المبتلى من ذوي الإعاقة-تصبيره، وتبصير الناظر إليه بإكرامه وعدم ازدرائه
محمد بن عبدالله التميمي
الحمد لله الذي لا يُؤدى شُكر نعمة من نِعَمِهِ؛ إلا بنعمة منه، يجب شكره بها، أحمده حمداً كما ينبغي لكرم وجهه وعِز جلاله، وأستعينه استعانةَ من لا حول له ولا قوة إلا به، وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه، وأستغفره لما أَزلفت وَأَخرت: استغفار من يُقر بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واشكروا نعم الله، نِعمٌ جليلةٌ أسداها قبل الاستحقاق، ولا يَشرَكُه فيها غيرُه وهو الرب الخلاق، ليس للخلق فيما وهب اختيار، وهم فيما وهبهم في ابتلاء واختبار، وكذا فيما سَلَب سبحانه بعضَ خلقه من أعضاء أو حواسّ، فمختبر ذلك البعض من الناس: في إيمانه بقضاء الله وقدره وابتلائه، ومختبر البعض الآخر في إكرام أخيه وعدم ازدرائه.
عباد الله.. إن المبتلى بفقده شيئا من حواسّه يصبِّره الإيمان بقضاء الله وقدره فقد قال الله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} وإن نظَرَه لمن هو أسفل منه مَصبّر له ومؤنس، ومفرج لهمّه ومُنفّس، وفي الصحيحين: " انْظُرُوا إلى مَن أسْفَلَ مِنكُمْ، ولا تَنْظُرُوا إلى مَن هو فَوْقَكُمْ، فَهو أجْدَرُ أنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ علَيْكُم".
ويُرقّي المبتلى للرضا يقينه بعظيم رحمة الله بما اختاره له ورضّاه، قال أبو الدرداء: "إن الله إذا قَضى قضاء أحب أن يُرضَى به"، وفي السنن: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ»، وفي السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دُعائه: «أَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ».
قال ابن رجب: "ومما يدعو المؤمن إلى الرضا بالقضاء: تحقيق إيمانه بمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلاّ كان خيرًا له؛ إن أصابته سَرّاء شكر، كان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر، كان خيرًا له، وليس ذلك إلاّ للمؤمن". وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يوصيه وصية جامعة مُوجزة، فقال: «لَا تَتَّهِمِ اللهَ فِي شَيْءٍ قَضَى لَكَ بِهِ».
وقال ابن القيم رحمه الله: "الجزع والتسخط والتشكّي يَزيد في المصيبة، ويُذهب الأجر".
عباد الله.. ودرجةٌ عالية تجعل المبتلى فَرِحا بما يُرجّيه من عظيم مثوبة الله وما بالذي به رقّاه، ففي صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك: "إنَّ اللَّهَ قالَ: إذا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ، عَوَّضْتُهُ منهما الجَنَّةَ يُرِيدُ: عَيْنَيْهِ"، وفي الصحيحين من حديث عائشة أم المؤمنين: "ما مِن شيءٍ يُصِيبُ المُؤْمِنَ حتّى الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ، إلّا كَتَبَ اللَّهُ له بها حَسَنَةً، أوْ حُطَّتْ عنْه بها خَطِيئَةٌ"، وفي المسند والسنن: " أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبتلى الناسُ على قدْرِ دينِهم، فمن ثَخُنَ دينُه اشْتدَّ بلاؤُه، ومن ضعُف دينُه ضَعُف بلاؤه، وإنَّ الرجلَ لَيُصيبُه البلاءُ حتى يمشيَ في الناسِ ما عليه خطيئةٌ ".
وقد قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} فهذه المحن لا يجب أن تكون عقوبات لأنه تعالى وعد بها المؤمنين من الرسول وأصحابه، وإذا قارنها الصبر أفادت درجةً عالية في الدين.
وإن القيام على هؤلاء وما يكون فيه من العناء، من لدن أمِّه وأبيه، وأختِه وأخيه، لعظيم الثواب والمغفرة، إذا صُيّر عبادةً ومقرُبة {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على النعم والآلاء، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين والمؤمنات الأموات منهم والأحياء.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا يُوافي نِعمه ويُكافئ مزيده، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له والجميع خلقَه وعبيدَه، وأشهد أن محمدا عبدالله ورسوله القائمِ بتبليغ دين ربِّه وترسيخِ الشرع والعقيدة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وكلِّ تابع مُحسنٍ إسلامَ وجهه وتوحيدَه، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن جملة كبيرة ممن ابتلاهم الله، قد تبوَّؤا المنزلَ العليّ، لما لهم من عزم أَبيّ، فهذا أيوب عليه السلام لما بقي في بلائه ثمان عشرة سنة وصبر قال الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} وأصيب يعقوب وشعيب عليهما السلام بالعمى، ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم عمرو بنُ الجموح ومعاذ بنُ جبل وعبدالرحمن بنُ عوف كلُّهم بالعَرَج، وعبدُالله بن أم مكتوم رضي الله عنه بالعمى، وثابت بن قيس بن شمّاس رضي الله عنه بالصمم، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه بشلل يده، وجعل صلى الله عليه وسلم عمرو بن الجموح رضي الله عنه سيد بني سَلِمة، واستخلف ابنَ أمِّ مكتوم رضي الله عنه مرتين على المدينة أي جعله عليها أميرا يَخْلُفه، وأرسله النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة هو ومصعب بن عمير رضي الله عنهما يُقرئان الناس القرآن.
وعطاءُ بن أبي رباح من كبار المفتين في زمنه، وهو أعور العين، أفطس الأنف، أعرج الرجل، أشلَّ اليد، أقطع الأذن، ومن أئمة الحديث: الأعمش سليمان بن مهران، والأحول عاصم بن سليمان، والأعرج عبدالرحمن بن هُرمز، كما قد تعاقب على الإفتاء في هذه البلاد من قد كُف فلم يُبصِر، وهو لمن سواه هادٍ ومبصِّر.
عباد الله.. هكذا يُنظر إليهم أن عندهم ما الناسُ إليه محتاجون، وإنه ليؤسف أن ترى من بهم ساخرون، وقد قال الله سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ } ثم قال: { بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } وفي المسند وصححه ابن حبان من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: " لعن اللهُ من كمَّه الأعمى عن السَّبيلِ" أي: عمَّى عليه الطريق ولم يوفقه إليه.
نسأل اللهَ المبتدئَ لنا بنعمه قبل استحقاقها، المديمَها علينا مع تقصيرنا في الإتيان إلى ما أوجب به من شكره بها، أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وألا نكون بما وَهَبَنا أشِرين، ولا لمن سُلِب مُزْدرين.
المرفقات
المبتلى-من-ذوي-الإعاقة-تصبيره،-وتبصير
المبتلى-من-ذوي-الإعاقة-تصبيره،-وتبصير-2
المبتلى-من-ذوي-الإعاقة-تصبيره،-وتبصير-2
المبتلى-من-ذوي-الإعاقة-تصبيره،-وتبصير-3
المبتلى-من-ذوي-الإعاقة-تصبيره،-وتبصير-3
المبتلى-من-ذوي-الإعاقة-تصبيره،-وتبصير
المبتلى-من-ذوي-الإعاقة-تصبيره،-وتبصير