المبادرة والمبادرون
عبدالله حمود الحبيشي
الخطبة الأولى ..
أما بعد .. عباد الله .. خلق عظيم تخلق به كل الأنبياء ، واتصف به العظماء والناجحون .. حث عليه الكتاب والسنة .
إذا تطايرت الأفكار والاقتراحات ، وطافت الفرص بين الناس لا يفوز بها إلا صنف واحد .
في الحوادث والملمات كثيرٌ هم المتذمرون ، وأكثر منهم المتفرجون، ويبقى أهل هذه الصفة هم الذين يُستفاد منهم ، وكأنهم الراحلة في الأبل المائة كما قال عليه الصلاة والسلام (تَجِدُونَ النَّاسَ كَإِبِلٍ مِئَةٍ، لا يَجِدُ الرَّجُلُ فيها راحِلَةً) .
فما هي هذا الصفة ، ومن الموصوف بها .. إنها المبادرة وإنهم المبادرون .
إنها المبادرة التي أمر الله بها وحث عليها في أكثر من آية (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) ، (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) ، (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) .
وقال صلى الله عليه وسلم آمر بالمبادرة (بادِرُوا بالأعْمالِ) (بَادِرُوا الصُّبْحَ بالوِتْرِ) (بادِرُوا بِصلاةِ المغرِبِ قَبلَ طُلوعِ النَّجْمِ) .
إنها المبادرة مَنْهَجُ الْعُقَلَاءِ وَسُلُوكُ الْأَتْقِيَاءِ ، وَعَلَامَةُ الصُّلَحَاءِ ، لا يستوون أبدا مع غيرهم فشتان ببن المبادرين والمسوفين (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا) ، وقال تعالى (لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) .
إنهم المبادرون المسابقون للفوز والنجاح واقتناص الفرص (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ) .
يسمع بالخير والعمل الصالح الكثير ، ولكن قليل هم من يبادرون إليه عملا وتطبيقا .. أرسل الله رسوله ، وأمر بالإيمان والهجرة والجهاد ، فاستجاب خلق كثير ، ولكن ثلة تميزت فامتدحها الله وأثنى عليها ، إنهم المبادرون (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
كل الأنبياء والرسل مبادرون .. لأنهم بادروا قومهم بالدعوة ، وهدايتهم للحق ، ومن أميز صفاتهم (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) .
المبادرون أصحاب العقول النيّرة ، والبصائر التي تُدرك العواقب ، وتعرف المصالح والمضارّ ، بما أعطاهم الله من نور الإيمان ، وفهم القران ، وعرفوا قدر المطلوب وقيمته ، وسرعة زوال الوقت وفواته ، فبادروا بالطلب قبل فوات الأوان ، فمدحهم الله ، وأثنى عليهم في محكم القرآن ، ليكونوا قدوة صالحة لغيرهم (أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) .
وإليكم شيئا من أخبارهم ، وما هي نتائج أعمالهم ، وبأي شيء فازوا.
فتاتان بين أناس ممن يعرفونهن يقفن متنحيات عن مكان سقاية الماء ، لأن حوله أمة من الناس يسقون .. أمة ليسوا بالقليل من الرجال ولكن دون أن يفعلوا شيء للفتاتين .. إنها السلبية التي يعيشها كثير من الناس وكأن لسان حالهم نفسي نفسي .. أو وما شأني أنا .. فيأتي رجل غريب خرج من أرضه خائفا يترقب ، يصل إلى مكان الماء ، ويرى ما رآه الناس جميعا ، ولكن خُلق المبادرة يأبى عليه أن يقف متفرجا كغيره .. (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَىٰ لَهُمَا) إنها مبادرة إيْجَابيةٌ ، لم يَفْرِضْهَا عليه أَحَدٌ ، ولم يُطَالِبْهُ بها أحَد ، إلا ضَمِيرُهُ الحيُّ .. وبِمِثْلِ هذه المبادراتِ يَعْظُمُ الإنسانُ في ميزانِ الله ؛ فَهَلِ الرِّجالُ إلا مَوَاقِف ، وهلِ الرِّفْعَةُ والمنزِلَةُ والثَّناءُ الحسَنُ إلا بأفْعالٍ نَهَضَ لها أرْبَابُ الهِمَمِ وأصْحابِ السَّبْقِ ، وتَقَاصَر عنها غيرُهُمْ .. المُبادر لا يقبل أن يكون متفرجا أو سلبيا لذا تجده يبحث عن الحلول أكثر من بحثه في المشكلة ومسبباتها والانتقاد والتذمر.. إنه يوقد شمعه وإن كانت صغيرة ، ولا يضيع وقته بلعن الظلام .
المبادرون هم من يفوز باقتناص الفرص .. يقول النبي صلى الله عليه وسلم (يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِن أُمَّتي زُمْرَةٌ هُمْ سَبْعُونَ ألْفًا، تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إضاءَةَ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ) النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا الكلام بين أصحابه وعددهم ليس بالقليل .. فماذا بعد ؟ هنا يفوز أهل المبادرة .. قالَ أبو هُرَيْرَةَ : فَقامَ عُكّاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ يَرْفَعُ نَمِرَةً عليه ، فقالَ : يا رَسولَ اللَّهِ ، ادْعُ اللَّهَ أنْ يَجْعَلَنِي منهمْ ، قالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ منهمْ .. الله أكبر لقد فاز بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون من السبعين ألف ويا له من فوز .. ثُمَّ قامَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ ، فقالَ : يا رَسولَ اللَّهِ ، ادْعُ اللَّهَ أنْ يَجْعَلَنِي منهمْ ، فقالَ: سَبَقَكَ بها عُكّاشَةُ .. لا يستوي أهل المبادرة وغيرهم .
حين قدم النبي صلى عليه وسلم المدينة تلقاه أحياء الأنصار كلهم يمسك بناقته عسى أن يظفر بالفوز باستضافته عليه الصلاة والسلام.. وجعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول عليهم ، فلما بركت ناقته عند مكان مسجدة ، بادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحله ، فأدخله بيته ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (المرء مع رحله) .. ما اروعها من مبادرة ، وما أعظمه من فوز باستضافة النبي صلى عليه وسلم ..
وموقف آخر من مواقف المبادرة .. يقول جرير بن عبدالله كُنَّا عِنْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ في صَدْرِ النَّهَارِ، قالَ : فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ العَبَاءِ ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ ، عَامَّتُهُمْ مِن مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِن مُضَرَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِما رَأَى بهِمْ مِنَ الفَاقَةِ ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ ، فأمَرَ بلَالًا فأذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقالَ : تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِن دِينَارِهِ ، مِن دِرْهَمِهِ ، مِن ثَوْبِهِ ، مِن صَاعِ بُرِّهِ ، مِن صَاعِ تَمْرِهِ ، حتَّى قالَ ، ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ قالَ : فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ -هكذا المبادرون لا ينتظرون ولا يتأخرون بل يسارعون فحق له أن يميز ويذكر عن كل من كان جالس ومن سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ بصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا ، بَلْ قدْ عَجَزَتْ ، قالَ : ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ - المبادر أولا - ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِن طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ، كَأنَّهُ مُذْهَبَةٌ، - هذا هو المبادر ، وهكذا تكون المبادرة ، فما هي الثمرة والجائزة - فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ : مَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً ، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَن عَمِلَ بهَا بَعْدَهُ ، مِن غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أُجُورِهِمْ شيءٌ .
لقد فاز هذا الرجل الأنصاري المبادر بأجره وأجر من أتى بعده كلهم..
المبادرون قدوة ولفضلهم فهم ينالون أجرهم وأجر من عمل بعملهم.. فما أعظمه من أجر ، وما أثقلها من موازين للمبادرين بالأعمال.
صاحب غصن الشوك الذي نحاه عن الطريق ، لم يأمره أحد بذلك ، ولم تكن وظيفته تنظيف الطريق ، ولكنه الشعور بالمسؤولية ، والمبادرة لكل ما هو نافع ومفيد ، فكانت المكافأة وكانت الجائزة مغفرة من الله ، وجنة عرضها السماوات والأرض .
نسأل الله أن يجعلنا من المبادرين المسابقين المسارعين للخير والطاعة ، وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه ..
الخطبة الثانية ..
أما بعد .. عباد الله .. تعطلت مركبة عند الإشارة في الصباح وفي ذروة الازدحام ، فأخذ من كان خلفه من المركبات بتشغيل أبواق سياراتهم حثا وانزعاجا وتذمرا وصراخا عليه .. وكل من كان حوله فعل ذلك .. إلا رجلا واحدا نزل من سياراته وبدأ بمساعدته .. إنه المبادر .. بمثله تحل المشاكل ، وبمثله ترتقي المجتمعات ، وبمثله نُصلح الأخطاء أو نقللها .
عباد الله .. المبادرة تشمل كل حياة المسلم الدينية والدنيوية ..
المبادرة في كل خير وصلاح وبر ، وأعظمها فرائض الله ، يقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي : ما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أفضل من أداء ما افترضتُ عليْهِ .
فالصلاة في وقتها والمبادرة إليها والتبكير في أدائها مع الجماعة .
المبادرة إلى فعل ما أُمرنا به وترك ما نُهينا عنه يقول صلى الله عليه وسلم (فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عن شيءٍ فَاجْتَنِبُوهُ – اجتناب كامل مباشرة دون تردد أو تأخر -، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عن شيءٍ فَاجْتَنِبُوهُ ، وإذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ) .
ثم المبادرة إلى النوافل والقربات خاصة زمن الفتن ، كما حث النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك (بَادِرُوا بالأعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا) معنى الحديث : سارِعوا بالأعمالِ الصَّالِحةِ قَبلَ الانشِغالِ عَنها بوُقوعِ الفِتَنِ الَّتي تُثبِّطُ العامِلَ عَن عَملِه .
وكذلك المبادرة حين ترى خطأ أو تلفا في الأماكن العامة فلا قيمة للتذمر والشكوى في المجالس بل المبادرة الإيجابية بمخاطبة الجهات المعنية وإبلاغها بالمشكلة ومتابعة حلها .
ومن المبادرات الإيجابية الاقتراحات والأفكار ، ووضع الحلول التي تعالج أو تنمي أو تفيد في المجتمع ، وتنفيذها إن كنت قادرا على ذلك ، أو عرضاه على من يقدر على القيام بها ..
الناسُ لا يَتَفاوَتُون بالقُدُراتِ ولا بالأنسابِ ولا بالأَجْسَامِ ، ولكن بالهِمَمِ والعَزائمِ والإِقْدامِ .
إنَّنا بحاجَةٍ إلى مثْلِ هذه المُبادرَاتِ .. كُلٌّ في مَيْدَانِهِ .. مُبَادَرَاتٌ .. في تَبَنِّي مشاريعِ الخيرِ ، في إقامةِ الأوقافِ ، في الإنفاقِ لنَشْرِ دينِ الله في الأرض .. وفي تَعْليمِ الناسِ ، ودَعْوَتِهِم إلى الله . وفي توعيةِ الشبابِ ، وإقامةِ البرامج التي تَخْدِمُ المجتمعَ ، وتوظيفِ الإعْلامِ لخدمَةِ الدِّينِ .. وغيرِها مِنَ المجَالاتِ التي لا تُحْصَى ، وهي تحتَاجُ إلى مُبادَراتٍ إيجابية ..
كُلُّنا قَادِرٌ على فِعْلِ شيءٍ إيجابيٍّ ومُؤَثِّرٍ.. في مجتمَعِهِ ، أو مَقَرِّ عَمَلِهِ ، أو في حيِّه ، أو عائلتِه أو بَيْتِهِ .
ما مِنَّا أحدٌ ، ألا وأمامَهُ أبوابٌ للخيرِ ، وبينَ يدَيْهِ فُرَصٌ للأجْرِ .. فَبادِرْ ولا تَتأخَّرْ ، واعْزِمْ ولا تَتَردَّدْ ، إنْ لم يكُنْ أنْتَ فَمَنْ ؟! وإنْ لم يَكُنِ الآنَ فَمَتَى ؟!
نسأل الله أن يجعلنا من المبادرين إلى مرضاته السعداء يوم لقائه