عَنْكَ صُحْبَتَهُ".
وبعدُ عباد الله.. لِيَنْظُرْ كلٌّ مِنَّا مَنْ يُؤَاخِي وَمَنْ يُحِبُّ، وَلا يَنْبَغِي أَنْ يَتَخَيَّرَ إِلا مَنْ قَدْ سَلِمَ عَقْلُهُ وَدِينُهُ. وَقَدْ قَالَ ‘: " الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ " والحذرَ الحذرَ من صُحبة السوء بالجسم والبدن أو بالنظر والذهن، عبر وسائل التواصل التي جدَّت في هذا الزمن، فصونوا أنفسكم، وارعوا أولادكم بمعرفة مَن يَصحبون ويتابعون، وباللين تُوجِّهون، وبالترغيب تُرشِدون، فإنهم عبر الشبكة في عالمٍ مفتوح، رائحةُ الشر تفوح، ما بين ضلال شبهات، وزيغ شهوات، والقلوب ضعيفة والشُبَهُ خطَّافة، والنار حُفَّت بالشهوات، وَالمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ.
ثم صلوا عباد الله وسلموا على من تنالون بالصلاة والسلام عليه واحدة عشرا، وتُكتبُ لكم الحسناتُ أجرا، وتُمحى السيئاتُ غَفْرًا، ويُثنَى عليكم في الملإ الأعلى ذكرا.
المرفقات
1692899272_المحبة في الله.docx
1692899272_المحبة في الله.pdf